الإستشراق الألماني والاهتمام بالسيرة:
ابتدأت الدراسات العربية والإسلامية في ألمانيا في زمن متأخر مقارنة بباقي الدول الأوربية، ولم تنشط إلا في القرن الثامن عشر، وقد تميز هذا الاستشراق بأمور منها الاهتمام بالقديم والتركيز على دراسة التراث العربي تحقيقا وجمعا وفهرسة ودراسة. ومن هذا التراث السيرة النبوية، وكلنا يذكر نشر فيردناند فستنفيلد F.Wustenfeld لسيرة ابن هشام سنة 1858-1860. والتي نقلها إلى الألمانية المستشرق جوستاف فايل G.Weil سنة 1864. كما تناول جريمه H.Grimme سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في مجلدين، وقد أخذت بعض الدراسات الألمانية للسيرة النبوية طابعا فلكلوريا يمزج الأدب الشعبي والخرافات بأحداث التاريخ من ذلك ما كتبه رودي باريت R.Paret من قبيل:
- تاريخ الإسلام على ضوء الأدب الشعبي(1927).
Die Geschichte des Islams im Spiegel der arabischen Volksliteratur.
- أدب المغازي الخرافي، أشعار عربية عن حروب الإسلام في عصر الرسول محمد(1930).
Die Legerdare Maghazi-Literatur ,arabische Dichtungen uber muslimische kriegszuge Zu Mohammeds Zeit.
إنه ينبغي لنا الإقرار بأن جزءا من صورتنا وصورة إسلامنا الحنيف وصورة النبي صلى الله عليه وسلم -في الغرب اليوم- يتحملها عنصران أساسان: الاستشراق من جهة، والإعلام الصهيوني من جهة ثانية. من هنا توحدت هذه الرؤية إزاء الشرق، وإن اختلفت بالنسبة إلى أشياء أخرى، ولم يتمكن إنتاج المستشرقين أن يخترق جدار المرآة التي يرى الشرق بواسطتها، إلا استثناء، ولذلك لم يطرأ أي تحول أساسي في منهج البحث لديهم بالرغم من تغاير الأزمان، واختلاف البلدان التي ينتسبون إليها (مقبول إدريس:الدراسات الاستشراقية:1).
لقد عمل الفكر الاستشراقي كما يقول دينيه Dient على رسم صورة عن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم “يخيل إلينا بأننا نسمع محمدا يتحدث في مؤلفاتهم إما باللهجة الألمانية وإما باللهجة البريطانية أو الفرنسية، ولا نتمثله بهذه العقلية والطباع التي ألصقت به يحدث عربا باللغة العربية”(عبد الحليم محمود: أوربا والإسلام، 106).
تعريف بالمستشرق فلهاوزن:
هو يوليوس فلهاوزن JULIUS WELLHAUSEN مستشرق ألماني مسيحي مؤرخ لليهودية و لصدر الإسلام، كما أنه ناقد للكتاب المقدس (العهد القديم). ولد في 17 مايو سنة 1844 في قرية هاملن Hameln بنواحي هانوفر Hanover، وتوفي في 7 يناير سنة 1918 في مدينة جوتنجن. درس على يد إيفلد Ewald H.G.A. الذي كان من أبرز العلماء الذين اشتغلوا باللغات السامية وبنقد التوراة وذلك في جامعة جوتنجن.
وفي سنة 1872 صار أستاذا ذا كرسي في جامعة جريفسفيلد، لكنه سرعان ما ترك هذا الكرسي بسبب كتاباته في نقد الكتاب المقدس. فانتقل إلى جامعة هله Halle في سنة 1882 حيث قام بتدريس اللغات الشرقية، وانتقل منها في سنة 1885 إلى جامعة ماربورج، ثم في سنة 1892 صار أستاذا في جامعة جوتنجن خلفا لباول دي لاجارد P.DE La garde، وظل في منصبه هذا حتى سنة 1913 حيث أحيل على المعاش وبقي في جوتنجن حتى وفاته بها (بدوي:موسوعة المستشرقين،408).
