– “لا إله إلا الله محمد رسول الله، أيها الناس! لقد جاء الوقت الذي يجب أن تعرفوا فيه كلَّ شيء، وتخرجوا من الغار بعد أن طال نومكم واختفاؤكم، أيها الناس! لا بد أن تصبروا على هذه الرائحة، لقد تعودتم رائحة واحدة، وتعودتم صوتا واحدا وكلاما واحدا، الدنيا ملأى بالأصوات، وها أنا جئت لأقول لكم ما قد تكونوا تعرفونه، ولكنكم لا تجرؤون على الجهر به..
إن منبت الشرّ في هذا الدوّار هو الحاج سلاّم الذي يصبّحكم ويمسّيكم بالجلباب الأبيض ويحدثكم عن ذكريات الحج والعمرة وزيارة المقام، كونوا على يقين أنه إنما ذهب ليدنّسه ويزوّر علينا صورته الحقيقية، واعلموا أن الأراضي الذي يتباهى بها تعودُ لأخته رحمة التي حرمها من الإرث، وللشباب الذين لا يعرفون ما جرى، هي أيضا لأخيه ميلود الذي ضربه البلاء وتاه في الخلاء، الحاج سلام وأفعاله هما السبب في فقدان ميلود عقله وخروجه من الدوار، وهذا الحاج الذي تخافونه وتطمعون في جواره وحماه، هو من يقف خلف ضم العديد من الأراضي إلى ملكيته رغم أنف مالكيها ووارثيهم، وهو من يقف خلف تفويت أرضي الجماعة السلالية للدولة ببضعة دراهم، مقابل أن يثبّتوه علينا حاكما دائما ولو ادّعى رياسة الغنى والوجاهة فقط، أنتم لا تعرفون ما يجمعه بالمقدم من علاقات تصل إلى ما يخجل المرء من الحديث عنه، لم يعد هذا الأمر يخفى على أحد، ولكنه الخوف، نعم، المقدّم يفعل ما يحلو له بنا، بحماية من الحاج سلاّم، وتحت ظلّه وهيبة سلطته”.
كان با الجيلالي لا زال يصرخ ويهدّد ويلعن غير مبال بالطرقات العنيفة على الباب ولا محاولات كسرها لإيقاف بياناته النارية، ضد خصميه اللذوذين، الحاج سلام ومقدم الدوار السي الحبيب، كان تربُّصه اليقظ، ودخوله السريع إلى حجرة الفقيه حيث ميكروفون الأذان، وإغلاق الباب خلفه بإحكام، خطوة ذكية تشبه سيطرة الجيش على مبنى الإذاعة والتلفزيون في المحاولات الانقلابية، وقد اختار اللحظة الحاسمة كي ينفذ خطّته، ويشنّع على خصومه، ويطلق لسانه بما يتوجّس الجميع من التصريح به، ولو في خلواتهم، مخافة البطش والمكر والانتقام الذي قلما يتأخر.
– “أيها الناس! عليكم أن تعرفوا أن مقدم الدوار الذي يظهر عنترياته عليكم، ويجرجر أشجعكم إلى مقر القيادة ليأكل المخازنية جنباته بالعصا، والذي يسارع الجبناء منكم ومن ألفوا الذّل والهوان، أن يعطوه الرشاوى والعطايا سرا وجهرا، هو هامان نفسه الذي يسند الفرعون كي لا يسقط، ولكن تأكدوا أن طمعه سيسقطه، فلا يمكن أن تكون هامان وقارون في نفس الوقت، ألا يظهر لكم السخاء والكرم يا أبناء القردة إلا إزاء هذا الذئب الذي ينهش أرزاقكم، ويكشف عوراتكم ويلعب بمروءاتكم ويمرّغ تاريخ أجدادكم في التراب !؟
هذا الذئب الذي يكشّر عن أنيابه أمامكم ويخيفكم بمكره وسلطته، مجرد خادم وضيع وعبد ذليل عند أسياده، يمسحون به الأرض ويجففون به أحذيتهم.. ألا تعرفون سرَّه؟ ألم تشمّوا رائحة الويل والمنكر في بيته؟ هل تعتقدون أن ابنته التي يدللها عند الكبراء كسلعة رخيصة هي بنته أصلا؟ ستكونون بلداء وبلا عقل إن صدقتموه، فالرجل لا يلد أصلا، والبنت حبلت بها أمُّها من أحدهم بعلمه وصمته وذيوثيته.. تفو عليكم يا أولاد الحرام.. تفو على صمتكم وبلادتكم..”.
با الجيلالي أو سيدي الشريف كما يدلّعه البعض مذكرا إياه بالنسب النبوي الشريف الذي يسري في عروقه، كان رجلا في قمة الشهامة والقوة والشجاعة والصدق أيام شبابه، وكان من النادر أن يتحرش أحد به ولو من باب المزاح حتى لا ينقلب الوضع إلى مأتم، فقد كان الرجل غضوبا سريع مد اليد، تسبقه ضربته القاتلة، ولا يعرف الرحمة إذا ما قرن حاجبيه واحمرّت عيناه من الغيظ، ورغم ذلك فقد كان سهلا هيّنا ليّنا اتجاه الضعفاء والصبيان والنساء، يقتحمون هيبته ويسألون حاجتهم ويطيلون معه الكلام دون أن يبدي أدنى شعور بالانقباض أو الامتعاض، بله الغضب.. لكن الزمن دوّار والأيام لا ثقة فيها..
