منار الإسلام
موقع تربوي تعليمي أكاديمي

الإصلاح بين الزوجين واجب شرعي وضرورة واقعية|سلسلة خطبة الجمعة

بن سالم باهشام

0

الإصلاح بين الزوجين واجب شرعي وضرورة واقعية|سلسلة خطبة الجمعة

بن سالم باهشام

عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

عباد الله، روى مسلم  في صحيحه، عن جابر رضي الله عنه  قال:  قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:  (إنَّ إبليسَ يضعُ عرْشَه على الماء، ثم يَبْعَث سَراياه، فأدْناهم منه منزِلةً أعظمُهم فتنةً، يجيء أحدهم فيقولفعلتُ كذا وكذا، فيقولما صنعتَ شيئًا، قال: ثم يجيء أحدهم فيقول: ما تركتُه حتى فَرَّقتُ بينه وبين امرأتِه، قال:  فيُدْنِيه منه ويقول: نعم أنت ) [أخرجه أحمد (3/314 ، رقم 14417) ، وعبد بن حميد (ص 316، رقم 1033) ومسلم (4/2167، رقم 2813) وأخرجه أيضًا : البيهقي في شعب الإيمان (6/415، رقم 8721)]، قال الأعمش: أراه قال: (فيَلْتَزِمُه).

عباد الله، في هذا الحديث ورد أن إبليس  لعنه الله، عرشه – وهو سرير ملكه – على الماء، ثم يبعث جنوده من الجن ليفتنوا الناس ويضلوهم، فأقربهم من إبليس مرتبة؛ أعظمهم إضلالًا للناس، فيجيء أحد هؤلاء الشياطين فيقول لإبليس: فعلتُ كذا، وكذا، أي: أمرتُ بالسرقة، وشرب الخمر وغيرهما من المحرمات، فيقول إبليس له: ما صنعتَ أمرًا كبيرًا، أو شيئًا يُعتد به، حتى يجيء أحد هؤلاء الشياطين فيقول لإبليس: ما تركتُ فلانًا حتى فرقت بينه وبين امرأته؛ وجعلته يطلقها، فيقربه إبليس منه، ويضمه إليه ويعانقه، ويقول له: نعم أنت، أي: نعم أنت الذي فعلت رغبتي، وحققت أمنيتي في إضلال الناس وإفسادهم.

عباد الله، إن إبليس لعنه هو عدو كل إنسان على وجه الأرض؛ من آدم عليه السلام إلى قيام الساعة، وهو الساعي بكل جهوده وجنوده إلى إفساد الإنسان وإدخاله النار، وقد ذكّرنا الله تعالى بهذه الحقيقة وحذرنا في محكم التنزيل في سورة فاطر فقال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ، فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا؛ وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا؛ إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ) [فاطر: 5، 6]، وفي إطار الحرب القائمة بين الإنسان والشيطان عبر الزمان و المكان، وفي إطار سنة التدافع بين الحق والباطل، فإن الشيطان لعنه الله يختار المواضع القاتلة في الإنسان للقضاء عليه، والأماكن الحساسة المدمرة في المجتمع لاستئصاله، فيقرب الذي يفرق بين المرء وزوجه على سائر الفتانين من جنوده، وبالمقابل علينا أن نبذل كل جهودنا لرأب صدع الأسر التي ستنهار، نتيجة الخصامات، وذلك بالسعي الجاد لإصلاح ذات البين بين الأزواج والزوجات.

عباد الله، إن الإسلام دائما يعمل على إزالة ومحو كل أسباب الشقاق والخلاف بين أفراد المجتمع الإسلامي عموما، وفي الأسرة المسلمة التي هي نواة المجتمع خصوصا، لأن بصلاحها يصلح المجتمع كله، و بفسادها يفسد المجتمع، لذا اهتم الإسلام بالحفاظ على بنيان الأسرة وصرحها، وهيأ كل الوسائل المتاحة والمشروعة لذلك.

عباد الله، لما كانت الحياة الزوجية لا تخلو من المشكلات؛ شرع الله لنا أسباب الحل، ومعالجة الأوضاع، فكان من ذلك: التدخل في الخصومات للإصلاح، فعدم وجود الناصحين، والمصلحين الحكماء في كثير من الحالات؛ يكون من أسباب حصول الفراق والطلاق، وقد ذكرت دراسة محلية، أن 50% من حالات الطلاق في إحدى المدن؛ تقع قبل دخول منزل الزوجية، وفي بعض المناطق وصلت نسبة الطلاق إلى 62%، وربما حصل هذا لأسباب تافهة، ومن الأمثلة التافهة على ذلك: زوجة أحضرت لزوجها علبة عصير، فأمرها بفتحها فرفضت؛ فأصر هو، ولم تول عناية لكلامه، وانتهى النزاع إلى الطلاق، وتشاجرت أخرى مع زوجها ، وكرد فعل، لم تطبخ له طعاماً  ذلك اليوم؛ انتقاماً منه، فلما عاد ولم يجد غداءه جاهزاً طلقها…، وكم هي القصص التي انقطع فيها ميثاق الزوجية الغليظ، بسبب تافه، أو لافتقاد الحكمة من الزوجين أو أحدهما، أو للجهل بشرع الله تعالى، أو لعدم القيام بالحقوق بين الزوجين، أو لعدم التدخل من قبل المصلحين والناصحين في النهاية.

