بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد،
يقول الحق سبحانه وتعالى في سورة الصف: (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ)[1].

“جاءت هذه الآية بعد معاتبة سيدنا موسى قومه الذين كانوا يؤذونه مع يقينهم أنه رسول الله إليهم وأن ما جاء به هو من عند الحق عز وجل. وإيذاء بني إسرائيل لموسى عليه السلام-وهو منقذهم من فرعون وملئه، ورسولهم وقائدهم ومعلمهم- إيذاء متطاول متعدد الألوان، وجهاده في تقويم اعوجاجهم جهاد مضن شاق. وقد ذكر القرآن الكريم صورا شتى من ذلك الإيذاء والعناء”.[2]
وجاءت هذه الآية لضرب المثل لطائفة من المؤمنين الذين يقولون ما لا يفعلون حيث ذكرهم الله سبحانه وتعالى بقوم موسى عليه السلام الذين آذوه بتعنتهم وعصيانهم ومالوا عن الجادة، فعاقبهم بعد زيغهم فقال سبحانه:) فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ(، أي بعد ما بُذِلت لهم كل أسباب الاستقامة زاغوا عنها وعدلوا عن اتباع الحق مع علمهم به وأصروا على ذلك، أزاغ الله قلوبهم، أي صرف الله قلوبهم عن الهدى وطبع عليها وأسكنها الحيرة والشك جزاء لما دنسوا به أنفسهم من الذنوب والآثام ومخالفة أوامر رسولهم وانهماكهم في المعاصي والطغيان، فران على قلوبهم وطُمِس على أعينهم؛ ثم أكد سبحانه إزاغته لقلوبهم وبين علتها بقوله: “والله لا يهدي القوم الفاسقين” أي لا يوفق لإصابة الحق من اختار الكفر ونبذ طاعة الله ورسوله بما يرين على قلبه من الضلالة فيحرمه النظر إلى الأدلة التي نصبت في الكون وجعلت منارا للعقول وشفاء للصدور. وفي ضرب هذا المثل عبرة للمؤمنين وتنبيه لهم وتحذير من أن يؤدي بهم العصيان وقول الباطل إلى مثل حال بني إسرائيل وزيغهم، عافانا الله.[3]
والزيغ هو الميل والعدول عن الشيء، ومنه قوله تعالى: ﴿ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ﴾.[4]
وتفيد الآية الكريمة أن إضلال الله للعبد ليس ظلما منه ولا حجة له عليه، وإنما ذلك يرجع إلى اختيار العبد الميل وتفضيله الانحراف عن الهدى بعد معرفته، فيكون جزاء ذلك، الإضلالَ والزيغَ الذي لا يمكن دفعه.
وكل من الزيغ والهداية أسندهما الله عز وجل إلى القلب، وذلك بقوله فيما يتعلق بالزيغ: “أزاغ الله قلوبهم“، وفيما يخص الهدى: {وَمَن يُؤْمِن بالله يَهْدِ قَلْبَهُ{[5][6]
فالقلب، وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، هو أصل الصلاح والفساد: “…ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب“[7]؛ كما أن القلوب بيد الحق عز وجل كما بَيَّن ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: “إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء“[8]، وكان صلى الله عليه وسلم يقول: “اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك“[9].
وكثرة الدعاء -وهو مخ العبادة- تعين على صلاح القلب وحفظه من الزيغ، ولهذا علمنا سبحانه اللجوء إليه، والتضرع إليه بكثرة الدعاء، مبينا لنا دعاء أولياءه الراسخين في العلم بقوله مخبرا عنهم في الآية المذكورة آنفا: ﴿ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ﴾.[10]
وختاما، أشير إلى أنه مما يعد زيغا من الزيغ وتنكبا عن طريق الحق والهداية، التشبث بالمظاهر والقلوب فارغة من الإيمان حتى ولو كان هذا الظاهر دينا من الدين وشرعا من شرع الله، ومثله امتلاء القلوب إيمانا وتعطيل الحكم بما أنزل الله والرضى به. يقول الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله، محذرا من هذا النوع من الزيغ: ” فإن ذهب الإيمان وبقي النظام الإسلامي فذلك الزيغ، وإن كان في القلوب إيمان وتعطل الحكم بما أنزل الله في ميادين الاقتصاد والاجتماع والسياسة فهو أيضا الزيغ”[11].
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
[1]سورة الصف، جزء من الآية 5.
[2] سيد قطب، في ظلال القرآن،ج6، ص3554،
ينظر تفسير المراغي،ح28،ص83-84، وتفسير ابن عطية،ج5،ص302.[3]
[4] ابن منظور لسان العرب ج8، ص432
[5] التغابن، الآية 11.
ينظر أضواء البيان للشنقطي، ج8، ص179- 180.[6]
[7] صحيح البخاري، كتاب الإيمان، ح رقم 52.
[8] صحيح مسلم، كتاب القدر، ج16 ص204.
نفس المرجع، ونفس الصفحة.[9]
[10] آل عمران، الآية 8
[11] القرآن والنبوة ص.91