يمكن أن نقارب مفهوم السرقات الأدبية من خلال الرصد التاريخي، أو من خلال ما يمكن أن ننسبه إلى ما هو قضوي إعلامي، أو البيئات الثقافية، وموازاة مع كل هذا نجد حضور الإصطلاح الذي تمليه أكثر من حاجة معرفية باعتباره قاسما مشتركا على امتداد هذه المداخل وإدراكا للمادة المعجمية في مظانها اللغوية، ثم نقلها إلى حقلها الاصطلاحي، فهو إذن يشكل المدخل الأساس لامتلاك ناصية القضايا النقدية من اللفظ والمعنى، والبنية الشعرية، والسرقة، والكذب والصدق و….وغير ذلك.
هذا الاحتفاء الذي حظي به الاصطلاح لن يكون إلا احتفاء باصطلاح السرقة الذي يختزل كل قضايا النقد الأدبي ويكون بذلك الاختيار للاصطلاح يكمن في كون السرقة تلازمنا ونحن نقرأ قضية من القضايا السابقة الذكر، وحين نقول سرقة معناها أن شاعرا متأخرا أخذ عن شاعر متقدم ما سيدخلنا في أكبر قضايا الثقافة العربية وهي الصراع بين القديم والحديث. فقضية السرقة الأدبية في أهميتها تكاد تعادل قضية الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم كونها مترسخة ومتجذرة في تلك القضايا، وما دمنا اخترنا مدخل الاصطلاح، سنبحث في دلالة المفردة من خلال هذا النص من كتاب “جدلية التعالق النصي ” للدكتور الناقد العربي عبد الرزاق بلال، جاء فيه :“ تدل مادة ( س ر ق ) على أخذ الشيء في خفاء وستر دون رضى الطرف المسروق منه وهي المعنى الذي يدل عليه الاستعمال المجازي، إذ نقول :“سرق النظر إليه” أي تحين الغفلة لينظر إليه، واسترق السمع أي تسمع متخفيا من غير رضى المتحاورين و هو فعل مذموم ”.
من خلال هذا النص يتأكد أن لفظة “سرق” محملة في مظنها اللغوي بدلالة قدحية سواء ماديا أو معنويا، وأثناء انتقالها من مجالها اللغوي إلى مجالها الاصطلاحي وجدناها لم تتخل عن حمولتها القدحية تلك، ما جعل النقاد يتكلمون عن السرقة باعتبارها شيئا مذموما، وعيبا من عيوب الشعر، ونعتوا الذي يقوم بهذا العمل بالسارق، وأن شعره رديء غير جيد، وضعيف كما جاء في سرقات أبي نواس وغيره …
في مقابل هذا النص نجد أيضا نصا آخر في كتاب الحاتمي”حلية المحاضرة “، الجزء الثاني،الصفحة 28، يقول فيه:“ كلام العرب ملتبس بعضه ببعض وآخذ أواخره من أوائله، و المبتدع منه والمخترع قليل إذا تصفحته وامتحنته، والمحترس المتحفظ المطبوع بلاغة وشعرا من المتقدمين والمتأخرين لا يسلم أن يكون آخذا من كلام غيره وإن اجتهد في الاحتراس وتخلل طريق الكلام وباعد في المعنى وأقرب في اللفظ وأفلت من شباك التداخل،فكيف يكون ذلك مع المتصنع والمعتمد القاصد… ومن ظن أن كلامه لا يلتبس بكلام غيره فقد كذب ظنه وفضحه امتحانه”.
من خلال هذا النص يتبين أن هناك مستويين، مبتدع ومخترع، وجب التمييز بينهما انطلاقا من القاعدة الأساس التي قدمها الحاتمي “كلام العرب ملتبس بعضه ببعض” أي متداخل، ومن يدعي أنه مبتدع أو مخترع فموجب انتمائه إلى منظومة كلام العرب (شعر العرب) الخاضعة لهذه القاعدة لن يسلم هو الآخر من الخضوع إليها، وحتى لو خرج عنها فلن تسلم بواطن تأليفه من رواسب الأخذ من الأوائل.
إذن، إن نحن عدنا إلى الشعر القديم، نكاد نجزم أن أمر الابتداع والاختراع يكاد ينحصر في امرئ القيس والمهلهل بالرغم من أن لامرئ القيس بيتا شعريا يشير فيه إلى أن هناك من سبقه لقول الشعر:
عُوجا على الطلل المحل لعلنا***نبك الديار كما بكى ابن حذام
ولكننا سنسلم وبفضل سبقهما زمنيا لقول الشعر أنه لم يسبقهما أحد، وحتى لو قلنا أن ابن حذام كان سباقا لذلك، فمن سبق ابن حذام؟ ومن سبق من سبق ابن حذام؟….. ما سيؤدي إلى سلسلة من التساؤلات نختزلها فيما ذهب إليه اجتهاد العلماء والأدباء في أن فعل الكينونة هو الأصل، ثم نعتبره موجها إرشاديا عقديا بناءً على نظرية توماس روبرت مالتوس حول التكاثر السكاني طبعا دون إغفال القاعدة المنطلق في نص الحاتمي.
