منار الإسلام
موقع تربوي تعليمي أكاديمي

الاستعمار الغربي ونتائجه (9) فقهاء المنابر والوظيفة الغائبة

عبد الفتاح باوسار

0

الاستعمار الغربي ونتائجه (9) فقهاء المنابر والوظيفة الغائبة

بقلم: عبد الفتاح باوسار

 

فقهاء المنابر والوظيفة الغائبة

بين علماء الدين ورجال الدين(2) فقهاء المنابر والوظيفة الغائبة

الانكسار التاريخي “الحدث” (3) فقهاء المنابر والوظيفة الغائبة

الانكسار التاريخي”النتائج”(4) فقهاء المنابر و الوظيفة الغائبة

الانكسار التاريخي: “باب الفتنة”(5) فقهاء المنابر والوظيفة الغائبة

مقدمات الوصال النكد بين “الفقهاء” والحكام(6) فقهاء المنابر و الوظيفة الغائبة

الفقهاء بين تهمة الفتنة وقانون الطاعة (7)فقهاء المنابر والوظيفة المغيبة

الآداب السلطانية (8) فقهاء المنابر والوظيفة الغائبة

 

لا نجانب الصواب إذا قلنا إن احتلال الأراضي ودخول العساكر أماكن عديدة من مساحة الإمبراطورية الإسلامية، كان آخر فصل في تطويع الشعوب العربية الإسلامية، فقد تآكلت الإمبراطورية العثمانية بعدما أصبح أمرها مَزْقا بين أبناء الأمير الغالب بالسيف هنا وهناك، المتنازعون في إرث البلاد والعباد، حتى وصل بهم الأمر إلى التآمر مع ملوك العدو ضدا على بعضهم البعض.

كان “جسم الأمة قبل الصدمة الاستعمارية كيانا رخوا رثا باليا ضعيفا. كانت قابلية الاستعمار كما كان يقول مالك بن نبي رحمه الله، تنادي بحالها من يملئ فراغ الضعف بالقوة”43 ، ففارق الإمكانيات العسكرية والتنظيمية، أصبح بارزا جدا، بعدما حولت الثورة العلمية، التي عاشتها أوروبا خلال القرنين السابع والثامن عشر، بلدانها ليس فقط إلى قوة عسكرية رادعة، بل أيضا محط انبهار، وولع من كل من زارها أو اطلع على أحوال العلم والصناعة والمجتمع … بها.
في الوقت نفسه عملت المدارس الحديثة المستوردة، والتي انتشرت في الوطن العربي، المخرجة للمتخصصين في العلوم العصرية المؤهلين لشغل المناصب المهمة في الدولة، وكذا لولوج سوق الشغل، عملت، من جهة، على تشكيل ما يشبه العائق الاجتماعي أمام خريجي المدارس العتيقة والجامعات الاسلامية، الذين أصبح صراع لقمة العيش لديهم أكثر ضغطا وأولوية. ثم على انتاج أجيال مغربة اللسان والفكر والقيم والثقافة، ستصبح وحتى بعدما سمي استقلالا أحد أطراف معادلة الدين والسياسة التي سيواجهها الفقيه والفقه الإسلامي.

أما إبان فترة الاستعمار، وبعد صدمة شساعة فارق الإمكانيات هذه، وكذا الهزائم المتتالية التي عرفتها مناطق النفوذ الإسلامي، فقد ظهرت مجموعة من المحاولات لرأب الصدع الغائر في جسم الأمة على كل المستويات، وذلك في شكل حركات ثقافية أو سياسية تهدف تنظيم، عملية مقاومة المستعمر، وتجاوز التخلف الجاثم في كل ميدان من الميادين. بهدف تجاوز أزمة الهوية التي باتت تزداد حدة يوما بعد آخر.

هذا الواقع الجديد سيجعل طليعة المجتمع الإسلامي، والعربي الإسلامي على وجه الخصوص، ثلاثة أصناف: صنف بات لا يؤمن إلا بالغرب و”حداثة” الغرب وفلسفة الغرب، ويدعوا إلى تبني كل ما هو غربي المنشأ، والتخلي عن كل ما هو غير ذلك ولو كان دينه الذي يؤمن به، هذا الإيمان الذي أصبح يراه من أسباب التخلف والهوان، أو على الأقل أفكار وقيم وحضارة أجداد، تبقى من رموز الزمن الغابر، نعم، لكنها لا تصلح إلا للمتاحف ولو كانت وحيا منزلا.
قال الأديب طه حسين يلخص مذهب هذا الصنف: “علينا أن نصبح أوروبيين في كل شيء، قابلين ما في ذلك من حسنات وسيئات”.