عباد الله، إن الإصلاح بين الزوجين خصوصا، وبين المختلفين عموماً ؛ من أعظم القربات إلى الله تعالى. حتى إن  النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أمورا يجوز فيها للمرء أن يكذب، منها الإصلاح بين الناس، فقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري في صحيحه: (لَيْسَ الْكَذَّابُ الَّذِى يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ فَيَنْمِى خَيْرًا أَوْ يَقُولُ خَيْرًا). [أخرجه أحمد (6/403 ، رقم 27313)، والبخاري (2/958، رقم 2546)، ومسلم (4/2011، رقم 2605)، وأبو داود (4/280، رقم 4920)، والترمذي (4/331، رقم 1938)، وقال : حسن صحيح . وأخرجه أيضًا : الطبراني (25/77 ، رقم 192)] .

ولذلك يجب على كل مسلم  أن يدخل في برنامجه السعي للإصلاح بين الناس عموما، وبين الزوجين خصوصا، ويتأكد الأمر على أفراد أسرة الزوجين، لما في الإصلاح من ألفة ومحبة واتفاق، ولأن الله سبحانه وتعالى أمر عباده أن يصلحوا بينهما صلحا، كما في سورة النساء من قوله تعالى: (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا، وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ، وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ، وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) .[النساء : 128]، لهذا كان الإصلاح بين الزوجين أمرا عظيما، وكذلك الإفساد بينهما أشد إثما وأعظم.

عباد الله،  ما دام النبي ﷺ قدوتنا، فإننا نجد في سيرته العطرة، أنه قد سعى في إصلاح ذات البين  مرات عديدة، فمرة جاء ﷺ إلى بيت بنته فاطمة الزهراء رضي الله عنها، فلم يجد علياً زوجها، فأحس بشيء؛ فلم يقل لفاطمة: أين زوجك؟ وإنما قال: أين ابن عمك؟ فسأل عن المنزلة والقرابة، قالت: كان بيني وبينه شيء؛ فغاضبني؛ فخرج ولم يقِل عندي، “أي: القيلولة لم تكن عندي”، فماذا فعل النبي ﷺ بعدما أشار إليها من طرف خفي إلى حفظ العلاقة؛ لأنه من الأقارب والأرحام؟ لقد ذهب يسأل عن علي  صهره وابن عمه أين هو؟ فأخبره إنسان أن علياً في المسجد راقد، فجاء رسول الله ﷺ، وعلي مضطجع قد سقط رداؤه عن شقه، وأصابه ترابٌ، فجعل رسول الله ﷺ يمسحه عنه ويقول: قم أبا تراب، قم أبا تراب؛ فكانت أحب الكنى إلى علي رضي الله عنه، فقد استعطف ﷺ فاطمة  بنته بقوله: أين ابن عمك؟ بذكر القرابة، وتوجه لكرم خلقه  ﷺ إلى علي ليسترضيه، ولم يقل: نادوه، ومسح التراب بيده عن ظهره، ملاطفة له، ومؤانسة، وداعبه بتلك الكنية الحبيبة إلى نفسه، ولم يعاتبه على مغاضبته لابنته؛ مع رفيع منزلتها عنده، ومعلوم منزلة فاطمة بنت محمد ﷺ عند أبيها، وهذا فيه الرفق بالأصهار، وتسكين غضب الأصهار، وترك معاتبة الأصهار؛ إبقاء لمودتهم؛ لأن العتاب إنما يخشى منه إذا اشتد الحقد، وفي هذا أن أهل الفضل قد يقع بينهم وبين أزواجهم ما طبع عليه البشر من الغضب، وقد يدعو ذلك إلى الخروج من البيت، وربما خشي علي رضي الله عنه  أن يؤذي فاطمة الزهراء بشيء، فآثر الخروج والابتعاد مؤقتاً حتى تسكن فورة الغضب.

عباد الله، ما دام للعلاقة الزوجية هذه الأهمية العظمى في الشريعة الإسلامية، فإنه لابد من علاجات أربعة بين الزوجين ، إرضاء للرحمن جل جلاله، وتفاديا لتحقيق مراد الشيطان لعنه الله:

1 – العلاج المعرفي للخلافات الزوجية: وهو المعارف التي يحتاجها كلا الزوجين لتفادي الخلاف قبل وقوعه. بحيث إن الجذور التي تنبت منها الاضطرابات التي تهدد كيان الأسرة، تبدأ من تلك المعارف التي قـد يتلقفها الشخص تقليدا، أو تملى عليه، بصورة قد تلبس لباس الشرع، والشرع منها بريء، أو قد تكون مسلمّات عرفية تلقاها الآباء عن الأجداد حتى أصبحت دينا بدل دين االله.

