الآداب السلطانية (8) فقهاء المنابر والوظيفة الغائبة
بقلم: عبد الفتاح باوسار
فقهاء المنابر والوظيفة الغائبة
بين علماء الدين ورجال الدين(2) فقهاء المنابر والوظيفة الغائبة
الانكسار التاريخي “الحدث” (3) فقهاء المنابر والوظيفة الغائبة
الانكسار التاريخي”النتائج”(4) فقهاء المنابر و الوظيفة الغائبة
الانكسار التاريخي: “باب الفتنة”(5) فقهاء المنابر والوظيفة الغائبة
مقدمات الوصال النكد بين “الفقهاء” والحكام(6) فقهاء المنابر و الوظيفة الغائبة
الفقهاء بين تهمة الفتنة وقانون الطاعة (7)فقهاء المنابر والوظيفة المغيبة
هو عنوان لمجموعة من الأبحاث والدراسات التي عملت على مقاربة هذا اللون من الكتابة، والتي كان من بينها مؤَلّف د. عز الدين العلام الذي حدد هوية كتابه، بالقول: ” يندرج هذا البحث في دراسة نوع من أنواع الفكر السياسي التي أفرزتها الحضارة العربية الإسلامية، سواء في مشرقها العربي أو في غربها الإسلامي…”29.
حاول هذا المؤلِف إبراز كيف أن الفكر السلطاني، بشكل عام، شكل نوعا مميزا من التفكير السياسي الإسلامي، الذي “يعتمد على فكرة جوهرية هي إسداء النصح للحاكم أو الملك، بهدف تحسين أداء السلطة” 30، وإطالة دورة حياة السلطنة ما أمكن ذلك.
أيضا سائل تلك الوحدة التي تميزت بها جل هذه الكتابات سواء على مستوى الغاية (تقوية السلطة ودوام الملك)، أو فيما يخص لون الكتابة وشكلها [رسائل، عهود، نصائح]، رغم توالي الأجيال وتعدد الكتبة، الشيء الذي جعل الكثيرين ممن درسوا هذه الكتابات، وهذا النوع، يجمعون على أنها لا تعدوا أن تكون كتابات مكرورة تخترق الزمان والمكان.
أما حديثنا عن هذا النوع من الإنتاج الفكري الإسلامي فقد جاء بالنظر إلى اعتباريين اثنين:
• اقتران دخول هذا اللون من الكتابة بسقوط الخلافة الراشدة والتحول نحو الملك.
• وحجم الإسهامات التي شارك بها الفقيه والفقه الإسلامي في بناء هذا التراث الفكري السياسي، وأثر ذلك في علاقته بالسياسة والسلطان، حتى يومنا هذا .
في الاعتبار الأول:
بداية وجب القول أن دخول هذا النوع من الكتابة العالم الإسلامي جاء بُعيد سقوط الخلافة الراشدة، ليكون من أكبر الأدوات التي طبّعَتْ مع الملك، وعملت على تثبيت أركانه.
إن المعارك التي نشبت بين الصحابة الكرام، والتي خلص مجموعة من الباحثين، المعاصرين على وجه الخصوص، إلى أنها، في الحقيقة، كانت صراعا “بين القيم السياسية الإسلامية وقيم البداوة السياسية في الجزيرة العربية”32، أو بتعبير آخر صراع القيم السياسية الإسلامية مع القيم القبلية المتمردة على الدولة 33، نتج عنه، والحديث هنا لـ د. محمد الشنقيطي، تزاحما بين” اثنتين من أمهات القيم السياسية الإسلامية وهما وحدة الأمة وشرعية السلطة” 34، ، انتهى – منذ حرب صفين- إلى انتصار المبدأ الأول، مبدئ الوحدة على الثاني مبدأ الشرعية، بحيث أنه في حالتي الإمام علي رضي الله عنه وأيضا سبطه الحسن، تم التنازل عن الحكم لمعاوية بدافع الخوف من إهراق دماء الصحابة الكرام، ومن التفرقة والشتات، شتات شمل الأمة، بشكل خاص. وهو ما سيتحول مع توالي العصور إلى خوف من الفتنة ومن ذهاب بيضة الإسلام وتواري تطبيق شرع الله وأمره، ثم خوف من غضبة السلطان..
