منار الإسلام
موقع تربوي تعليمي أكاديمي

التعليل المقاصدي للأحكام الشرعية – اجتهادات ابن رشد أنموذجا –

0

يعتبر القول بتعليل الأحكام أحد أهم مباحث علم المقاصد، لأنها غايات الأحكام ومرام الشارع من وضع الشريعة.

وقد دأب علماء الشريعة الإسلامية على وصف أحكام الشريعة إما بالتعبدية أو بالمعللة، أو بكونها معقولة المعنى أو غير معقولة المعنى، ويقصدون بذلك وجود أحكام شرعية لها غرض وعلة وحكمة معينة مصرح بها في النص الشرعي وتكون جالبة للمنافع والمصالح أو دافعة للمفاسد والضرر، أو قد يدركها المجتهد بالنظر والاستنباط.

فإذا لم تظهر العلة من تشريع الحكم التكليفي قيل أنه حكم تعبدي أو حكم غير معقول المعنى، أي لم يدرك العقل الفقهي فائدته وحكمته ومقصده.

وقد ذهب أبو الوليد محمد بن رشد الأندلسي ( ت 595 هـ) في نفس المنحى بإقراره هذا التأرجح والتنويع في توصيف الأحكام الشرعية من حيث كونها تعبدية أو معللة، رغم أنه في غالب الأحيان يكون مجرد ناقل لأقوال الفقهاء ومذاهبهم الفقهية، لكن الذي يميزه ويشهد له به هو كثرة وقوفه وتنبيهه على ما ينبني عليه هذا التفريق والتنويع من اجتهادات واختيارات فقهية، كما أنه لم يقصر تعليل الأحكام على ما سوى العبادات من معاملات وعادات وحدود وجنايات ومناكحات وغيرها من أبواب الفقه، على اعتبار أن العبادات في عمومها غير معللة، وهو ما عبر عنه الغزالي بقوله: ” مبنى العبادات على الاحتكامات”[1]، بل أمضى نظره التعليلي في أحكام العبادات كإمضائه فيما سواها من المجالات التشريعية. ولذلك نجده يقف عند الكثير من أحكام العبادات لينبه على علتها ومقصدها والغاية من تشريعها، وليبين ما قد يترتب على تعليلها أو عدم القول به.

ومن النماذج التي يمكن سوقها في هذا الأمر اختلاف الفقهاء في مسألة وجوب النية في الوضوء، قال رحمه الله: ” وسبب اختلافهم تردد الوضوء بين أن يكون عبادة محضة أعني: غير معقولة المعنى، وإنما يقصد بها القربة فقط كالصلاة وغيرها، وبين أن يكون عبادة معقولة المعنى كغسل النجاسة، فإنهم لا يختلفون أن العبادة المحضة مفتقرة إلى النية، والعبادة المفهومة المعنى غير مفتقرة إلى النية، والوضوء فيه شبه من العبادتين، ولذلك وقع الخلاف فيه، وذلك أنه يجمع عبادة ونظافة، والفقه أن ينظر بأيهما هو أقوى شبها فيلحق به” [2].

هذا النص لابن رشد يبين أن العبادات وغيرها من المجالات التشريعية منها ماهو معلل معقول المعنى، ومنها ما هو تعبدي، ومنها ماهو متردد بين الوصفين لجمعه بين المصلحة والتعبد، كالوضوء جمع بين العبادة الصرفة والمصلحة البينة وهي النظافة.

كما يورد ابن رشد مسائل أخرى تجلي الحضور التعليلي في بيان دواعي الخلاف الفقهي في أبواب العبادات ومنها باب الطهارة، حيث يعرض اختلاف الفقهاء في مسألة غسل اليد قبل إدخالها في إناء الوضوء، ويرجع ذلك إلى اختلافهم في مفهوم الثابت من حديث أبي هريرة أنه – عليه الصلاة والسلام – قال: “إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلْيَغْسِلْ يَدَهُ قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَهَا الْإِنَاءَ، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ. وفي بعض رواياته: “فَلْيَغْسِلْهَا ثَلَاثًا“، فعامة الفقهاء يجعلون الحكم الشرعي هنا تعبديا ومنهم من حمله على الوجوب ومنهم من حمله على الندب والاستحباب، وذلك لأنه جزء من عبادة الوضوء أو مقدمة له. لكن ابن رشد بنظرته التعليلية نحى منحا آخر في فهم مقصد الحديث النبوي عندما قال: ” والظاهر من هذا الحديث أنه لم يقصد به حكم اليد في الوضوء، وإنما قصد به حكم الماء الذي يتوضأ به إذ كان الماء مشترطا فيه الطهارة “[3].