2-  العلاج التربوي للخلافات الزوجية: وهو الأخلاق التي يجب أن يتوقى بها الزوجان الخلاف، أو يتعاملان معه معاملة رشيدة تذهب أثره، وهي ثلاثة معارف أساسية بقدر التعمق في معرفتها تتحقق السكينة الزوجية، وهي:

أ – معرفة عظم التكليف الشرعي: فالعلاقة الزوجية مؤسسة على كلمة االله، وميثاقه الغليظ، والعقدُ فيها قبل أن يطلبه الـزوج، أو يمضيه الولي، أو ترضى به المرأة، يأذن به االله تعالى، ويبارك فيه، فهو عقد مع االله؛ قبل أن يكون عقدا بين البشر.

 ب – عظم الجزاء الشرعي: فالجزاء بقدر التكليف، وقد نصت عليه الأحاديث، ويكفي فيه أن رسول االله صلى الله عليه وسلم ربط الخيرية، التي هي مبتغى كل مؤمن، بالخيرية مع الزوجة، فالخيّر من الأزواج؛ ليس الذي ينفق على الغير، ويوزع الابتسامات بين الناس، ثم هو مع أهله  بخيل وعبوس قمطرير، بل خيرية الإنسان تبدأ من علاقته بزوجته، لتتعدى منها إلى غيرها، روى الترمذي، وقال: حسن صحيح، وابن حبان، والبيهقي في شعب الإيمان، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : (أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا، وَخِيَارُكُمْ خِيَارُكُمْ لِنِسَائِهِمْ). [أخرجه الترمذي (3/466 رقم 1162)، وقال : حسن صحيح . وابن حبان (9/483 ، رقم 4176)، والبيهقي في شعب الإيمان (1/61 ، رقم 27)] .

ج – سلوك القدوة في معاملة الأهل: أي سير الزوج على قدم القدوة الذي هو الرسول  صلى الله عليه وسلم مع زوجاته، فالرسول صلى الله عليه وسلم أسوة لنا في كل شيء، وسنته لا تقتصـر كمـا يتصور البعض على لحية أو سواك أو قميص أو هيئة معينة، بل تشمل ذلك، وتشمل قبله ومعه وبعده، سلوكه مع أهله؛ ولو في أدق التفاصيل، ولهذا كان المتأسي بالرسول صلى الله عليه وسلم حقا، هو المكرم لأهله؛ المحسن لهن؛ الصابر على أذاهن؛ الذي يمارس أعلى أنواع السنة التي تقربه من رسول االله صلى الله عليه وسلم.

3 – العلاج التأديبي: وهو ما وضعه الشارع من طرق؛ قد تصل إلى التشديد في حال تفاقم الخلاف.

4 – العلاج الاجتماعي: وهو تدخل الأهل والأقارب بالإصلاح بين الزوجين، عند بلوغ الخلاف غايته. ولا يكفي في هذه الوساطة وهذا الإصلاح، الاقتصار على العفو  والصفح والتحمل، بل لابد قبل ذلك من الاستماع للزوجين في كل تفاصيل مشاكلهما، والنظر في المشكلة التي سببت الخلاف بين الزوجين، ومعالجتها علاجا حكيما  وجذريا يقضي على آثارها، بالتعرف على الظالم والمظلوم بين الزوجين، والوقوف بجانب المظلوم ورفع معنوياته، وإعانة الظالم  على الاعتراف بخطئه بعد لومه ونصحه، ودعوته للتوبة الخالصة، والعزم على عدم الوقوع في نفس الخطإ مستقبلا، وترغيب المظلوم في قبول اعتذار الظالم التائب.

عباد الله، لا يكفي السعي للإصلاح بين الزوجين دون قيد أو شرط، بل ينبغي للوسطاء أن يتصفوا بالصدق والإخلاص والحكمة؛ حتى ييسر الله أمرهم، قال تعالى في سورة النساء: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا) [سورة النساء، الآية 35]،  فقد جعل سبحانه في هذه الآية نية الحكمين الصالحة، لها الأثر الكبير في حصول النتيجة، فقال: (إِن يُرِيدَا إِصْلاَحًا) أي: الحكمان، (يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا)، أي: بين الزوجين، فانظروا عباد الله، لتأثير النية الحسنة على العلاقة بين الزوجين؛ وتيسير التصالح بينهما.

كما على الوسطاء أن يكونوا ملمين بطبيعة الرجال وطبيعة النساء، و على علم بالحقوق الشرعية الواجبة على الزوجين، ليكون الإصلاح مبنيا على أسس شرعية متينة، بدل الأعراف التي قد تكون مخالفة لهدي الإسلام الحنيف؛ ولا تؤتي أكلها لا حالا ولا مستقبلا. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.