رمضان مدرسة للترقية
بقلم: طيبة إدريسي قيطوني
مقدمة:
جاء شهر مبارك عظيم، شهر ترمض وتحرق فيه الذنوب، موسم كله خير ورحمة وغفران وتجارة رابحة لا تعرف الخسران، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “أتاكم شهر رمضان، أتاكم سيد الشهور، فمرحبا وأهلا” (1)
أمد الله في عمرك لبلوغه، وهيأ لك كل الأسباب للاستفادة من مقصوده، فكن ممن يسارعون لنيل رضا الله في لياليه وأيامه، فالسعيد من انتفع بهذا الموسم والشقي من حرم فيه رحمة الله عز وجل فاحرص ألا تضيع وقتك في هذا الشهر العظيم في الغفلات وكن بوقتك شحيحا أن تضيعه في غير عمل الصالحات واعمل واجتهد قبل فوات الأوان.
إنه شهر رمضان المدرسة الربانية التي تفتح أبوابها مرة في السنة لتخريج مؤمنين ومؤمنات وتربيتهم على حسن العبادة وحسن الخلق وعلو الهمة ولنيل شهادة التقوى من رب العالمين..
فما هو السبيل لنجعل من هذا الشهر الفضيل محطة للتزكية والترقية؟
الأعمال الصالحة في رمضان:
شهر رمضان تاسع الشهور الهجرية جعل الله صيام أيامه فريضة وقيام لياليه سنة، فيه ليلة خير من ألف شهر وهو شهر القرآن والصبر والجود والذكر والعمرة والجهاد وأعمال الخير كلها، يجتمع في هذا الشهر شرف الزمان ومضاعفة أجر العمل فيه. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن، وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، وينادي مناد كل ليلة: يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة“(2).
رمضان والصيام
قال تعالى: “يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون“(3).
الصوم في اللغة الإمساك، وشرعا الإمساك عن الطعام والشراب وجماع النساء وسائر المفطرات من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس بنية التعبد لله (4)
صوم رمضان هو الركن الرابع من أركان الإسلام وهو سر بين العبد وربه ويسمى بعبادة الإخلاص، حيث جاء في الحديث القدسي: ” كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فهو لي وأنا أجزي به ” (5)
و هو وقاية من الذنوب والمعاصي ما تحلى الصائم بالصبر وحسن الخلق، جاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “الصيام جنة فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يجهل، وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل: إني صائم مرتين“(6).
و قال أيضا: “من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر لم ما تقدم من ذنبه ” (7)، قال ابن بطال –رحمه الله- في شرح البخاري (4/21): هذا الحديث دليل أن الأعمال الصالحة لا تزكو ولا تتقبل إلا مع الاحتساب وصدق النيات، كما قال عليه السلام: (الأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى)، وقال ابن حجر العسقلاني: المراد بالإيمان الاعتقاد بحق فرضية صومه، والاحتساب: طلب الثواب من الله تعالى.
رمضان والقران
القرآن كلام الله المتعبد بتلاوته نزل جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا في ليلة القدر في شهر رمضان.
قال الله تعالى: “شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون“(8).
يمدح الله تعالى شهر الصيام من بين سائر الشهور بأن اختاره من بينهن لإنزال القرآن العظيم، وكما اختصه بذلك فقد ورد الحديث بأنه الشهر الذي كانت الكتب الإلهية تتنزل فيه على الأنبياء.
وأخرج الإمام أحمد في مسنده عن واثلة بن الأسقع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “أنزلت صحف إبراهيم عليه السلام في أول ليلة من رمضان وأنزلت التوراة لست مضين من رمضان والإنجيل لثلاث عشرة خلت من رمضان وأنزل القرآن لأربع وعشين خلت من رمضان”.
فحري بنا أن نعيش شهر رمضان في رحاب القران تلاوة وتدبرا وحفظا ومراجعة وعزما على التطبيق، حري بنا أن نجدد العهد مع كتاب الله ونستمر على العهد حتى آخر يوم في حياتنا.
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إن هذا القران مأدبة الله فاقبلوا مأدبته ما استطعتم، إن هذا القران حبل الله والنور المبين والشفاء النافع عصمة لمن تمسك به ونجاة لمن اتبعه، لا يزيغ فيستعتب ولا يعوج فيقوم ولا تنقضي عجائبه، ولا يخلق من كثرة الرد. اتلوه فان الله يأجركم على تلاوته، كل حرف عشر حسنات، أما إني لا أقول ألم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف“(9).
و شهر رمضان هو شهر مدارسة القرآن فعن ابن عباس قال: ” كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القران، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة“(10).