اهتمام فلهاوزن بالسيرة النبوية وبتاريخ الإسلام:
كتب فلهاوزن كتابات نقدية كثيرة عن الكتاب المقدس وتاريخه وتاريخ إسرائيل، فنقد أسفار موسى الخمسة، وكتب عن الأناجيل (إنجيل لوقا وإنجيل متى وإنجيل مرقص، وإنجيل يوحنا)، كما ترك فلهاوزن إنتاجا فيما كتبه عن تاريخ الإسلام لا يقل عن ما كتبه في الدراسات المتعلقة بنقد الكتاب المقدس. وقد كان حسب الدارسين أول المستشرقين استفادة من المصادر المتقدمة لتاريخ الإسلام وخصوصا تاريخ الطبري الذي كان يشرف عليه دي خويه في ليدن، وباستغلال فلهاوزن للمادة الغزيرة التي يقدمها تاريخ الطبري ألف هذا المستشرق عددا من الكتب نذكر منها:
- أحزاب المعارضة السياسية الدينية في صدر الإسلام.(برلين،1903)، وقد ترجمه الدكتور عبد الرحمن بدوي إلى العربية سنة 1958 في برن، ونشره في القاهرة سنة 1959 تحت عنوان: أحزاب المعارضة السياسية الدينية في صدر الإسلام، الخوارج والشيعة (مكتبة النهضة المصرية).
- الدولة العربية وسقوطها. ويقصد بها الدولة الأموية باعتبار أن الحكم فيها كان للعرب خاصة دون سائر الأجناس التي اعتنقت الإسلام، وقد ترجم إلى العربية مرتين، الأولى قام بها عن الإنجليزية يوسف العش، والثانية عن الإنجليزية والألمانية وقام بها الدكتور محمد عبد الهادي أبو ريدة.
وقد أصدره يوليوس فلهاوزن في برلين سنة 1902 بعنوان:
Das arabische Reich und sein sturz.
كما كتب بقايا الوثنية العربية Reste arabischen skizzen und Vorarbeiten ضمن سلسلة بعنوان Heidentums Berlin.1887;2.aufl.1897
- وكتب فلهاوزن المدينة قبل الإسلام، و تنظيم محمد للجماعة في المدينةMedina vor dem Islam . Muhammeds Gemmeimdeordrung von Medina
منهج الإسقاط عند فلهاوزن:
يعتبر بعض المهتمين بالدراسات الاستشراقية عملية الإسقاط منهجا معتمدا لدى بعض الدارسين الغربيين للعلوم الإسلامية (عبد العظيم الديب:المنهج عند المستشرقين، 363). والإسقاط كما تعرفه دوائر علم النفس الحديث هو عبارة عن”تفسير الأوضاع والمواقف والأحداث بتسليط خبراتنا ومشاعرنا عليها، والنظر إليها من خلال عملية انعكاس لما يدور في داخل نفوسنا”(أسعد رزق: موسوعة علم النفس،40).
وإذا تأملنا وجدنا هذه العملية ذات الأصل النفسي يمكن النظر إليها باعتبارها آلية من آليات التقصيد في القراءة والتأويل للوقائع والأحداث والظواهر. فالقارئ للنصوص والأحداث على سبيل المثال في السيرة النبوية يمكن ان ينظر إليها حين يريد تفسيرها من زاوية يوقع عليها أفكاره ومعتقداته ومقاصده المسبقة، الشيء الذي يذهب بالركن العلمي والموضوعي في القراءة ويتركها مجرد تخرصات وأوهام وإن كانت لها صلة بالقراءة فهي من صنف القراءات المغرضة.
حرص فلهاوزن على أن يقرأ النصوص قراءة علمانية، أي يعتمد فقط على النصوص ويخضعها لنقد شديد رغبة منه بشكل نهائي وأكيد في قطع الصلة مع كل ما يمكن أن يكون لديه مدلول ديني. وسوف يدفعه كتاب كوسان دي برسفال”دراسة حول التاريخ العربي” في هذا اتجاه (أحمد حسن عبد السلام:تاريخ الاستشراق الألماني،200).
أول ما يمكن لحظه في دراسة فلهاوزن للسيرة هو الحيز الصغير الذي أولاه لها في كتابه”تاريخ الدولة العربية من ظهور الإسلام إلى نهاية الدولة الأموية” إذ اختصرها في حدود تزيد قليلا عن ثلاثين صفحة فقط مما يعكس أهميتها الضئيلة عنده، ويعطي انطباعا بعدم قيمتها من وجهة نظره.
ونحن نورد في هذا المقام جملة من الأمثلة/الشبهات على ما نقول انطلاقا من عمل فلهاوزن وتفسيره لقسم متقدم من تاريخ الإسلام عني فيه بتقديم جانب من سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم.
