“إن تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم في حوادث الحديبية، هي في حد ذاتها دستور شامل يمكن الرجوع إليه للاقتباس منه في باب الحكمة والأناة وبعد النظر، وضبط النفس، والسيطرة على الأعصاب أمام استفزازات السفهاء، وتحدي الحمقى في مجال العدل والوفاء بالعهد، واحترام المعارضة النزيهة (…) كان الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم قمة في الحكمة السياسية حين أقدم على الصلح مع قريش، مخالفا آراء عدد كثير من صحابته الذين قاسوا الأمور بمظهرها السطحي، ولم يكن لهم بعد نظر الرسول الكريم الحليم”[1].
إن من أهم أسباب صلح الحديبية والتي كاد الخلاف حولها أن يؤدي إلى حرب مدمرة بين المسلمين وقريش، هو أن قريشا كانت تلح على منع المسلمين كليا من دخول مكة ما بقي لقريش فيها سلطان؛ لكن وأمام إصرار المسلمين على دخولها، وافقت قريش في قرارها الأخير بدار الندوة على السماح للمسلمين بدخول مكة لأداء مناسك العمرة ولكن ليس في ذلك العام وإنما في العام القادم، وهو قرار ما كانت قريش لتتخذه لولا إصرار الرسول صلى الله عليه وسلم، القائد الأعظم، الذي أعلن أنه لن ينصرف إلى المدينة حتى يناجز قريشا.[2]
من وقائع هذا الصلح، نفهم أولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما خرج من مكة مضطهدا ومكرها، أصبح قوة تعاهِد وتعاهَد، يعني تعطي وتأخذ، وأمام حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على المصلحة العامة، قبل بشروط قريش حقنا للدماء، لأن الحرب تنهك الطرفين معا. وقد حقق النبي صلى الله عليه وسلم نصرا عظيما دون إراقة قطرة دم واحدة، رغم أن شروط الصلح وبنوده كانت في ظاهرها مجحفة للمسلمين وأغلبها لصالح قريش، الشيء الذي جعل بعض الصحابة يغضبون بل يرفضون ويعارضون هذا الصلح؛ وكان أشدهم معارضة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وفي ذلك يقول أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: “جلست عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوما، فذكر القضية فقال: دخلني يومئذ من الشك، وراجعت النبي صلى الله عليه وسلم مراجعة ما راجعته مثلها قط، ولقد عتقت فيما دخلني يومئذ رقابا، وصمت دهرا، وإني لأذكر ما صنعت خاليا فيكون أكبر همي، ثم جعل الله عاقبة القضية خيرا، فينبغي للعباد أن يتهموا الرأي، والله لقد دخلني يومئذ من الشك حتى قلت في نفسي، لو كنا مائة رجل على مثل رأيي ما دخلنا فيه أبدا، فلما وقعت القضية أسلم في الهدنة أكثر ممن كان أسلم من يوم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يوم الحديبية، وما كان في الإسلام فتح أعظم من الحديبية”[3].
فموقف عمر رضي الله عنه ومن معه من الأصحاب ينم عن قصر النظر في التعامل مع تصرفات القائد النبي، مما دفعه للاعتراض والرفض، وهذه آفة عظيمة تعتبر من أمراض التنظيم، فلا بد من الطاعة والانقياد لولي الأمر الواثق من موعود الله، كما كان شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يجيب عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قائلا: “أنا عبد الله ورسوله، ولن أخالف أمره، ولن يضيعني”[4]. فيقينه صلى الله عليه وسلم شريعة بل عقيدة يجب أن يلزمها ويلتزم بها كل من يروم تطبيق شرع الله، لأنها أمور تحس، لذلك فضعفها لدى الآمر يضعفها لدى المأمور؛ ولعل هذا الأمر هو الذي دفع بالصديق رضي الله عنه أن يجيب عمر بقولته المشهورة “إلزم غرزه( أي أمره)”، نعم إلزم أمر رسول الله تصفو لك الرؤية وتتضح لك الطريق، فالخير كله والفلاح كله في اتباع أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، وإن التبس عليك الأمر فاتهم رأيك كما قال عمر رضي الله عنه، حينئذ تنقشع لك السحابة وتتضح لك الرؤية، لترى الحكمة وفصل الخطاب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] – عبد الله تل في مقدمة كتاب صلح الحديبية لمحمد أحمد باشميل- ص: 9. دار الفكر الطبعة 4- &403هـ/1983م.
[2] – ينظر: صلح الحديبية، مرجع سابق ص:243.
[3] – كتاب المغازي للواقدي، تحقيق مار، عالم الكتب، 1404هـ/1984م- 2/607.
[4] – نفسه- 2/606.