رمضان والجود
رمضان شهر مضاعفة الحسنات فعن أنس مرفوعا: “أفضل الصدقة صدقة رمضان“(11) ومنها إعانة الصائمين والقائمين والذاكرين على طاعتهم، فيستوجب المعين لهم مثل أجرهم، كما أن من جهز غازيا فقد غزا، ومن خلفه في أهله فقد غزا، وفي حديث زيد بن خالد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ” من فطر صائما فله مثل أجره من غير أن ينقص من أجر الصائم شيء“(12).
و من معاني الجود في هذا الشهر الكريم أن الله تعالى يجود فيه على عباده بالرحمة والمغفرة والعتق من النار وذلك كله طيلة هذا الشهر لاسيما ليلة القدر، فالجمع بين الصيام والصدقة من موجبات الجنة كما في حديث علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إن في الجنة غرفا يرى ظهورها من بطونها وبطونها من ظهورها قالوا: لمن هي يا رسول الله ؟ قال لمن طيب الكلام، وأطعم الطعام، وأدام الصيام، وصلى بالليل والناس نيام “(13).
وكل هذه الخصال تجتمع في هذا الشهر المبارك عند المؤمنين الصادقين المقبلين على الله، بالإضافة إلى أن الجمع بين الصيام والصدقة أبلغ في تكفير الخطايا والذنوب خصوصا إذا أضيف إلى ذلك قيام الليل فقد كان أبو الدرداء رضي الله عنه يقول: صلوا في ظلمة الليل ركعتين لظلمة القبور، صوموا يوما شديدا حره لحر يوم النشور، تصدقوا بصدقة لشر يوم عسير. والصدقة أيضا تجبر ما كان في الصيام من نقص أو خلل، ولهذا وجب في آخر شهر رمضان زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث.
رمضان والقيام
أجمع المسلمون على سنية قيام ليالي رمضان، وقد ذكر النووي أن المراد بقيام رمضان صلاة التراويح أي أنه يحصل المقصود من القيام بصلاة التراويح.
عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ” من قام رمضان إيمانا واحتسابا، غفر له ما تقدم من ذنبه“(14).
أي أن هذه المغفرة تكون لمن قام ليالي رمضان تصديقا بأنه حق معتقدا فضيلته، واحتسابا يريد به الله وحده لا رؤية الناس ولا غير ذلك.
و قال الإمام النووي رحمه الله. قوله (من قام رمضان) هذه الصيغة تقتضي الترغيب والندب دون الإيجاب واجتمعت الأمة على أن قيام رمضان ليس بواجب بل هو مندوب.
رمضان وليلة القدر
هي ليلة من الليالي العشر الأخيرة من رمضان وعلى الراجح الليالي الوترية.
و قد تشرفت هذه الليلة بنزول القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة، يقول عز من قائل: إنا أنزلناه في ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر سلام هي حتى مطلع الفجر.
فهذه السورة تحمل اسم هذه الليلة المباركة وتتحدث عن فضائلها، فهي ليلة ذات قدر نزل فيها كتاب ذا قدر على رسول ذا قدر وعلى أمة ذات قدر وتنزل فيها ملائكة ذات قدر والعمل الصالح فيها خير من العمل ألف شهر.
هي ليلة عظيمة اختصها الله بفضائل كثيرة منها:
1-نزول القرآن في هذه الليلة.
2-أن الله عظم شأنها قائلا: “و ما أدراك ما ليلة القدر“.
3-أن العبادة والعمل الصالح فيها من الصيام والقيام والدعاء وقراءة القرآن وغيرها من القربات خير من العمل في ألف شهر.
4-ليلة القدر لا يخرج شيطان معها، قال صلى الله عليه وسلم: “إن الشمس تطلع كل يوم بين قرني الشيطان إلا صبيحة ليلة القدر“(15).
5-أن الملائكة والروح ” سيدنا جبريل” تنزل في هذه الليلة.
6-أن الأمن والسلام يحل في هذه الليلة على أهل الإيمان، “سلام هي حتى مطلع الفجر” أي سلام من الشر كله وقيل تنزل الملائكة في هذه الليلة تسلم وتصافح أهل الإيمان، وقال الشعبي: تسليم الملائكة ليلة القدر على أهل المساجد حتى يطلع الفجر.
وثواب قيام ليلة القدر يعدل ثواب قيام رمضان ويعدل ثواب صيام رمضان طبعا الشرطين هما الإيمان والاحتساب، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال صلى الله عليه وسلم: “من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه”(16).
أحوال الناس في صوم رمضان
تنقسم أحوال الناس في الصوم حسب مراتبهم في الدين، فصوم المسلمين يختلف عن صوم المؤمنين وصوم المحسنين.