وعلى هذا الفهم التعليلي المقاصدي، فغسل اليد في هذا الحديث النبوي ليس عملا من أعمال الوضوء وليس مقدمة من مقدماته، بل هو حكم وخلق وأدب متعلق بالمحافظة على طهارة الماء نظافته لمن أراد الماء للوضوء أو أراد الماء لأي غرض آخر، إذا شك في طهارة اليدين وبالأحرى إن تيقن من ذلك. كما ينبني على هذا الفهم أن من استيقن طهارة اليدين ونظافتهما فلا بأس أن يأخذ بهما الماء دون حاجة لغسلهما مسبقا.

كما يورد في نفس الباب مسألة إزالة النجاسة واختلاف الفقهاء في صحة إزالتها بما سوى الماء من المواد المائعة أو الجافة، ونسب الآراء لأصحابها عندما قال: ” فذهب قوم: إلى أن ما كان طاهرا يزيل عين النجاسة مائعا كان أو جامدا في أي موضع كانت، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه وقال قوم: لا تزال النجاسة بما سوى الماء إلا في الاستجمار فقط المتفق عليه، وبه قال مالك والشافعي”[4]، ثم بين سبب اختلافهم قائلا: ” وسبب اختلافهم في إزالة النجاسة بما عدا الماء فيما عدا المخرجين هو: هل المقصود بإزالة النجاسة بالماء هو إتلاف عينها فقط فيستوي في ذلك مع الماء كل ما يتلف عينها؟ أم للماء في ذلك مزيد خصوص ليس بغير الماء؟”[5].

وقد كان على المضيقين وهم المالكية والشافعية تعليل موقفهم، فقال الشافعية بكونه حكما شرعيا تعبديا، كما قال أبو الوليد: “ولما طالبت الحنفية الشافعية بذلك الخصوص المزيد الذي للماء لجئوا في ذلك إلى أنها عبادة إذ لم يقدروا أن يعطوا في ذلك سببا معقولا، حتى إنهم سلموا أن الماء لا يزيل النجاسة بمعنى معقول، وإنما إزالته بمعنى شرعي حكمي، وطال الخطب والجدل بينهم: هل إزالة النجاسة بالماء عبادة أو معنى معقول، خلفا عن سلف، واضطرت الشافعية إلى أن تثبت في الماء قوة شرعية في رفع أحكام النجاسات ليست في غيره، وإن استوى مع سائر الأشياء في إزالة العين، وأن المقصود إنما هو إزالة ذلك الحكم الذي اختص به الماء لإذهاب عين النجاسة، بل قد يذهب العين ويبقى الحكم فباعدوا المقصد”[6].

لكن إذا كان الشافعية قد باعدوا المقصد بتعبير ابن رشد في تفسير خصوصية الماء بالتعبد، فكيف علل المالكية وابن رشد هذا الحكم الشرعي؟

الجواب يظهر في كلام ابن رشد وهو يضعف قول الشافعية قائلا: “وقد كانوا اتفقوا قبل مع الحنفيين أن طهارة النجاسة ليست طهارة حكمية، أعني شرعية، ولذلك لم تحتج إلى نية، ولو راموا الانفصال عنهم بأنا نرى أن للماء قوة إحالة للأنجاس والأدناس وقلعها من الثياب والأبدان ليست لغيره، ولذلك اعتمده الناس في تنظيف الأبدان والثياب، لكان قولا جيدا، وغيره بعيد، بل لعله واجب أن يعتقد أن الشرع إنما اعتمد في كل موضع غسل النجاسة بالماء لهذه الخاصية التي في الماء، ولو كانوا قالوا هذا لكانوا قد قالوا في ذلك قولا هو أدخل في المذهب الفقه الجاري على المعاني، وإنما يلجأ الفقيه إلى أن يقول ” عبادة ” إذا ضاق عليه المسلك مع الخصم، فتأمل ذلك فإنه بين من أمرهم في أكثر المواضع”[7].