الشبهة الأولى: محمد صلى الله عليه وسلم صانع القرآن:
نذكر في هذا المقام بأن تصور فلهاوزن عن النبي والقرآن ليس بدعا في المنظومة الاستشراقية بعامة والألمانية بخاصة، وذلك أنه لا يخرج عن التيار العام الذي يرى في النبي محمد صلى الله عليه وسلم صانع القرآن ومختلقه ومبدعه في أحسن الأحوال، وهو بذلك يرفض أن يعتبر القرآن كتابا موحى به من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم، لأن مفهوم الوحي ليس مفهوما علميا عنده حتى يقر به أو يؤمن به أو يجعله مسلمة عنده(فلهاوزن: تاريخ د. ع.، 2). وموقفه هذا تجده مرة صريحا ومرات أخرى مستضمرا في طي ما يبنيه ويؤسسه من أفكار في قراءته للسيرة النبوية.
ولكي نفهم موقف فلهاوزن وغيره من المستشرقين من الوحي يجب أن نربطه بالموقف العقلاني والوضعي من النبوة التي هي فاصل قاطع بيننا وبينهم ولا قيمة لأي حوار أو أي تواصل ما داموا على إصرارهم في معاملة نصوص الوحي مثلما يعاملون نصوص شكسبير وراسين وموليير. يقول تعالى مفندا مزاعمهم {وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد}(فصلت:41-42). ويقول أيضا جل في علاه:{وما هو بقول شاعر قليلا ما تومنون ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون، تنزيل من رب العالمين}(الحاقة:41-43).
إن موقف المسلمين في معالجة هذه القضية ليبدو أكثر نضجا في الاعتراف بنبوة موسى وعيسى وكل الأنبياء {لا نفرق بين أحد من رسله}. (البقرة:285). لاعتبار ذلك من صلب الإيمان الذي لا يكمل إلا بجمع ذلك كله، غير أنه مع إيماننا بهذه الرسالات ليس لنا شك في ان رسالة محمد صلى الله عليه وسلم هي الخاتمة المهيمنة على ما سبقها، وأن ما بأيدي غيرنا من كتب ليست مما بقي على أصل وضعه بل تطرق إليه التحريف والتبديل. ولو بقي على حاله مصونا كما حفظ القرآن الكريم لما اتسع الخلاف بيننا وبينهم.
الشبهة الثانية: محمد صلى الله عليه وسلم السياسي العلماني:
يفهم من خلال قراءة آراء فلهاوزن عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم أنه ليس إلا صاحب أطماع سياسية وليس له من النبوة إلا الادعاء وركوبها مطية لبلوغ أغراض محض دنيوية، فقد كان محمد صلى الله عليه وسلم رجلا”ثائرا” في مكة على قومه،”مخالفا لما هم عليه، أما في المدينة فقد بلغ ما كان يرمي إليه، ولقد أحدث هذا تغييرا كبيرا لا مجرد فرق ظاهري. وذلك لأن المعارضة دائما تتغير عندما تصل إلى الرئاسة، وإن السياسة عند تطبيقها تبعد كثيرا عن الفكرة التي قامت عليها، لأن تقديرها للأشياء في أول الأمر يكون بحسب الإمكان لا بحسب الواقع. وهذا هو الذي يفسر لنا أن النبي لما صار رئيسا سياسيا تغير عما كان عليه لما كان لا يزال طامحا في الرئاسة، وأن الحكومة الثيوقراطية الفعلية تغيرت عنها لما كانت فكرة، وعلى هذا صار الطابع السياسي يزداد بروزا والطابع الديني يزداد تراجعا. (فلهاوزن: تاريخ.د.ع، 5-6).
ورد هذه الأوهام من جهات خمسة: أولها أن رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم رسالة من السماء إلى الأرض وليست حركة ثورية أرضية إنطلقت من الأرض وانتهت إلى الأرض كما هو شأن الحركات التحررية والمعارضة التي تحصر اهتماماتها وأهدافها في إسقاط نظام وإقامة نظام بديل عنه. ثانيها أن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم رسالة هداية للإنسان وإنقاذ للبشرية جمعاء من براثن الكفر والإشراك بالله، ولم تكن معارضة تستهدف بناء دولة في المدينة أو في مكة. ثالثها أن بناء الدولة الإسلامية ليس هدفا في حد ذاته لرسالة محمد صلى الله عليه وسلم، بل هو أسلوب ووسيلة فقط لتيسير أمور التربية والدعوة والعيش في فضاء تحكمه القيم الإسلامية النظيفة. رابعها أن تصور ثنائية الإمكان والواقع تصور محدود ونسبي تحكمه رؤية إسقاطية لما عليه النماذج السياسية الوضعية التي يمكنها أن تتخلى عن المبدأ لصالح إجراءات التطبيق والتنزيل. وهو أمر لم يكن في سياسة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليفهم من هذه الزاوية الضيقة، بل من زاوية أوسع هي زاوية الرحمة بالناس والرأفة بهم وأخذهم بالتدرج والحكمة في قبول الرسالة الإلهية الجديدة والبلوغ بهم حد التعلق بها والدفاع عنها. وخامسها والأخير أن سياسة النبي صلى الله عليه وسلم ليست من الصنف الثيوقراطي، وذلك لسببين اثنين غابا عن فلهاوزن وأمثاله:
الأول: أن نظام حكومة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قائما في شقه الدنيوي على أمور الشورى وإشراك ذوي الخبرة والاختصاص من أهل الحل والعقد في تدبير شؤون الدولة الإسلامية، يقول تعالى: {والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون} (الشورى:38)، ويقول أيضا: {فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر} (آل عمران:159) وهو أمر يتنافى وطبيعة النظام الثيوقراطي ذي الطبيعة المركزية.