هذا الانتصار/التحول حتم استعارة مصوغات له، في البداية، من خارج الإرث النبوي والسنن الراشدية، وبالضبط من داخل التراث الساساني. فبعد إزاحة الأمويين، “أخذت الدولة الإسلامية مع العباسيين باستيحاء النموذج الفارسي/ الكسروي في الحكم خاصة فيما يتعلق برسوم الدولة وقواعد السياسة وتدبير الجيوش. وهو السياق الذي جعل ” أولى الكتابات السلطانية، من إنتاج مفكر فارسي، هو ابن المقفع، وموجهة لملوك بني العباس”35.
بعد ذلك ومع توالي الأيام “لم تعد الكتابات السلطانية تتسم فقط بروح فارسية ساسانية بل ستخترقها مؤثرات يونانية هلينستية وأخرى عربية إسلامية”36، وصولا إلى الأدبيات المخزنية، على غرار كتاب “الفخري في الآداب السلطانية”، في الغرب الإسلامي بدايات القرن التاسع عشر، الشيء الذي جعلها، تعكس بحق التطورات التي عرفتها الدولة الإسلامية، وكذا مدى انفتاحها على الإمبراطوريات المجاورة شكلا ومضمونا، من جهة، ثم الخط التنازلي الذي صار بالفقه والفقيه إلى ما نراه فيما يخص الفكر والنظرية السياسية، من جهة ثانية.
إن مؤلفات مثل هذه بنيت على” تصور عملي للمجال السياسي، جعل منها فكرا سياسيا أداتيا لا يطمح إلى التنظير بقدر ما يعتمد التجربة، ولا يتوق إلى الشمولية بقدر ما يلزم حدود الواقع السلطاني”37، للدولة، مصاغا في شكل عهود أو نصائح ورسائل موجهة للأمراء حتى يكونوا سياسيين ناجحين. كانت حتما ستشكل تلك الأسس التي تم من خلالها مباشرة عملية الانتقال الفعلي من الخلافة إلى الملك، أو، وبتعبير د. محمد عابد الجابري مباشرة ” الانتقال من دولة الدعوة والخليفة إلى دولة السياسة والسلطان”.38
أكثر من هذا ذهب د. رضوان السيد ونصار عبد الله إلى أبعد مما سبق، بحيث قالا بأن صراع الوحدة والشرعية هذا يجب وضعه في سياق أعمق: سياق الفلسفة السياسية التي – بحسب هذين المفكرين – و”منذ عصر اليونان إلى اليوم، يمكن تأطيرها في مذهبين اثنين: مذهب تبرير يتعايش مع الاستبداد السياسي ويسوغه، ومذهب تغيير يسعى إلى تجاوز الاستبداد السياسي والتخلص منه”39.
قد لا نستطيع القول بأن الكتابات السلطانية نحت منحى التبرير منذ الوهلة الأولى إلى الآن، لكن ما كُتِب بدءا من ابن المقفع 145هـ، إلى الفقيه الشوكاني 1250هـ في المشرق العربي، وبدءا من المرادي 489هـ، أول من افتتح القول في هذا المجال في الغرب الإسلامي إلى غاية الأدبيات السياسية المخزنية التي انتعشت في مغرب القرن التاسع عشر، لا يعدوا أن يكون خطا تصاعديا ينطلق من محاولة الإمساك بالواقع وتهذيبه إلى الإيمان بهذا الواقع وتبريره.
وبما أن مؤلفها كان أحد اثنين: “إما كاتب قصر، أو فقيه”40، فقد كان لهذا الأخير سهما معتبرا في عملية التبرير هاته، مستعملا ما يملكه من أدوات فقهية ومتون حديثية، جعلت من التراث السياسي الإسلامي شيئا مخالفا بالمرة لكل تلك المبادئ المؤسسة للدولة الإسلامية الوليدة كما وضعها النبي صلى الله عليه وسلم، من مثل الإقرار بنظام الطبقات الفارسي، فلم يعد الناس سواسية كأسنان المشط بل هناك سلطان وخاصة وعامة.. .
في الاعتبار الثاني
رغم تلك الوحدة التي طبعت الكتابات السلطانية، وحدة الشكل والغاية، فقد كانت تعكس، ولو من طرف خفي تلك الحيرة التي تخالج الفقيه المسلم وهو يحاول إقرار الواقع المرير، مع عدم إغفال نقده ولو عبر ذكره متجاورا مع ما يفضله من سياسة خلافية، نسبة إلى الخلفاء الراشدين.