يقول الإمام الغزالي رحمه الله: ” اعلم أن الصوم ثلاث درجات: صوم العموم وصوم الخصوص وصوم خصوص الخصوص. أما صوم العموم فهو كف البطن والفرج عن قضاء الشهوة، وأما صوم الخصوص فهو كف السمع والبصر واللسان واليد والرجل وسائر الجوارح عن الآثام، وأما خصوص الخصوص: فصوم القلب عن الهمم الدنية والأفكار الدنيوية وكفه عما سوى الله عز وجل بالكلية، ويحصل الفطر في هذا الصوم بالفكر فيما سوى الله عز وجل واليوم الآخر وبالفكر في الدنيا إلا دنيا تراد للدين، فان ذلك من زاد الآخرة وليس من الدنيا”(17)
فالمسلمون يصومون صوم العوام وهو صوم ناقص حيث يقول سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: “رب صائم حظه من الصيام الجوع والعطش“(18)، أما صوم الخواص فهو للمؤمنين الدين يجتنبون الآثام يحفظون جوارحهم، وأخيرا المحسنون يصومون صوم خصوص الخصوص وهم أصفياء الله اللذين اختصهم الله بالولاية.
و قد قال بعض العلماء ” كم من صائم مفطر وكم من مفطر صائم “، والمفطر الصائم هو الذي يحفظ جوارحه عن الآثام ويأكل ويشرب طبعا في غير رمضان، والصائم المفطر هو الذي يجوع ويعطش ويطلق جوارحه أي يغتاب ويكذب ويتجسس إلى غير دلك من المعاصي ” كتاب إحياء علوم الدين بتصرف.
و قد قال صلى الله عليه وسلم:”إن الصوم أمانة فليحفظ أحدكم أمانته“(19).
لهذا فمن الواجب على المسلمين الحفاظ على أمانة الصوم من سائر المفطرات والآثام مع الحرص على حفظ الجوارح وبذل الجهد في ذلك.
خاتمة
لشهر رمضان مكانة عظيمة ودور مهم في رفع مقام المسلم عند الله عز وجل، لهذا نجد السلف الصالح يعظمه ويستعد له بالدعاء وصفاء القلوب وإخلاص النية والتوبة والاستغفار، فالاستعداد يبدأ من رجب وشعبان، كما قال أبو بكر البلخي رحمه الله: رجب شهر الزرع وشعبان شهر السقي ورمضان شهر الحصاد.
يجب على المسلم أن يستغل هذه الفرصة ويستفيد من هذه المنحة الربانية ويحمد الله أن أمد في أجله لبلوغ هذا الشهر ويجد ويجتهد ويمسك زمام نفسه عن التسيب في الأوقات ويختار صفوة الأعمال لصفوة الأوقات، يبدأ بالفرائض ثم النوافل، يتبع هديه صلى الله عليه وسلم في تعجيل الفطر وتأخير السحور والاقتصاد في الأكل والشرب والإنفاق في وجوه الخير وصلة الأرحام والدعوة إلى الله و جميع الأعمال الصالحة التي ذكرناها ويجتهد أكثر وأكثر في العشر الأواخر التماسا لليلة القدر وبركتها فعن أمنا عائشة رضي الله عنها قالت: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر الأواخر من رمضان، أحيا الليل، وأيقظ أهله وجد وشد المئزر”(20).
قال الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله: “شهر رمضان شهر الأنوار والبركات والخيرات والتوبة وتجديد الصلح مع الله وفتح صفحة جديدة معه وطلب غفرانه وإحسانه وعتق رقابنا من النار. شهر يفطم الجسم عن طبعه من شهوة الطعام، وحاجة الشراب، ولذة الجسد، ليعرف المسلم الجوع والعطش وليتعلم ضبط نفسه وإلجام هواه. وليتحكم في أوصافها الحيوانية لتسمو الروح وتتطهر، وليتدرب المؤمن على تغليب الأوصاف الملائكية مستقلة عن جاذبية الطين”(21).
فالله نسأل أن يسلمنا إلى رمضان وأن يسلمه إلينا وأن يتسلمه منا متقبلا.
الهوامش
(1) شعب الإيمان للبيهقي
(2) رواه الترمذي وصححه الألباني
(3) سورة البقرة آية: 183
(4) الفقه على المذاهب الأربعة
(5) الحديث متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه
(6) رواه البخاري ومسلم
(7) رواه أحمد وأصحاب السنن
(8)سورة البقرة آية: 185
(9) رواه الحاكم
(10) فتح الباري /الحديث رقم 5
(11) رواه الترمذي
(12) رواه الترمذي
(13) رواه الترمذي كتاب صفة الجنة،باب ما جاء في غرف الجنة4/673 برقم 2527
(14) البخاري:37
(15) لابن أبي شيبة من حديث ابن مسعود
(16) متفق عليه
(17) رواه النسائي وابن خزيمة في صحيحه، وقال صحيح على شرط البخاري.
(18)كتاب إحياء علوم الدين الفصل الثاني: أسرار الصوم وشروطه الباطنة.
(19) ) من حديث ابن مسعود في حدي في الأمانة والصوم وإسناده حسن.
(20) متفق عليه
(21) تنوير المؤمنات 355-356 بتصرف يسير