يظهر بوضوح جلي ميل ابن رشد إلى التعليل المقصدي للأحكام الشرعية والترجيحات الفقهية حتى ونحن في أبواب العبادات.

وفي نفس الاتجاه يعلل ابن رشد سبب الاختلاف حول حكم جلسة استراحة خطيب الجمعة بعد عرض الأقوال في المسألة قائلا: “ليس من شرط الخطبة عند مالك الجلوس ، وهو شرط عند الشافعي،  وذلك أنه من اعتبر المعنى المعقول منه من كونه استراحة للخطيب لم يجعله شرطا، ومن جعل ذلك عبادة جعله شرطا”[8].

وفي باب الصيام، أورد ابن رشد خلاف الفقهاء حول ما يرد جوف الصائم مما ليس بمغذ، وفيما يرد الجوف من غير منفذ الطعام والشراب مثل الحقنة، وفيما يرد باطن سائر الأعضاء ولا يرد الجوف مثل أن يرد الدماغ ولا يرد المعدة، ثم بين سبب خلافهم وهو: ” قياس المغذي على غير المغذي، وذلك أن المنطوق به إنما هو المغذي”[9]، ليبين أن الخلاف منشأه النظرة التعبدبة أو النظرة التعليلية للحكم الشرعي، يقول: ” من رأى أن المقصود بالصوم معنى معقول لم يلحق المغذي بغير المغذي، ومن رأى أنها عبادة غير معقولة، وأن المقصود منها إنما هو الإمساك فقط عما يرد الجوف سوى بين المغذي وغير المغذي”.[10]

وفي مجال الزكاة يسهب ابن رشد في تعليل الأحكام أو تردد الفقهاء فيها بين القول بالتعبد وبين القول بتعليلها مقاصديا والجريان معه. ومن الأمثلة البينة لذلك التردد، نذكر اختلاف الفقهاء في مسألة دفع القيمة في الزكاة، فمن بنى على التعليل أجاز الأمر وبه قال أبو حنيفة، ومن بنى على التعبد التزم النص بإخراج الزكاة من جنس المال وبه قال مالك والشافعي… وسبب اختلافهم: هل الزكاة عبادة، أو حق واجب للمساكين؟ فمن قال: إنها عبادة، قال: إن أخرج من غير تلك الأعيان لم يجز؛ لأنه إذا أتى بالعبادة على غير الجهة المأمور بها، فهي فاسدة، ومن قال: هي حق للمساكين، فلا فرق بين القيمة والعين عنده. وقد قالت الشافعية: لنا أن نقول – وإن سلمنا أنها حق للمساكين -: إن الشارع إنما علق الحق بالعين تصدر منه لتشريك الفقراء مع الأغنياء في أعيان الأموال. والحنفية تقول: إنما خصت بالذكر أعيان الأموال تسهيلا على أرباب الأموال، لأن كل ذي مال إنما يسهل عليه الإخراج من نوع المال الذي بين يديه”[11].

فإذا كانت الأمثلة السابقة كلها من أحكام العبادات التي تخضع للتعليل المقاصدي سواء في أصولها أو فروع أحكامها، فإن ما سواها من أحكام المعاملات يكاد يكون كله معللا، وحتى عندما نقف أحيانا قليلة على القول بكونها تعبدية غير معقولة المعنى عند بعض الفقهاء، فإنا نجد الكثير من الفقهاء يبحث لها عن علل ومناسبات، ومنهم الإمام ابن رشد، ففي مسألة الإيلاء[12] حين لا يفيء المولى إلى زوجته ويلزمه بذلك الطلاق، ذكر اختلاف الفقهاء في وجوب العدة على المطلقة في هذه الحالة عدة بعد الطلاق، بالنظر لكون العدة عمل تعبدي، وهو قول الجمهور، أم أن الشهور التي قضتها في الإيلاء كافية لبيان حال الرحم، فهي في مقام العدة بالنظر للتعليل المقصدي، حيث قال: ” فإن الجمهور على أن العدة تلزمها، وقال جابر بن زيد: لا تلزمها عدة إذا كانت قد حاضت في مدة أربعة الأشهر ثلاث حيض، وقال بقوله طائفة، وهو مروي عن ابن عباس. وحجته أن العدة إنما وضعت لبراءة الرحم، وهذه قد حصلت لها البراءة. وحجة الجمهور أنها مطلقة فوجب أن تعتد كسائر المطلقات”[13]، ويعلق ابن رشد موضحا كنه الخلاف وجوهره قائلا: ” وسبب الخلاف أن العدة جمعت عبادة ومصلحة: فمن لحظ جانب المصلحة لم ير عليها عدة، ومن لحظ جانب العبادة أوجب عليها العدة”[14].