إذن، فمن سيأتون بعد امرئ القيس والمهلهل لا بد أن يأخذوا عنهما، ما يحيلنا على التعرف على عُرف تداوله العرب وهو حفظ الشعر المنتَسَب لغيرهم من الشعراء، ثم استظهاره وبعد ذلك نسيانه، ثم النظم الجديد من عندية الشاعر المتأخر كل حسب المخزون الشعري العالق في ذهنه سواء بإرادته أو بغيرها. ثم هناك معطى آخر لتأكيد هذا التصور مفاده أن الشاعر يوجد بين نارين في ظل الصراع بين القديم والحديث كما أشرنا، فإذا هو احترم القواعد الشعرية سيُتهم بالسرقة، وإذا هو خرج عنها سيُتهم بالبدعة، وإن اختار التوقف عن قول الشعر سيُوقع شهادة وفاة النص، ولكي يخرج الشاعر من هذا المأزق كان السبيل الأول هو البحث في هوية النص باعتباره كائنا حيا يرفض الموت ويتحداه بالالتفات إلى نصوص سابقة تمده بمشعل الإبداع الشعري كي تستمر حياته، من هنا وجب علينا ألا نسلم بأن السرقة شيء مذموم، بل وجبت إعادة النظر في دلالتها ما دامت حياة النص اللاحق رهينة بالاستمداد من نص سابق، وهذا طبيعي لأن أول من فطن لهذا المصطلح (سرقة) هو أبو هلال العسكري في باب الأخذ أو السرقات في كتابه “الصناعتين”، ثم ابن قتيبة في كتابه”الشعر والشعراء”، إذ لم ترد عنه كلمة سرقة إلا مرة واحدة وثلاث مرات عن غيره، وفضل مصطلح الأخذ لأنه مصطلح محايد مقابل مصطلح السرقة الجاني على الفاعل إن لم يُتأكد من نيته في فعله، ومع استحضار مصطلح النية، لا بد إذن من ربط اللفظة بالسياقات التي توجد بها، ولخير مثال لذلك، ما قام به الصحابي الجليل سيدنا عمر ابن الخطاب رضي الله عنه حين أبطل حد قطع يد السارق حين كان السياق عام الجوع، ما نجده أيضا في كتاب”جدلية التعالق النصي”، الأخذ من الشعر هو تضمين، والأخذ من النثر ليصبح شعرا هو عقد ومن الشعر ليصير نثرا هو حل، و الأخذ من القرآن إلى الشعر هو اقتباس … إلى آخر ذلك ….وذلك في إشارة من صاحب الكتاب إلى ستة وعشرين مستوىً لا يجرم النقاد من خلالها الشاعر الآخذ من كلام غيره ممن سبقوه مقابل فقط ستة مصطلحات، النسخ، والمسخ، والانتحال، والغضب، والسرقة، والإغارة، فالمعادلة المائلة تؤكد أن حياة النص تتأتى من خلال الالتفات إلى نص سابق حسب النية طبعا، وهنا لا بد من الإشارة إلى قول رائدة من رواد جماعة “تيل كيل” جوليا كريستيفا:“ كل نص هو فسيفساء نصوص أخرى وأن كل نص هو امتصاص وتحويل لوفرة من النصوص”.
إذن، بعد كل هذا يمكننا القول إنه بعدما خالفت الثقافة العربية القديمة قيمة لسان العرب ومحاميها وجنديها المحارب بالشعر وقالت إن له شيطان يوحي له بقول الشعر وجعلته وسيطا في ذلك لا غير، أو إنه يقول الشعر حسب الموقع النفسي أو الثقافي الذي وُجد فيه، أو السياسي ….
وقد وجدنا مقابل ذلك دراسات تعيد النظر في هذا التصور وتذهب في اتجاه خلق تصور جديد لإنتاجية النص عن طريق التوليد الذي يتم بدوره عن طريق مستويات عدة تدور حول المحور الأساس الذي هو الأخذ ومنها الإبداع، والتوليد، والمرادفة، والكشف، والتضمين، والحل، والاقتباس، والعقد، والاجتلاب، والتلميط، والإجازة، والعكس، والمناقضة، والالتقاط، والإلمام، و….. وغير ذلك.
نستخلص مما سبق أن السرقات الأدبية والشعرية خاصة، هي بالدرجة الأولى مُكوّن إنتاجي، فقد نقلنا تدريجيا الاصطلاح من دلالته القدحية المذمومة إلى دلالة موجبة، وأنه رغم أنها في الأصل لدى الكثيرين سرقة إلا أنها الأساس في استمرارية إنتاج النصوص.