الهمة في اللعة “العزم القوي” وهي “قوة راسخة في النفس طالبة لمعالي الأمور”، ولا تستعمل إلا في الفعل المراد به العمل، فالهمة إذن مطلب سامق، ومبتغى كل حاذق.
همة هذه المقالة أن تستحث مكامن العزة في نفسك ـ أيها القارئ الكريم ـ كي تكتسب بعض الهمة، وتملح طعام روحك بثمرات عقول العلماء العاملين، مصابيح الهدى والنور، إنهم ملح الأمة الذي بدونه يكون طعام العقل والوجدان بلا مذاق.
كانت هممهم تتوجه إلى المعالي، وتنشد الضالة التي وجدوها كاملة صافية في كتاب الله (الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد) هذا شيخ الإسلام ابن تيمية يرجع إلى نفسه في لحظة صفاء وهو في آخر أيام حياته بالسجن الذي سيموت فيه، فيقول: “فتح الله علي في هذه المدة من معاني القرآن وأصول العلم بأشياء كان كثير من العلماء يتمنونها وندمت على تضييع أكثر أوقاتي في غير معاني القرآن”[1] هذه الحقيقة أدركها العلامة القرطبي الذي صحب القرآن صحبة لصيقة أثمرت تفسيره الرائع “الجامع لأحكام القرآن، وهو يصرح بهذه الحقيقة في مقدمته “رأيت أن أشتغل به ـ أي بالقرآن ـ مدى عمري وأستفرغ فيه منتي”[2].
وهذا ابن رشد الجد يقول في مسائله نقلا عن ابن عمر رضي الله عنهما “يقال الناس عقولا قرأت القرآن” وعن عطاء بن يسار قال: “بلغني أن حملة القرآن عرفاء أهل الجنة”[3]. وهم الشهود على الناس في الدنيا، لنستمع إلى بديع الزمان النورسي متباهيا بتأييد الله له للزومه القرآن فهما وعملا وهو يحاج أنصار اللائكية بتركيا: “إن كان خوفكم من مسلكي وعن قوتي المعنوية الإيمانية وعن كوني دلالا للقرآن، ألا فلكم النبأ أني في قوة خمسين مليونا باعتبار المسلك. إذ أتحدى بقوة القرآن الحكيم جميع أوربا وفيها الملحدون”[4]، ويقول رحمه الله في يقين لا يضعف وفي ثبات لا يلين: “إن كان لأهل الدنيا حكم وشوكة وقوة، فإن خادم القرآن فيضه، علمه الذي لا يخطئ وكلامه الذي لا يسكت، وقلبه الذي لا ينخدع، ونوره الذي لا ينطفئ”[5]. كيف لا وأدب القرآن “هو أدب الحياة المناضلة بشرف، البناءة بسمو، المكافحة بتفاؤل، المدافعة ببأس، المهاجمة بحق، المتعاملة بحب، المتعاونة بوفاء، المرحة بوقار، المتنعمة باعتدال، العزيزة بتواضع، القوية برحمة، العاملة بقناعة، المترئسة بشورى، المرؤوسة بيقظة، الحاكمة بحزم، المسالمة بحذر، المتحضرة بخلق، المتعبدة بعلم، الماشية على الأرض ونظرها إلى السماء، السائرة في الدنيا نحو العلاء، وفي الآخرة نحو البقاء، فأي أدب في آداب الأمم يهدف هذه الأهداف، وأي جيل في العالم أكرم من جيل يتخلق بهذه الآداب؟”[6].
لقد كانت هذه المعاني ـ كلها ـ حاضرة بكل قوة في العهد النبوي، فتسارع الصحابة إلى كتاب الله وفهمه والعمل به، وكانوا يتهيبون نسيان جزء منه، بله نسيانه، فقد روى عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “بئسما لأحدكم أن يقول نسيت آية كيت وكيت، بل هو أنسيها”[7]، “استذكروا القرآن فإنه أسرع تفلتا من قلوب الرجال من الإبل في عقلها”[8]، قال الله عز وجل: (من أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا، ونحشره يوم القيامة أعمى، قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا، قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى)[9]. قال ابن كثير معناه أعمى عن الحجة “وليس المراد بالنسيان المذكور في الآية تفلت حفظ القرآن عن الصدور، وإنما معناه ترك العمل بما فيه… أو ترك الإيمان به”[10].
قارئ هذه المقالة الفاضل،
إنني إذ أدعوك إلى
مائدة القرآن الكريم لا أنسى أن أنبئك الخبر اليقين بأن البداية همة صادقة وإرادة
لا تلين، وصبر لا يستكين، لكن قبل ذلك وأثناءه وبعده توفيق من إياه نعبد وإياه
نستعين. فهل تقف معي على الأعتاب، عساه يفتح لي ولك الباب. أرجو ذلك والله الموفق.
[1] . محمد يوسف، ابن تيمية، ص 140
[2] . مقدمة الجامع لأحكام القرآن.
[3] . مسائل ابن رشد الجد، ج1 ص 689.
[4] . مجموعة مكتوبات من رسائل النور للنورسي، ص 120.
[5] . نفسه ص 120.
[6] . هكذا علمتني الحياة لمصطفى السباعي، ص156.
[7] . قال بن رشد وذلك استحباب لا إيجاب بدليل قوله تعالى: (لا تؤاخذني بما نسيت) الكهف 73.
[8] . أخرجه البخاري في صحيحه.
[9] . سورة طه، 124.
[10] . ابن رشد في مسائله ص
639.
[i] . نشرت هذه المقالة بمجلة منار الهدى، العدد الأول، فبراير 2002