توطئة:
يعالج الأستاذ عبد الله شكربة في روايته حلم تائه عدة قضايا اجتماعية من صميم الواقع المغربي، فروايته بمثابة مرآة للشباب المغربي حاملي الشواهد العليا، عبارة عن حلم تائه لكل شاب طموح، فهي مستوحاة من الواقع المغربي المزري الذي يعيشه كل المغاربة حاملوا الشواهد العليا، إنها رواية تقوم بتشخيص الوضع الاجتماعي للمغرب من خلال النبش في قضايا اجتماعية كالصحة والتعليم والفقر والبطالة والنقل، أي منها ما هو اجتماعي وما هو سيكولوجي وسياسي واقتصادي…، تطرح مجموعة من القضايا والمشاكل سواء من داخل الجامعة أو من خارجها؛ باعتبار الجامعة صورة مصغرة لواقع المجتمع المغربي، صورة فيها نوع من الثقافة والنبوغ والنباهة، داخلها أحلام بحجم السماء، أحلام يقظة تحتاج لجد واجتهاد. فأن يكون لك أمل تعيش من أجله خير لك من أن تعيش تائها في دروب الحياة بدون حلم، بدون أمل…. هذه الرواية عبارة عن ذكرى لأصدقاء جمعتهم الحياة وفرقهم شظف العيش، ولقمة الخبز؛ كل ذهب إلى مصيره، ثم اجتمعوا من جديد، تذكروا الماضي الجميل رغم صعوباته ومحنه، فقرروا كتابة رواية واختاروا لها هذا العنوان: حلم تائه.
قراءة في الغلاف
اختيار الكاتب لصورة الغلاف لم يكن اختيارا اعتباطيا، بل هو اختيار فني يمرر من خلاله مجموعة من الرسائل الفنية الهادفة ويطبع نوعا من الانسجام والتناغم على عنوان الرواية “حلم تائه”. فالصحراء تشير إلى التيه، والشخص الموجود بالصورة شخص تائه يتبع حلمه، رغم طول المسافة التي يقطعها إلا أنه لم يستسلم ويواصل سيره نحو الشمس المشرقة، إلى السماء الزرقاء التي تبعث الارتياح النفسي وتجدد الطاقة البشرية وتمنحها قوة جديدة لمواصلة الحياة بكل صعوباتها، بالإضافة إلى وقت الصورة الذي يشير إلى موعد غروب الشمس، لكنها عندما تغرب تشرق في يوم ثان، تشرق من جديد لتبعث في نفوسنا طاقة إيجابية نستطيع من خلالها تحقيق أحلامنا التائهة.
قضايا الرواية الاجتماعية:
انطلقت رحلة البحث عن الذات، عن الحلم التائه الذي راود حميد، فبعد حصوله على شهادة البكالوريا وحرمانه من التسجيل بالصحافة التي كانت أمنيته منذ طفولته، تفاجأ بواقع مرير يعترض سبيل تحقيق حلمه التائه، حلم جديد يتبخر أمام أعينه بعد هذا الحرمان بسبب نتائجه التي لا تسمح له بالتسجيل بالمعاهد، لم يجد بديلا غير الجامعة التي كان يرفض الدراسة بها معتقدا أنها تنتج العطالة فقط. لكن صديقه عزيز أصر عليه وأخذه معه للجامعة، إلا أنه سيواجه مشاكل في التسجيل بالشعبة التي اختارها وهي شعبة الفلسفة، هنا تبدأ أولى ملامح الثورة الداخلية التي ستشتعل بكيانه. فقد تم رفض تسجيله بشعبته المفضلة من طرف الأستاذ المشرف على اختباره في يومه الأول من ولوج الجامعة، وبعد رفضه في الشعبة التي اختارها عن حب وطواعية رفض الامتثال لأمر الأستاذ وأصر على السير على خطى درب النضال باعتباره الوسيلة الوحيدة لتحقيق مطلبه الذي يظن أنه عادل ومشروع مادام يتعلق بإرادته وتوجهه الجامعي، فلا يحق لأحد اتخاذ قرارات مصيرية عوضا عنه.
