في بداية هذا المقال لابد من الإشارة إلى أن الكثير من الأحكام الاجتهادية التي وردت لمعالجة قضايا عصر معين، ليست ملزمة لسائر العصور، وأنها في معظمها قابلة للفحص والاختبار والنظر في مدى ملائمتها للواقع الذي عليه الناس، حيث لابد من العودة والتلقي من النص الأصلي الخالد المجرد عن حدود الزمان والمكان، والنظر في كيفية تنزيله على الواقع والحال. وهذا من سنن التطور الاجتماعي والفقه الشرعي، حيث غيّر الكثير من الفقهاء من أحكامهم نفسها، وليس من حكم غيرهم، عندما تغير الزمان أو تغير المكان أو عندما اطلعوا على نصوص ووقائع جديدة لم تكن معروفة مسبقًا، أو عندما أدركوا حكمة الحكم وعلته الدقيقة وعدم انطباقها على الحالات المتشابهة، أو أن الامتداد في تطبيقها بشكل آلي وصارم قد يؤدي إلى فوات مصلحة شرعية وحصول مفسدة محققة.
(إن الأحكام في الكتاب والسنة تتعدد بتعدد الحالات والاستطاعات، ولا تجمد على حال واحدة، فكيف يكون ذلك، والواقع خاضع لسنة التغيير، سقوطًا ونهوضًا، ولكل حالة حكمها. إن الاجتهادات الكثيرة التاريخية، والتي يمكن تصنيفها في إطار الموروث أو التراث هي اجتهادات لزمانها ومشكلاته وأنها غير ملزمة، لا يعني إلغاءها أو القفز من فوقها، أو عدم معاودة الإفادة منها عند تشابه الحال، وإنما يعني استصحابها والاستئناس بها، والفقه بنظرها الدقيق وآليتها الاجتهادية، لتكون معينًا لنا على النظر الذي يقتضيه تبدل العصر وتغير مشكلاته)[1]
(إن واقع الوجود الإسلامي عند نشأة الفقه وطيلة فترة ازدهاره الحية بحركة الاجتهاد كان واقعا يوم ذلك الوجود فيه على سلطان الدين الذي به تنتظم حركة العلاقات الاجتماعية كلها من تلقاء الأفراد ومن تلقاء الدولة والفئات فيما بينهم، التي تسوس الأمة سياسة شرعية، ولم يعرف ذلك الوجود جماعات واسعة من المسلمين تعيش في مجتمعات غير إسلامية يخضعون ﺑﻬا في علاقاﺗﻬم الاجتماعية العامة لسلطان غير سلطان دينهم. وقصارى ما كان يحصل في هذا الشأن وجود أفراد من المسلمين أو جماعات صغيرة منهم في مجتمعات غير إسلامية وجودا عارضا في الغالب بسبب ضرب في الأرض أو إيمان بالدين ناشئ لم تتوسع دائرته ليصبح سلطانه غالبا. فلم يكن إذن ذلك الوجود للأقليات المسلمة ظاهرة بارزة ضمن الوجود الإسلامي العام). [2]
لذلك استوجب النظر في النوازل المتعلقة بالأقليات الإسلامية باعتبارهم جزءا من الأمة الإسلامية بانتمائهم لدين الإسلام، وبالنظر إلى مستجداتهم في واقع مغاير في كثير من الأحيان لواقع بلاد الإسلام.
والبحث في هذه الأمور المستجدة يدخل في دائرة الاجتهاد بمفهومه العام بما هو محاولة لتنزيل النص الشرعي مصدر الحكم في الكتاب والسنة على الواقع، وتقويم سلوك الناس ومعاملاﺗﻬم به.
و(هذا يتطلب أول ما يتطلب – بعد فقه النص – النظر الى الواقع البشري وتقويمه من خلال النظر للنص وكيفيات تنزيله في ضوء هذا الواقع البشري. وهذه الأحكام المستنبطة من النص لتقويم الواقع والحكم عليه هي أحكام اجتهادية قد تخطئ وقد تصيب، حسبها أﻧﻬا اجتهادات بشرية يجري عليها الخطأ والصواب لا قدسية لها، ومهما بلغت من الدقة والتحري لا ترقى الي مستوى النص المقدس في الكتاب والسنة، ولا تتحول لتحل محل النص فتصبح معيارا للحكم… هي حكم مستنبط يعاير ويقوّم بالنص، ويستدل عليه بالنص).[3]
لذلك فالموضوع الذي تعرض له فقه الأقليات[4] يقع في دائرة العمل الاجتهادي، لأنه يشكل محلا لتنزيل الأحكام وفق المستجدات المتغيرة عبر الزمان والمكان.
وبناء على حاجة الأقليات المسلمة لإجابات شافية لتساؤلاتها اليومية ببلاد غير المسلمين اقترح الدكتور القرضاوي سبعة أهداف ومقاصد يسعى فقه الأقليات إلى تحقيقها في حياة هذه الأقليات في إطار أحكام الشريعة وقواعدها، وهي:
أولا: أن يعين هذه الأقليات المسلمة على أن تحيى بإسلامها حياة ميسرة بلا حرج في الدين ولا إرهاق في الدنيا.