في الوقت الذي باشر فيه الصنف الثاني، وهم أناس اختاروا منزلة ما بين المنزلتين: فلا هم قالوا بوجوب التخلي النهائي عن الدين والقرآن والسنة، ولا هم استطاعوا الإفلات من بريق المد الغربي الجارف، باشروا، “تنقية” الفقه، بل وحديث النبي صلى الله عليه وسلم وكتاب الله تعالى من كل ما اعتبروه لا يوافق العلم والعقل (العلم والعقل بالمفهوم الغربي طبعا) إذ باتت ثنائية العقل، والإيمان والغيب، على طرفي نقيض.

لقد بات البحث حثيثا والحالة هذه فيما أنتجته الحضارة والفكر الإسلاميين عما يوافق عقلانية الفيلسوف الفرنسي كنت أو مثالية هيكل أو حتى مادية ماركس… لتصبح حضارة الإسلام والمسلمين، بهذا المنطق، لا تعدو أقوال فرقة المعتزلة أو مباحث الطبيب الرازي أو تفسيرات الفرابي وبعده العلامة ابن رشد لمقالات أفلاطون وأرسطو الفلسفية…أما العلامة ابن خلدون فقد اعتبر أول من “بحث في حقيقة التاريخ ليجعل منها موضوعا لعلم”44
بل لقد أصبح البحث حثيثا عن اشتراكية النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وتأكيد القرآن لنظرية فلان أو علان… استيلاب ما بعده استيلاب.

أما الصنف الثالث فهم خريجو إحدى الجامعات الإسلامية أو ما تبقي من مدارس عتيقة، وقد عملت أيادي المستعمر على تثبيت ما قام به الحكام قبله من تقنين المواد المدرسة بها خوفا من العصيان/الثورة، (خاصة المدارس العتيقة)، وكمثال على ذلك نص الظهير الصادر عن المولى محمد بن عبد الله (1757-1790) الذي يقول فيه “ومن أراد أن يخوض في علم الكلام والمنطق وعلوم الفلسفة وكتب غلاة الصوفية، وكتب القصص، فليتعاطى ذلك في داره… ومن تعاط ما ذكرناه في المساجد، ونالته عقوبة فلا يلومن إلا نفسه” 45، والمقصود هنا منع تداول مثل هذه المواد في المدارس التقليدية بربوع الدولة المغربية.
في هذا الوضع بدا ضروريا لدى خرجي الجامعات الاسلامية المشهورة [ الأزهر، الزيتونة، القرويين …] وكذا المدارس العتيقة المنتشرة في قرى الأقطار العربية الاسلامية استنفار الجهد للدفاع ليس فقط عن الخطر الخارجي المتمثل في الاستعمار وأفكار وقيم أهله، بل أيضا محاولة تجديد الفهم الاسلامي لقضيا عديدة من مثل السياسة والحكم والمرأة …

في هذا السياق بدأت تظهر أولى الحركات الاصلاحية الاسلامية، (الحركة السلفية) التي ستعكس بجلاء، ليس فقط الأزمة الداخلية التي كان عليها الفقه خاصة في علاقته بالسياسة والسياسيين، بل أيضا علاقة الفقيه بتحولات المجتمع، ومدى استيعابه لمكنزمات وأسس التجديد ، المتضمنة في كتاب الله وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، الشيء الذي عبر عنه البعض بثنائية السياسة والاصلاح الديني في الفكر السلفي الإسلامي الحديث.
الشيء الذي عكس فيما بعد التصنيفات التي حاولت تأطير ما عرف بحركات الاسلام السياسي، انطلاقا من جمال الدين الأفغاني (1739-1897) ومحمد عبده (1849-1905) وحركتهما السلفية التي بدأت باتفاقهما حول العمل السياسي النضالي سواء ضد الاستعمار الأجنبي أو الاستبداد الداخلي للحكام” كآلية للنهوض بالأمة الإسلامية، لكنها ستنتهي بتبني وتغليب الثاني، أي محمد عبده، الإصلاح على العمل السياسي، وذلك من خلال “الاهتمام بالتربية والتعليم والتنوير والقضاء على الأمية لأن الأمة تعاني من الأمية وقلة المتعلمين. وبدون نشر التربية والتعليم لا يمكن تحقيق الاصلاح السياسي”46.
وقد تلا هذين المفكرين الاسلاميين مفكرين آخرين أبرزت تصوراتهم، كما أسلفنا، الجدال القائم حول أحقية الفقيه والمثقف الاسلامي والاسلام بشكل عام في قيادة دفة السياسة والعمل السياسي، فيما يتعلق بالنقاش الخارجي مع الآخر أولا. ثم الآليات المناسبة لتغيير حال الأمة والنهوض بها مرة أخرى، فيما يتعلق بالنقاش الداخلي الدائر بين هذه الحركات نفسها، من جهة ثانية، مما حدى بالباحثين إلى وضع مجموعة من التصنيفات لهذه الحركات من مثل: دعوية وسياسية وجهادية، أو متطرفة ومعتدلة …

