منار الإسلام
موقع تربوي تعليمي أكاديمي

البُعْدُ الصُّورِيُّ وَالمَنْطِقِيُّ فِي النَّحْوِ العَرَبِيّ.

0

لَعَلَّ المتتبع لِأَخْبَارِ النحاة وَمُنَاظَرَاتهِمْ يَقِفُ عِنْدَ نِقَاشٍ مُهِمّ غَالِبًا مَا كَانَ يَجْمَعُ النَّحْوِيّ بِالمَنْطِقِيّ, فَيُدَافِعُ كُلُّ مِنْهُمَا عَلَى اِتِّجَاهِهِ وَتَخَصُّصُهِ, وَلَعَلَّ هَذَا كَذَلِكَ يَدْفَعُ أَحَدُنَا إِلَى القَوْلِ بِأَنَّ النحاة كَانُوا يَتَهَرَّبُونَ مِنْ المَنْطِقِ وَيَرْفُضُونَهُ رَفْضًا, وَهَذِهِ الحَقِيقَةُ أَجَابَ عَنْهَا أَبُو سَعِيد السّيرافي بقولهِ: “وَإِنَّمَا الخِلَافُ بَيْنَ اللَّفْظِ وَالمَعْنَى, أَنَّ اللَّفْظَ طَبِيعِيٌّ وَالمَعْنى عَقْلِيٌّ, وَلِهَذَا كَانَ اللَّفْظُ بَائِدًا عَلَى الزَّمَانِ يَقْفُو أَثَرَ الطَّبِيعَةِ بِأَثَرٍ آخَرَ مِنْ الطَّبِيعَةِ”, فَبِيَّن بِذَلِكَ أَنَّ المَعْنَى عَقْلِيٌّ, وَهَذِهِ الحَقِيقَةُ سَوْفَ يَنْتَبِهُ لَهَا البَاحِثُ كَذَلِكَ فِي نَظَرِيَّةِ العَامِلِ, إِذْ العَوَامِلُ المَعْنَوِيَّة عَوَامِلٌ عَقْلِيَّةٌ بِاِمْتِيَاز…

وَجَدِيرٌ بِالذِّكْرِ أَنَّ عَبْده الرَّاجْحِي قَامَ بِالعَوْدَةِ إِلَى النَّحْوِ الأرسطي وَدِرَاسَتهِ وَمُقَارَنَتهِ بِالنَّحْوِ العَرَبِيِّ فِي بِدَايَاتِهِ مُرَكّزَا عَلَى مَجْمُوعَةٍ مِنْ القَضَايَا مِنْهَا: التَّعْرِيفُ وَالتَّعْلِيلُ, لِيَخْلُصَ فِي النِّهَايَةِ إِلَى أَنَّ النَّحْوَ العَرَبِيَّ كَانَ عَقْلِيًّا دُونَ أَنْ يَتَأَثَّرَ بِالمَنْطِقِ الأرسطي كَمَا يَدَّعِي كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ. مُبْتَدِئًا بِسِيبَوَيْه فِي الكِتَابِ ثُمَّ المُبْرِّد بَعَّدَهُ وُصُولًا إِلَى الزّجَاجِيِّ, ثُمَّ أَشَارَ إِلَى أَنَّ النَّحْوَ الأرسطي لَمْ يُسَيْطِرْ عَلَى النَّحْوِ العَرَبِي إِلَّا فِي القَرْنِ الرَّابِعِ خَاصَّةً مَعَ الزمخشري فِي المُفَصّلِ وَفِي شَرْحِهِ لِاِبْنٍ يَعِيش فِي القَرْنِ السَّابِع الهِجْرِي.

