القصص القرآني وبناء القيم(10): السيدة عائشة رضي الله عنها وحادثة الإفك
حميد حشادي
وردت قصة الإفك في سورة النور المدنية التي تحدثت كثيرا عن حماية المجتمع من كل ما يقوض أركانه ومكوناته الأساسية، ويزعزع بنيانه المتين؛ فنقرأ فيها ما يتعلق الحديث عن قضايا المجتمع المختلفة، وغير ذلك من الأحكام التي تضمنتها هذه السورة، والتي تشكل الحصن الحصين للحفاظ على الأمن في المجتمع، وتحميه من التفسخ والتآكل والزوال،”وهي آداب وأخلاق نفسية وعائلية وجماعية، تنير القلب، وتنير الحياة”[1]، “والهدف واحد في الشدة واللين. هو تربية الضمائر، واستجاشة المشاعر، ورفع المقاييس الأخلاقية للحياة، حتى تشف وترف، وتتصل بنور الله”[2].
نتوقف عند أهم القيم التي وردت في القصة:
.1الصدق:
أنجى الله السيدة عائشة رضي الله عنها بصدقها في الموقف، فقد كانت صادقة في قولها وفي فعلها، وقد كانت تتمنى أن يرى زوجها الكريم رؤيا في منامه تؤكد صدقها، لكن صدقها أنزل فيها آيات تتلى إلى يوم القيامة، تبين عفتها وتبرءها مما لحقها من المنافقين الذي يستغلون كل مناسبة لنشر الفتنة وزعزعة المجتمع بأباطيلهم، وهي التي قالت: ”وأنا والله حينئذ أعلم أني بريئة، وأن الله تعالى مبرئي ببراءتي. ولكن والله ما كنت أظن أن ينزل الله تعالى في شأني وحيا يتلى، ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله تعالى في بأمر يتلى، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله -صلى الله عليه وسلم -في النوم رؤيا يبرئني الله تعالى بها.[3]” فالصدق منجاة من الشر كما قال الشاعر زهير بن أبي سلمى:
وفي الحلم إدهانٌ وفي العفو دربـةٌ******وفي الصدق منجاةٌ من الشر فاصدق[4]
2.حفظ اللسان:
في هذه القصة تتبين أهمية حفظ اللسان من قول السوء، مهما رأينا بساطته، فما بالك بالاتهام بالباطل دون بينة، “نعم كان هذا هو الأولى، أن يظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا، وأن يستبعدوا سقوط أنفسهم في مثل هذه الحمأة، وامرأة نبيهم الطاهرة وأخوهم الصحابي المجاهد هما من أنفسهم، فظن الخير بهما أولى. فإن ما لا يليق بهم لا يليق بزوج رسول الله -صلى الله عليه وسلم-ولا يليق بصاحبه الذي لم يعلم عنه إلا خيرا، كذلك فعل أبو أيوب خالد بن زيد الأنصاري وامرأته -رضي الله عنهما -كما روى الإمام محمد ابن إسحاق: أن أبا أيوب قالت له امرأته أم أيوب: يا أبا أيوب، أما تسمع ما يقول الناس في عائشة رضي الله عنها؟ قال: نعم، وذلك الكذب، أكنت فاعلة ذلك يا أم أيوب؟ قالت: لا والله ما كنت لأفعله. قال: فعائشة والله خير منك”[5]، فهذا سلوك المؤمنين المتقين الذي يحسنون الظن بإخوتهم ويرون الخير في كل مؤمن، وقد وضع الله في سورة النور قاعدتين للتثبت من هذا الأمر:
- عرض الأمر على القلب واستفتاء الضمير وهو الأمر الذي فعله أبو أيوب وزوجه الكريمة الطيبة الحكيمة.
- البينة والدليل من أجل إصدار الحكم هو أربعة شهود حتى لا يتم التواطؤ بينهم على الكذب ويكون هذا سبيل لحفظ الأنفس من انتشار الإشاعات في المجتمع المسلم.
3.تجنب الإشاعة:
من العبر المهمة في القصة هو الابتعاد عن نشر كل ما نسمع وفي الحديث الشريف:” كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع”[6]، فالمؤمن يتثبت من الأخبار التي تصله ولا ينشرها إذا لم تكن هناك فائدة من ذلك، وقد توعد الله عز وجل الذين يحبون أن تشيع الفاحشة بالعذاب الشديد في نفس السورة، قائلا:” إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۚ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ”[7]، وقد صدق ذلك النبي الكريم صلى الله عليه وسلم بقوله:” يا معشرَ من آمنَ بلسانِه ولم يدخلْ الإيمانُ قلبَه ، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتَّبعوا عوراتِهم، فإنه من اتَّبعَ عوراتِهم يتَّبعُ اللهُ عورته ، ومن يتَّبعِ اللهُ عورتَه يفضحُه في بيتِه”[8].
4.الصبر على الأذى:
نرى في هذه القصة القرآنية الكريمة كيف صبرت السيدة العفيفة في هذا الموقف الصعب،”ها هي ذي ترمى في أعز ما تعتز به، ترمى في شرفها، وهي ابنة الصديق الناشئة في العش الطاهر الرفيع. وترمى في أمانتها، وهي زوج محمد بن عبد الله من ذروة بني هاشم، وترمى في وفائها. وهي الحبيبة المدللة القريبة من ذلك القلب الكبير، ثم ترمى في إيمانها. وهي المسلمة الناشئة في حجر الإسلام، من أول يوم تفتحت عيناها فيه على الحياة، وهي زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم”، وقد قدمت درسا في الصبر على الشدائد والمحن رضي الله عنها، فكانت المكافأة خير في الدنيا والآخرة، كذلك جزاء الصابرين في كل زمان.
5.العاقبة خير:
هذا الأمر كان خيرا على مجتمع المدينة آنذاك وعلى الأمة الإسلامية من بعد،“ خير، فهو يكشف عن الكائدين للإسلام في شخص رسول الله -صلى الله عليه وسلم -وأهل بيته، وهو يكشف للجماعة المسلمة عن ضرورة تحريم القذف وأخذ القاذفين بالحد الذي فرضه الله، ويبين مدى الأخطار التي تحدق بالجماعة لو أطلقت فيها الألسنة تقذف المحصنات الغافلات المؤمنات، فهي عندئذ لا تقف عند حد، إنما تمضي صعدا إلى أشرف المقامات، وتتطاول إلى أعلى الهامات، وتعدم الجماعة كل وقاية وكل تحرج وكل حياء.”[9]
في هذه القصة تظهر لنا أهمية حفظ اللسان من الموبقات التي قد تعصف بالمجتمع من جذوره، فالغيبة والنميمة وشهادة الزور والبهتان والكذب كلها من خوارم المروءة، ويتجلى تحذير النبي الكريم لمعاذ بن جبل من اللسان، وذلك لما له من تأثير في المجتمع وحفظ كرامة أهله وصون أعراضه من كل تشهير أو غيره.
[1] سيد قطب، في ظلال القرآن، ج4 ص2484.
[2] نفس المرجع، نفس الصفحة.
[3] نفس المرجع، ج 4 ص 2498.
[4] لسان العرب، ابن منظور، ج 13 الصفحة 162.
[5] نفس المرجع، ج 4 ص 2502.
[6] رواه مسلم.
[7] سورة النور، الآية 19.
[8] أخرجه أبو داوود.
[9] نفس المرجع، ص2501.