وعلى الرغم من عدم تبني ابن شد لترجيح معين في المسألة، إلا أنه في مواطن أخرى من كتابه تناول أحكام العدة كتشريع مصلحي معلل بحكم غائية تراعي مقاصد جلية، فعندما عرض الخلاف في مسألة: “هل تطلق المرأة بانقضاء الأربعة الأشهر المضروبة بالنص للمولي، أم إنما تطلق بأن يوقف بعد الأربعة الأشهر فإما فاء وإما طلق؟ “[15]، عرض القاضي رأي أبي حنيفة معللا بقوله: ” وأما أبو حنيفة فإنه اعتمد في ذلك تشبيه هذه المدة الرجعية، إذ كانت العدة إنما شرعت لئلا يقع منه ندم. وبالجملة فشبهوا الإيلاء بالطلاق الرجعي، وشبهوا المدة بالعدة وهو شبه قوي، وقد روي ذلك عن ابن عباس”[16].

وفي مسألة أخرى من مسائل العدة قال: “وشذ قوم فقالوا: المختلعة لا يتزوجها زوجها في العدة ولا غيره، وهؤلاء كأنهم رأوا منع النكاح في العدة عبادة”[17].

إن الأمثلة السابقة تظهر بما لا يدع مجال للشك الميل الكبير لابن رشد للترجيحات المبنية على التعليل المقاصدي المعقول في كثير من مواطن الاختلاف الفقهي، وفي كثير من مجالات الشريعة من عبادات ومعاملات وغيرها، بل يرى أن هذا هو الأصل الذي يجب أن يعول عليه، إلا إذا تعذر ذلك على عقل الفقيه وفهمه، قال رحمه الله: “وإنما يلجأ الفقيه إلى أن يقول: ” عبادة ” إذا ضاق عليه المسلك مع الخصم، فتأمل ذلك فإنه بين من أمرهم في أكثر المواضع “[18].


[1] – شفاء الغليل في بيان الشبه والمخيل ومسالك التعليل، ص 204، تحقيق: حمد الكبيسي، بغداد، مطبعة الرشاد، 1981م.

[2] – بداية المجتهد، تحقيق: أبو الزهراء حازم القاضي – دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع- بيروت – لبنان – الطبعة – 1422هـ – 2002 م – ج1/ص24.

[3] – بداية المجتهد، ج1/ص26.

[4] – بداية المجتهد، ج1/ص160.

[5] – بداية المجتهد، ج1/ص160 .

[6] – بداية المجتهد، ج1/ص161،162.

[7] – بداية المجتهد، ج1/ص162.

[8] – بداية المجتهد، ج1/ص298.

[9] – بداية المجتهد، ج1/ص539.

[10] – بداية المجتهد، ج1/ص539.

[11] – بداية المجتهد، ج1/ص494، 495.

[12] – والإيلاء: هو أن يحلف الرجل أن لا يطأ زوجته، إما مدة هي أكثر من أربعة أشهر، أو أربعة أشهر، أو بإطلاق على الاختلاف المذكور

[13] – بداية المجتهد، ج2/ص174.

[14] – بداية المجتهد، ج2/ص174.

[15] – بداية المجتهد، ج2/ص170.

[16] – بداية المجتهد، ج2/ص171.

[17] – بداية المجتهد، ج2/ص147.

[18] – بداية المجتهد، ج1/ص162.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.