ثانيا: أن يساعدهم على المحافظة على جوهر الشخصية الإسلامية المتميزة بعقائدها وشعائرها ومفاهيمها المشتركة وقيمها وأخلاقها وآدابها .
ثالثا: أن يمكن اﻟﻤﺠموعة المسلمة من القدرة على أداء واجب تبليغ رسالة الإسلام العالمية لمن يعيشون بين ظهرانيهم بلساﻧﻬم الذين يفهمونه .
رابعا: أن يعاوﻧﻬا على المرونة والانفتاح المنضبط حتى لا تنكمش على ذاﺗﻬا وتنعزل على مجتمعها بل تتفاعل معه تفاعلا ايجابيا.
خامسا: أن يسهم في تثقيف هذه الأقليات وتوعيتها بحقوقها المختلفة.
سادسا: أن يعين هذا الفقه اﻟﻤﺠموعات الإسلامية على أداء واجباتها المختلفة .
سابعا: أن يجيب هذا الفقه المنشود على أسئلتهم المطروحة ويعالج مشكلاﺗﻬم المتجددة في ضوء اجتهاد شرعي جديد صادر من أهله في محله).[5]
ومن المنطلقات التي يمكن إضافتها في هذا الاتجاه يمكن أن أذكر ما يلي:
- أن يتصدى لهذا الفقه علماء من وسط هذه الأقليات أصالة أو ممن يخالطونهم بشكل منتظم ومستمر، حتى يقع الإفتاء عن فقه للواقع وليس من بروج عاتية وجزر نائية وفتاوى عابرة للقارات.
- أن يراعى فقه الأقليات الإسلامية الواقع الذي يعيش فيه المسلمون وغير المسلمين وظروفهم وعلاقاتهم المتعددة الأبعاد.
- أن يقوم بهذه المهمة مؤسسات أو مجامع تضم علماء دين ومتخصصين في مجالات دقيقة حتى نرتقي بهذا الفقه من الاجتهاد الفردي إلى الاجتهاد الجماعي كأسلم آلية للإفتاء في نوازل الأقليات.
- أن يستحضر البعد الإنساني والعالمي للشريعة الإسلامية في التوقيع عن رب العالمين بما يظهر سماحة الشريعة الإسلامية ووسطيتها ورحمتها بالإنسان مهما اختلفت عقيدته موطنه وأحواله…
وإن الناظر في الفتاوى التي تعالج قضايا الأقليات الإسلامية يجدها تشكو فوضى عارمة توقع أحيانا كثيرة في الاختلاف بين الناس قد يصل حد الخلاف والإقصاء، مما يستوجب استحضار خصوصيات فقه الأقليات ومقاصده الضابطة وآليات تنزيله تزيلا سليما يراعي الجوانب والخلفيات المتنوعة لتلكم الأقليات والوسط الذي تعيش فيه.
وبالإضافة لحاجتنا لصناعة هذه
الفتوى بتعبير الشيخ بن بية،[6] فنحن بحاجة كذلك إلى صناعة المفتي
المؤهل للقيام بهذه المهمة الجليلة، وهذا ليس بالأمر الهين فصناعة الرجال أصعب
وأشد من الصناعة المعرفية الفقهية الصرفة، صناعة تمكنهم من التصدي للنوازل الشائكة
بالحكمة والموعظة الحسنة.
لائحة المصادر والمراجع
- الفتوى وفقه الأقليات – الشيخ العلامة عبد الله بن بيه – دار المنهاج للنشر والتوزيع – الطبعة الأولى- 2008م.
- فقه الأقليات : تحديد المفاهيم – عبد اﻟﻤﺠيد النجار – موقع إسلام أون لاين.
- في فقه الأقليات المسلمة: حياة المسلمين وسط المجتمعات الأخرى – يوسف القرضاوي – الطبعة الأولى- دار الشروق – 1422 هـ / 2001 م.
- فقه الأقليات المسلمة – خالد محمد عبد القادر – كتاب الأمة العدد: 61 – السنة السابعة عشرة – وزارة الأوقاف، قطر – الطبعة الأولى – رمضان 1418 هـ.
[1] – من فقه الأقليات المسلمة- خالد محمد عبد القادر- ص 14 – 15- كتاب الأمة – العدد 61.
[2] – فقه الأقليات : تحديد المفاهيم – عبد اﻟﻤﺠيد النجار – موقع إسلام أون لاين. http://www.islamonline.net
[3] – ينظر: من فقه الأقليات المسلمة – خالد محمد عبد القادر – عمر عبيد حسنة في تقديمه للكتاب – ص 12-13 بتصرف.
[4] – استقر المجلس الأوروبي للإفتاء في دورته بدبلن في ألمانيا على صحة استعمال مصطلح (فقه الأقليات) حيث لا مشاحة في الاصطلاح، كما استقر رأي المجلس على أن موضوع (فقه الأقليات) هو: الأحكام الفقهية المتعلقة بالمسلم الذي يعيش خارج بلاد الإسلام – ينظر: صناعة الفتوى وفقه الأقليات – الشيخ عبد الله بن بية – ص 163-164.
[5] – ينظر: في فقه الأقليات المسلمة – يوسف القرضاوي – ص 34-35.
[6] – ينظر كتابه القيم: صناعة الفتوى وفقه الأقليات