سيزيد مشكل التسجيل من صلابته وعزمه وحزمه ويقوي إرادته، سيخلق منه شخصا ثوريا على نظام الإدارة المغربية التي تعاني سوء التدبير، سيوجه مساره ويغير من شخصيته… هذا المشكل سيوقظ الشرارة التي بداخله، فقد اتخذ من درب النضال مسارا لتحقيق طموحاته. الذي ستثمر نتائجه بعد مخاض نضالي عسير، فقد تحققت رغبة التسجيل في شعبة الفلسفة بعد انتظار شهرين من الصمود والتحدي، الشعبة التي كانت بالنسبة له الملجأ الوحيد بعد أن تبخر حلم الولوج لعالم الصحافة نظرا لجملة من الاعتبارات. ها هو حميد بطل الرواية يحقق أولى انجازاته من داخل الساحة الجامعية ويشرع في تحقيق هدفه بثبات، سيسلك طريق التغيير الذي يطمح له، بعد أن استقر بشقة الكراء رفقة صديقه عزيز طالب الجغرافية الذي يرفض النضال وأدبيات الحلقيات.
أعجب حميد كثيرا بشخصية مصطفى، فقد وجد فيه شخصية المناضل الشهم الذي لا يتوانى عن مساعدة الطلاب. كيف لا وهو من أرشده لدرب النضال، من أهداه سبيل المعرفة والشغف الفكري، حاول حميد التقرب أكثر من مصطفى مادام قد وجد فيه الشخص الثوري الذي يفضح السياسات والممارسات الإدارية… مادام قد وجد فيه ضالته ومرشده نحو تحقيق الهدف المنشود وتحقيق حلمه التائه، فبعد تسجيله بالشعبة التي اختارها بدأت مرحلة الجد والاجتهاد والتفوق الدراسي، فرغم غيابه سيتدارك الموقف مع العلم أن دروس الجامعة ليست هي دروس الثانوي، رغم ذلك تفوق في دراسته بالفلسفة وحصل على نقطة مميزة في الفصل الأول، لكن هذا لم يمنعه من مواكبة الأحداث من داخل معارك الجامعة فقد اختار درب النضال والصمود؛ درب الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية تحت لواء الاتحاد الوطني لطلبة المغرب.
هنا تنطلق مرحلة جديدة يأخذنا الكاتب من خلالها للتعرف على هذه النقابة الطلابية عن طريق بطلها حميد الذي شده الفضول المعرفي للتقصي في تاريخها وأسسها واختلاف التيارات فيما بينها، ذلك الاختلاف الذي قد يصل أحيانا للخلاف والتطاحن الذي قد يصل بدوره لسفك الدماء، لم يكن لمصطفى الخيار غير شرح تطورات الحركة الطلابية بطريقة كرنولوجية عرج من خلالها على أبرز المحطات الأساسية التي مرت منها كل التيارات سواء اليسارية أو الإسلامية.
بعد حصوله على دبلوم في التسيير الإداري بدأت رحلة البحث عن العمل، طرق حميد أبواب شركات المدينة، طاف عليها واحدة تلوى الأخرى. لكن بدون جدوى، فالشركات لا يناسبها طالب الفلسفة المتشبع بالمبادئ الكونية كالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية…مل حميد من بروتوكولات الشركات؛ استقبال وانتظار للمدير ثم حوار قد يطول أو يقصر، ثم شكر على المجيء الذي كان بمثابة رفض..
مرت سنة كاملة وحميد يجول ويطوف بين الشركات لعله يجد عملا يلائم دبلومه الذي ظن أنه سيغير وضعه الاجتماعي، خاصة وأنه ينتمي لعائلة فقيرة. هذا ما دفعه للبحث عن أي عمل مهما كان أجره هزيلا لأن الدنيا ضاقت به فأصبح كئيبا حزينا مهموما، بدأ يفقد بعضا من عزيمته وشجاعته المعهودة.عمل في البداية في متجر للمواد الغذائية متوسط الدخل من الساعة الثامنة صباحا حتى التاسعة ليلا، ثم عمل في متجر آخر إلا أنه واجه صعوبات كثيرة فقد كانت الشركة تقطع له في كل شهر من أجره ثمن السلع الضائعة التي لا يعلم كيف ومتى ضاعت، وأخيرا استقر به الحال في العمل بشركة صغيرة للحليب، كان أجرها جيدا مقارنة مع الشركات السابقة.