ومن أبرز هؤلاء المفكريين الاسلاميين:

نجد الشيخ رشيد رضا، والشيخ حسن البنا والسيد قطب في المشرق العربي، ثم حسن الترابي وابن باديس والغنوشي وعبد السلام ياسين في المغرب العربي، والسودان.

لقد كان تاريخ وصورة التقدم التكنولوجي الغربي وما كان يستتبعه من فكر وفلسفة وثورة على رجال الكنيسة والدين، ترخي بظلالها على التمثل الذي لم يكن يحمله مثقفي المجتمع الاسلامي فقط بل حتى بسطاءه، اتجاه المشاريع التي تحملها هذه الحركات مما جعل تجاوز وضع الأزمة التي بات فيها الفقيه قبل القرنين الثامن والتاسع عشر المتمثلة أساسا في المكانة والاعتبار الذي كان له مقابل مكانة الامير الحاكم، ليصبح الأمر الآن يرتبط بمكانته ومكانة الدين في المجتمع الاسلامي عموما.

فإذا كانت مكانة الفقيه (خاصة المعارض) خلال قرون ما قبل الاستعمار تحتم على “أولي الأمر” التعامل معه ولو كان ذلك من خلال استمالته وإغرائه، أو حتى التنكيل به، أما بعد الاستعمار وما وصله بعض شرائح المجتمع ورواده من تشكيك في الدين والقرآن والحديث والنبي صلى الله عليه وسلم، فقد بات كما مهملا، يصارع البقاء داخل مساجد فقدت كل مقومات المؤسسة الحاضنة والمخرجة لطليعة المجتمع المسلم، أو في أحسن الأحوال، موظف في إحدى المجالات التي تتطلب هذا النوع من التكوين، يتقاضى راتبا شهريا يكفيه قوت يومه وكفى.
هذا، ومع توالي سنوات “الاستقلال” لم تبقى الصفة الوظيفية “لحملة” إرث الأنبياء جميعا، حكرا على المناصب الحكومية، بل باتت تقيس حتى خطباء المساجد، والوعاظ وكل من تطوع لإلقاء محاضرة أو درس في باب من أبواب الدين، خاصة بعدما باشرت الدولة عملية ضبط ورسم خريطة الحقل الديني، وذلك عبر إطلاق مشاريع رسمية، كان آخرها مشروع المسجد الجامع” بالأردن وقبله ومُلهمه مشروع تأهيل الحقل الديني بالمغرب.
لن نستطيع الإحاطة بمجموع خسائر الأمة جمعاء بعدما صار أمرها بين يدي مستعمرين سمتهم البغض والجشع، سخروا كل ما أمكنهم لمسخ المعالم وإعادة تشكيل طبيعة الولاء وأساسه، قال تعالى: [كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً] 47، لكننا وباعتبار موضوع مقالتنا هاته سنقف عند ما عملت عليه منظومة الاستعمار هاته (حتى بعد ما اعتبر استقلالا) من طمس للهوية الإسلامية للمجتمع، وبالنتيجة طمس المكانة المتميزة للدين وأهله.
وهو الأمر الذي جعل ثنائية الدين والسياسة أكثر حضورا وجدبا بين آل الفكر والقلم وآل السياسة.


المراجع:
43- عبد السلام ياسين، كتاب العدل، ص47.
44- مهدي عامل ، في علمية الفكر الخلدوني ص10 [الاعمال الكاملة 1990 . الفرابي] . 44- محمد عابد الجابري، أضواء على مشكلات التعليم بالمغرب، ص9
45- ابراهيم أعراب :الاسلام السياسي والحداثة [افريقيا الشرق 2000] ص27
46- التوبة: الآية 8
47- ابراهيم أعراب :الاسلام السياسي والحداثة [افريقيا الشرق 2000] ص

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.