بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: أفسر في هذه السطور قوله عز وجل: (قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)[1].
سورة التوبة من آخر ما نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم في السنة التاسعة للهجرة بعد غزوة تبوك، وموضوعها الغالب هو المنافقون الذين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغزوة المذكورة، فنزلت لتفضحهم، وسميت بعدة أسماء منها الفاضحة كما سماها سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وقال “مازال ينزل فيها “ومنهم – ومنهم” حتى ظننا أنه لايبقى أحد إلا ذكر فيها؛ وعن الحسن البصري أنه دعاها الحافرة كأنها حفرت عما في قلوب المنافقين من النفاق وأظهرته للمسلمين.[2]
جاءت هذه الآية بعد قوله تعالى: (وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّوا وَّهُمْ فَرِحُونَ)[3]، تبين هذه الآية نوعا آخر من كيد المنافقين وخبث بواطنهم بحيث إن أصاب المؤمنين حسنة والمقصود بها الظفر في بعض الغزوات أو الغنيمة أو أي مكسب اكتسبه المؤمنون لصالح الدعوة الإسلامية يستاؤوا، وإن أصابتهم مصيبة من نكبة وشدة ومكروه يفرحوا به ويقولوا قد أخذنا الحيطة والحذر وكنا متيقظين وحازمين لَمَّا تخلفنا عن المؤمنين.
ثم يأتي الرد الحاسم الجازم على كل تلك المكائد: “قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون” أي أخبرهم يا محمد (صلى الله عليه وسلم)أنكم تحت مشيئة الله وقدره، وأنه لن يصيب الإنسان خير ولا شر، ولا خوف ولا رجاء، ولا شدة ولا رخاء، إلا وهو مقدر عليه مكتوب عند الله في اللوح المحفوظ، معلوم لله، مقضي به عند الله تعالى.
وهذا دليل-عند أهل السنة-على أن قضاء الله شامل لكل المحدثات، وأن تغير الشيء عما قضى الله به محال.
ويؤكد معنى الآية، قوله صلى الله عليه وسلم: “جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة“، وقوله عليه السلام: “من عَلِمَ سِرَّ الله في القدر هانت عليه المصائب” أي إذا علم الإنسان أن الذي وقع امتنع أن لا يقع، زالت المنازعة وحصل الرضا به.[4]
وهكذا تُرَدُّ المسائل كلها إلى حكمة خالق الكون ومُدبِّرأمره؛ فقد يحدث للإنسان شيء يكرهه مع أنه في حقيقة الأمر لصالحه؛ وفي هذا ورد قوله سبحانه وتعالى: “وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون“[5]
يقول الشيخ الشعراوي رحمه الله: “… فنحن نعلم بإيماننا أن كل ما يصيبنا من الله هو الخير، وأن هناك أحداثاً تتم للتأديب والتهذيب والتربية، لنسير على المنهج الصحيح فلا نخرج عنه، فالإنسان لا يربي إلا من يحب، أما من لا يحب فهو لا يهتم بتربيته، فما بالنا بحب الخالق لنا”.
إلى أن يقول رحمه الله:
“…{هو مولانا وعلى الله فليتوكل المومنون} وما كتب الله للمؤمنين إنما هوفي صالحهم”[6].
والمقصود بالتوكل في الآية هو التوكل بالقلب لا بالجوارح، يقول الشيخ الشعراوي:
“ولكن إياكم أن تنقلوا التوكل من القلوب إلى الجوارح. ولذلك يقال: الجوارح تعمل والقلوب تتوكل. فأنت تحرث الأرض وتضع فيها البذور وترويها، وهذا من عمل الجوارح لابد أن تؤديه، وبعد ذلك تتوكل على الله وتأمل في محصول وفير ينبته الزرع، فلا تأتي آفة أو ظاهرة جوية مثل مطر غزير أو ريح شديدة؛ فتضيع كل ما عملته، وبعد إتقانك لعملك يأتي دعاؤك لله سبحانه وتعالى أن يحفظ لك نتائج عملك”[7].
سورة التوبة الآية 51[1]
ابن عاشور التحرير والتنوير،ج10،ص96.[2]
الآية 50 من سورة التوبة.[3]
.[4]ينظر تفسير الرازي،ج16، ص 87-88-89
[5]البقرة، الآية 214
ينظرتفسير الشعراوي ص5175 إلى 5177 ، وتفسير الرازي،ج16،ص88..[6]
تفسير الشعراوي ص5178.[7]