ركز الكاتب هذه المرة على شخصية مصطفى المناضل الأوطامي الذي تحدى كل العراقيل وواجه العطالة بذكاء، فبعد حصوله على شهادة الإجازة لم يوفق في مباراة ولوج المدرسة العليا للأساتذة في شقه الشفوي، لتبدأ رحلة البحث عن العمل ريثما تتاح له فرصة ثانية لاجتياز المباراة، فالفراغ مفسدة للعقل والجسم وقتل للطاقات والإبداع على حد قول الكاتب، هذا ما جعل مصطفى يفكر في عمل يسد من خلاله حاجياته اليومية، فقرر العمل بالتجارة التي تعلم تقنياتها عن طريق العم التاجر الذي له باع وخبرة في هذا المجال، وبعد فترة قصيرة حجزت الشرطة عربته وسلعته، وبعد مصادرتها وحجزها قدم مصطفى لمركز الشرطة التي علمت أنه طالب وليس أي طالب، بل كان مناضلا يحرض الطلبة على القيام بالمظاهرات فأكرمت ضيافته ضربا ورفسا وسبا…
وبعد هذا الكرم أطلقت الشرطة سراحه، توجه مصطفى إلى المحجز لإرجاع العربة والبضاعة فطلبوا منه مبلغا تعجيزيا مقابل تحريرها. ليرتمي في أحضان العطالة من جديد بعد أن تبخر حلم التجارة بالفواكه، لكن هذه المرة بنفس جديد، بروح التحدي والصمود، وانطلقت رحلة البحث عن العمل ليستقر عند مقهى الأنترنيت، لم يكن يتقاضى إلا القليل، لكنه استغل فرصة العمل بها ليتفرغ للدراسة والمطالعة وتجاوز تعثر التكوين الجامعي والبحث عن الحلم التائه الذي سيظل متمسكا به إلى أن يحققه.
مرت سنة كاملة، ها قد تم الإعلان عن مباريات التعليم ككل سنة. إذا كان مصطفى قد استطاع الخروج من دائرة البطالة، فإن عزيز طالب الجغرافيا الذي ينحدر من أسرة فقيرة لم يسلم منها، بل أصابته وعلمته دروسا قاسية لم يستوعبها. وظل يبحث عن ذاته، عن حلمه التائه، تفرغ عزيز للدراسة واستطاع الحصول على شهادة الإجازة وبعدها شهادة الماستر، لكن ماذا بعد الحصول على هذه الشهادة العليا؟
شهادة عليا وجيب فارغ، شهادة عليا وأفق مسدود، شهادة عليا وأبواب موصدة، ما حدث مع عزيز جعله يلتحق بمعركة المعطلين في شوارع الرباط، حيث آلاف المعطلين يهتفون بصوت واحد، همهم الوحيد البحث عن الحلم التائه، الحصول على وظيفة واستقرار اجتماعي ونفسي، فمادام حاصلا على شهادة عليا كان عليه أن يناضل سنتين وبعدها يمكنه أن يلج عالم الوظيفة بدون مباراة في السلم 11.لكن الطريق ليست مفروشة بالورود دائما، فلكل معركة نضالية مخلفاتها من ضرب وجرح ورفس وركض ومطاردات هيوليودية من طرف الشرطة، تعنيف قد يصل أحيانا لإطلاق الرصاص الحي إذا تم التوجه للأماكن المحظورة. استمر الوضع على هذا الحال لشهور رغم الحوارات التي كانت تقام أحيانا إلا أن لغة التسويف تظل هي المهيمنة على مثل هذه الحوارات السياسية التي تهدف إلى مص غضب المعطلين وكبح لجام المعارك النضالية.
كان عزيز يريد أن يشتغل لأنه من أسرة فقيرة، فقد كان الشغل بالنسبة له هو الكرامة، به يحقق الإنسان ماء وجهه، يقدره الناس وتصير له قيمة اعتبارية في المجتمع، تذكر عزيز صديقه الذي كان يحلم بولوج عالم الطب لا لشيء إلا ليعين عائلته ويقدم لها الخدمات الطبية، بعد أن عانى مع أمه في المستشفيات العمومية، التي لم تكن إلا عنوانا للفشل والتسويف وانتظار الموعد الذي لا يأتي.
خاب أمل عزيز بعد قضاء سنة ونصف من النضال. لم تشمل مجموعته الحل تلك السنة، لكنها أصبحت في مقدمة المجموعات مما يعني أن الحل سيشملهم السنة المقبلة، لذلك وجب عليهم الاستمرار في أشكالهم النضالية حتى تحقيق مطلبهم العادل في ولوج الوظيفة العمومية.
الخلاصة:
نستشف من خلال قراءتنا لأحداث وشخصيات الرواية أنها أحداث مليئة بالتشويق والإثارة لكونها أحداث واقعية مقتبسة من الواقع الاجتماعي مادامت تسلط الضوء على عدة قضايا اجتماعية كالصحة والتعليم والبطالة…هي بمثابة ظواهر سوسيولوجية نابعة من الواقع المغربي عن طريق ثلاث شخصيات أساسية حميد وعزيز ومصطفى. شأنهم في ذلك شأن كل شباب المغرب الحالم والحامل هم الشغل والبحث عن الحلم التائه، لكل منهم حلمه آماله وطموحاته ومتمنياته.