– “أيها الناس، قولوا عني أحمق ومسكون، قولوا عني طائش وحسود، قولوا ما شئتم، لأن الجبان لا كلام له، والحقير لا كلام معه، والذليل يكفيه ذُلُّه ونتانتُه.. لكن تذكروا جيدا أنني قلتها لكم، وستعرفون يوما أنني عرّيت ما ظللتم تخشون كشفه، وفضحت ما تسترونه بغبائكم وتبررونه بجبنكم.. فإن لم تسمعوني الآن، فانتظروا إلى أن يدخل الماءُ الملوث إلى بيوتكم ويفيضُ عليكم من كل جانب، وحينها ابحثوا عن آباءِ أبنائكم الحقيقيين، وأعدّوا بناتكم لأولاد الحرام من كل حدب وصوب، وانتظروا ظهور قوم لوط وسيطرتهم على مفاصل حياتكم، ولا تستغربوا أن يحكمكم العُهر في آخر أيامكم.. تفو عليكم يا منبت الجهل والجبن والموت.. سئمت منكم ومن سحنات الفسولة والذيوثية في وجوهكم، إننا نلوث هذه الأرض وندنس هذا الهواء ونعتدي على هذا الوجود الرباني.. أنتم ملعونون وسيحلّ بكم الغضب الأكبر عما قريب، أنتم ملعونون وأنا ملعون بكم يا قبيلة اللعنة..”.
جاء الوقت الذي خانت فيه بّا الجيلالي صحّتُه، وخارت قواه، وصار لا يستطيع السير إلا مستندا على عكازة زيتون اقتُلعت لهذا الغرض، وزاد من حدة الانحدار والاندحار ذهاب بصره بنسبة كبيرة، حتى صار لا يأتي المسجد إلا برفقة، ولاحظ بّا الجيلالي أن لسانَه صار دَربا مهدارًا كثير الكلام، ربما هو ميزان لا يحب التطفيف، كلما قلّ الفعل كَثُر الكلام، ومع ذلك، فهو يحرص أن يقول الحقَّ ولو كان ما كان، دون وجل من أحد، والكل يعرف قصته الشهيرة مع القائد أيام الاستعمار، حيث تم اعتقاله بتهمة التحريض ضد المستعمر، وكان أن صفعه القائد صفعة قوية، فلم تتوقف يد القائد إلا وصفعة با الجيلالي تحط بنفس العنف أو أكثر على حَنَك القائد حتى سقط أرضا، شتّان بين يدِ فلاحٍ خشنة، وبين يد قائد منغمس في النعم، فوقف القائد مذهولا وأمر المخازنية بالهجوم على الرجل، لكنّه رغم يقينه في هلاكه قاومهم بشجاعة، وتبادل معهم الضرب والرفس واللكم والعضّ حتى خارت قواه وأغمي عليه، إلى أن وجد نفسه مرميا في السجن، فلم يلبث أن امتنع عن الطعام أياما عديدة، رغم تعذيبهم وإصرارهم، كل ذلك وهو لا يعرف معنى الإضراب عن الطعام، سوى أنّ نفسه الأبيّة لم ترضَ تناول طعام الذل والخضوع والاستكانة، فسلّموا بمنطقه، وخففوا عنه الإجراءات، إلى أن خرج من السجن، وعاد إلى الدوّار، وما باليد حيلة، فكلما رأى ظلما أو غطرسة، تمنى لو كان صِحَّتُهُ تُسْعِفُهُ ويتبعُه الناس ليوقف الشّطط ويردَّ الغيَّ ويقيمَ الميزان، ورغم ذلك لم يستسلم، ظل طوال حياته سوطا على كل مارق عن الحق، وشوكة في حلق كل منافق، ومِفْضَحَةً شنيعة لكل غشّاش أثيم أو عتلّ زنيم..
با الجيلالي، حينما تأكد أنهم كسروا الباب، ويوشكون على الدخول وإيقاف تشنيعه، نادى على الناس بصوت منذر:
– أيها الناس، لقد قلت كلمتي، وسمعتم شكايتي، افضحوا اللعبة، وحطموا الأصنام كي تعيشوا بسلام، وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.
أنهى كلامه، فأخذه بعضُ أبنائه وهم غارقون في خجلهم من الناس وغضبهم وسخريتهم وتحسّرهم، وجرّوه خارج المسجد، والناس متحلّقون ومُحَوْقِلونَ باستغراب وحسرة:
– شافاه الله وعافاه، لا تَدَعُوهُ يخرجُ من البيت حتى لا يؤذي نفسه، الخَرَفُ يذهَبُ بالعقل.
وفي أطراف المسجد، كان بضعة شُبّان يتهامسون مسرورين بما حدث، وينتابهم شعور بأن شيئا ما تغيّر، وأن با الجيلالي روى غليلهم وداعب آمالهم الدفينة، وفجّر ما تسكت عنه القبيلة منذ العهود الغابرة، وأعجبهم كثيرا أنه لا يخاف أحدا ويقول ما يشاء، إنه رجل حر.
———————–