وَمِنْ الأَدِلَّةِ الدَّالَّة عَلَى هَذِهِ الحَقِيقَةِ كَذَلِكَ – حَسَبَ عَبْدُ الرَّاجْحِي – ذَلِكَ النَّقْدُ الَّذِي وَجَّهَتْهُ اللّسانيَاتُ الوصفِيَّة لِلنَّحْوِ التَّقْلِيدِيِّ وَمِنه النَّحْوِ العَرَبِي, قَالَ عَبْدُ الرَّاجْحِي: “كَانَ الوصفيون يَنْتَقِدُونَ النَّحْوَ التَّقْلِيدِيَّ بِأَنَّهُ صَادِرٌ عَنْ تَصَوُّرَاتٍ عَقْلِيَّة وَبِخَاصَّةٍ فِي إِطَارِهَا الأرسطي, أَمَّا تشومسكي فَقَدْ رَأْيِنَا أَنَّهُ يَرْبطُ اللُّغَةَ بِالعَقْلِ (…), مِنْ هُنَا كَانَتْ دَعْوَتُهِ فِي صَدْرِ هَذِهِ الدِّرَاسَةِ إِلَى ضَرُورَةِ العَوْدَةِ إِلَى مَنَاهِجِ النَّحْوِ القَدِيمَة, وَقَدْ أَشَارَ فِي ذَلِكَ إِلَى جُهُودِ العَرَبِ القُدَمَاءِ, لِأَنَّ هَذِهِ المَنَاهِج كَانَتْ أَقْرَبَ إِلَى الإِنْسَانُ” فَالمَنْهَجُ الوصفِيُّ اِنْتَقَدَ الأَنْحَاءَ القَدِيمَةَ لِاِعْتِمَادِهَا عَلَى الأَبْعَادِ المَنْطِقِيَّة الصُّورِيَّة، “غَيْرَ أَنَّ هَذَا المَنْهَج الوصفِيّ مَا لِبَثَ أَنْ تَغَيّرَ تَغَيُّرًا أَسَاسِيًّا فِي السَّنَوَاتِ القَلِيلَة المَاضِيَة, حَيْثُ عَادَ اللُّغَوِيُّونَ إِلَى اِعْتِبَار” العَقْلِ “مصدرًا مِنْ مَصَادِرِ الدَّرْسِ اللُّغَوِيِّ, وَظَهَرَ مَنْهَجَ جَدِيدٌ مَا يَزَالُ يَتَطَوَّرُ كُلَّ يَوْمٍ وَهُوَ مَا يُعْرَفُ الآنَ بِالمَنْهَجِ التَّحْوِيلِيِّ”، لِذَلِكَ فَإِنَّ المَنْهَجَ التَّحْوِيلِيَّ فِي إِطَارِ اللّسانيَاتِ التوليدية حَاوَلَ أَنْ يُعِيدَ الدَّرْسَ اللُّغَوِيَّ إِلَى المَرْحَلَةِ مَا قَبْلَ الوصفِيَّةِ, حَيْثُ كَانَ مَبْنَيَا عَلَى أُسُسٍ عَقْلِيَّة وَصُورِيَّة, وَهِيَ أُسُسٌ كَانَ النَّحْوُ العَرَبِيُّ بِدَوْرِهِ مَبْنِيّ عَلَيْهَا, وَاللّسانيَاتُ التوليدية عند تشومسكي كَانَتْ أَقْرَبَ إِلَى النَّحْوِ العَرَبِيّ لِاِتِّفَاقِهِمَا مَعًا فِي الأَصْلِ العَقْلِيّ, وَهُوَ مَا كَانَ يُسَمّي فِي النَّحْوِ العَرَبِي بِالاِفْتِرَاضَاتِ وَالتَّقْدِيرَاتِ, وَيُمْكِنُ أَنْ يَفْهَمَ اليَوْمَ فِي سِيَاقِ نَظَرِيَّةٍ عَامَّةٍ تَسْتَهْدِفُ فَهْمُ طَبِيعَةِ اللُّغَةِ بِاِعْتِبَارِهَا قُدْرَة إِنْسَانِيَّة، وَهَذِهِ حَقِيقَةٌ لَمْ يَسْتَوْعِبْهَا كَثِير مِمَّنْ يَعِيبُونَ طَرِيقَةَ تَحْلِيلِ النحاة وَتَعَامُلهمْ مَعَ قَضَايَا النَّحْوِ العَرَبِي.

تَوَصَّلَ الرَّاجْحِي فِي دِرَاسَتِهِ لِلبُعْدِ الوصفِيِّ وَالتَّحْوِيلِيِّ فِي النَّحْوِ العَرَبِيّ إِلَى قَوْلِهِ: “إِنَّ النَّحْوَ العَرَبِيَّ كَانَ صُورَةً صَحِيحَة لِلمنَاخِ العَامِّ فِي الحَيَاةِ الإِسْلَامِيَّة وَبِخَاصَّةٍ فِي مَرَاحِلِ النَّشْأَةِ, وَأَنَّ هَذَا المنَاخُ قَدْ زَوَّدَهُ بِالاِتِّجَاهِ النَّقْلِيِّ الَّذِي أَفْضَى إِلَى اِتِّجَاهِ وَصَفِيّ وَاضِح. وَزَوَّدَهُ أَيْضًا بِالاِتِّجَاهِ العَقْلِيِّ الَّذِي أَدَّى بِهِ إِلَى عَدَمِ الوُقُوفِ عِنْدَ الوَصْفِ المَحْض, وَإِنَّمَا تعَدَّاهُ إِلَى تَفْسِيرِ ظَوَاهِر العَرَبِيَّة تَفْسِيرًا عَقْلِيًّا, وَالَّذِي لَا شَكَّ فِيه أَنَّ النَّحْوَ العَرَبِيَّ, بِاِمْتِلَاكِهِ هَاذَيْنِ الاِتِّجَاهَيْنِ اِسْتَطَاعَ أَنْ يُثَبِّتَ صَلَاحِيَّةً لَا تُنْكرُ فِي فَهْمِ طَبِيعَةٍ العَرَبِيَّة”, كَمَا تَوَصَّلَ كَذَلِكَ إِلَى أَنَّ النَّحْوَ العَرَبِيَّ يَغْلِبُ عَلَيْهِ الطَّابِعُ التَّحْوِيلِيُّ أَكْثَرُ مِنْ الطَّابِعِ الوصفِيّ.

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.