فكثيرا ما كان الأديب السلطاني / الفقيه يطرح ثنائيات أخلاقية يقابل فيها الفضائل بالرذائل، ويوضح أن التزام الحاكم السلطاني بالفضائل من شجاعة وكرم وسخاء وحلم وعفو..يؤدي إلى تقوية السلطة ودوام الملك، كما أن سقوط الحاكم السلطاني في رذائل الترف والكبر والتبذير والدعة…يؤدي لا محالة إلى سقوط الدولة وذهاب الملك، لكن أمرا آخر وتقسيم آخر شغل الفقيه السلطاني أيضا، ربطه د. رضوان السيد بالخصوصية السياسية أو الوضع السياسي القائم زمن الكاتب/ الفقيه ومدى بعده أو قربه من زمن الخلافة الراشدة، وذلك من مثل ما ذهب إليه الماوردي من تقسيم للإمارة إلى إمارة استيفاء وإمارة استيلاء، بحيث اعتبرها حلولا مقترحة من الماوردي مرتبطة رأسا بمناقشته لمشكل الخلافة 41. لكن عن أي خلافة كان يتحدث الماوردي في القرن الرابع عشر؟؟.
حتما لم يكن الماوردي يقصد الخلافة الأولى التي قطع معها الفكر السياسي الإسلامي بمجرد تبنيه الأدوات الساسانية والكسروية في الحكم، بل القصد والتعبير هنا عن مرحلة تجزيئية جد متقدمة جاءت بعد سقوط بغداد في يد البويهيين ونشوء إمارة أو إمارات مستقلة، سيعمل الفقيه من خلال ضبط العلاقة بين “الخليفة” العباسي والإمارات الناشئة والمستقلة عنه، التكيف مع هذا الواقع بداية، ثم رد الاعتبار للدولة الإسلامية المفككة والإبقاء على وحدة الأمة عبر الحفاظ على وحدة السلطة، شكليا على الأقل، دونا عن شرعية السلطة مرة أخرى.
في سياق آخر، كان د. علي أمليل قد ميزبين مرحلتين: “مرحلة أولى نصب فيها الفقيه نفسه رقيبا على السلطة.. مطالبا بإخضاع السياسة للشريعة، وتبعية الحكام للفقهاء.. أو تبعية الدولة للدعوة على حد تعبير الأستاذ عبد السلام ياسين، لكن دون خروج على السلطان درءا للفتنة. ومرحلة ثانية خفف فيها الفقهاء، بحكم مسار الدولة الإسلامية من حدة مطالبهم، مكتفين بــ تليين الفارق بين السياسة والشرع، وعاملين على تكييف المجال السياسي ليشمله رداء الفقيه42.
مرة أخرى نشير إلى أن المقام لن يسعنا للاسترسال فيما قطعه الفقه والفقيه من مراحل في علاقته بالسياسة والسياسيين، لكن لعل ما سبق كاف لبيان ذلك الإصرار الذي كان منه على الحضور والدوران مع الواقع أينما دار لكن دون القدرة – أو دون الانتباه – إلى أن كل دورة كانت تفقده شيء من زمام قيادة الأمة لصالح الأمير الغالب.
لتبقى المرحلة الأخيرة هي دخول جيوش أوروبا العالم الإسلامي وقبلها وخلالها دخول الفكر الأوروبي و ” الحداثة ” هذا العالم وهو آخر مسمار سيدق في نعش مكانة ودور الفقيه في المجتمع المسلم.
المراجع:
29- المرجع نفسه، ص 7
30- أحمد الخميسي، الآداب السلطانية نص متجدد. منبر ديوان العرب 27مارس 2006
31- المختار الشنقيطي. الأزمة الدستورية في الحضارة الإسلامية ص 33
30- تحدث د محمد الشنقيطي في مقدمة كتابه أعلاه على أنه وعبر تاريخها الطويل لم تقبل القبائل العربية بتشكيل أية أسس لبناء دولة عربية على غرار ما كان يحيط بها من دول مدن وإمبراطوريات..الشيء الذي بات وصم خالص للجزيرة العربية و العرب حتى مجييئ الإسلام.
34- محمد المختار الشنقيطي مرجع سابق ص34
35- محمد ضريف. تاريخ الفكر السياسي بالمغرب ص33
36- لمرجع نفسه
37-عز الدين العلام. مرجع سابق ص: 9
38- محمد عابد الجابري: العقل السياسي العربي ص 365
39- ذكره د. المختار الشنقيطي في كتابه المشار إليه سابقا ص71
40- المرجع نفسه ص33
41-رضوان السيد في مقدمة تحقيقه ل: قوانين الوزارة، وسياسية الملك الماوردي .. دار الطليعة بيروت 1979 .
42-نقلا عن د. عز الدين العلام مرجع سابق ص22.