الثاني: أن تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم عند المستشرقين واحدة ولا يكادون يميزون بين تصرفاته بالاعتبار النبوي الرسولي وتصرفاته بالاعتبار الإنساني الطبيعي الجبلي. ومن فاته هذا العلم فاته فهم عميق لمجريات السيرة النبوية ووقع في خبط وسقط. يقول العز بن عبد السلام: “أما مصالح الآخرة وأسبابها ومفاسدها فلا تعرف إلا بالشرع، فإن خفي منها شيء طلب من أدلة الشرع، وهي الكتاب والسنة والإجماع والقياس المعتبر والاستدلال الصحيح. وأما مصالح الدنيا وأسبابها ومفاسدها، فمعروفة بالضرورات والتجارب والعادات والظنون المعتبرات، فإن خفي شيء من ذلك طلب من أدلته. (العز بن عبد السلام: قواعد الأحكام في مصالح الأنام،1/10).
الشبهة الثالثة: محمد صلى الله عليه وسلم وظلمه لليهود:
يذكر فلهوازن أن النبي صلوات ربي وسلامه عليه حاول أن يظهر اليهود بمظهر المعتدين الناكثين للعهد، وفي غضون سنوات قليلة أخرج كل الجماعات اليهودية أو قضى عليها في الواحات المحيطة بالمدينة، ولقد التمس لذلك أسبابا واهية. (فلهوازن: تاريخ الدولة العربية،15-16)، فما تكون هذه الأسباب الواهية ياترى؟ وهل مسائل العرض والشرف مسائل تافهة؟ يحكى أن امرأة من العرب قدمت بجلب لها فباعته بسوق قينقاع، وجلست إلى صائغ فجعلوا يريدونها على كشف وجهها، فأبت فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده على ظهرها، فلما قامت انكشفت سوءتها، فضحكوا منها فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله، وكان يهوديا وشدت اليهود على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين فغضب المسلمون على اليهود فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع (ابن سيد الناس:عيون الأثر،1/385). وفلهاوزن الذي ذهب إلى ظلم النبي صلى الله عليه وسلم لليهود لا يستطيع أن يسلم من التناقض مع الفكرة السالفة حين يعبر مرة ثانية أن “اليهود صاروا جزءا من الأمة” (فلهاوزن:تاريخ.د.ع، 11). فكيف يكونون جزءا من الأمة وفي نفس الوقت يصر رسول الله صلى الله عليه وسلم على إخراجهم إلا إذا كان هذا هو عين التناقض.
إن القارئ لسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا شك يجد أن تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم مع اليهود تحديدا تحكم فيها الحلم والعلم، فرغم علمه بنفاقهم ودسائسهم التي لم تتوقف للإجهاز على جماعته المؤمنة إلا أنه صبر عليهم حتى ظهر له أن بقاءهم في المدينة أو بقاء بعضهم في المدينة سيهدم كل ما يبنيه فاضطر عليه الصلاة والسلام لإبعادهم. وإلا فإنه قد أعذر من أنذر. وياتي فلهاوزن ليقول بأن النبي صلى الله عليه وسلم”اضطر لاستعمال وسائل غير مقدسة في إخراج اليهود” (فلهاوزن:تاريخ.د.ع، 22). إنه لم يصبر أحد على مكائد اليهود مثلما صبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولولا علمه الشريف بخطرهم المحدق على الرسالة الفتية بما كانوا يبرمونه من شر وكيد أخبر عنه القرآن الكريم ففضح أسرارهم وكشف سرائرهم الخبيثة لما أبعدهم النبي عليه الصلاة والسلام. وقد سمح لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم –رغم كل شيء- بأن يحملوا معهم ما يشاؤون من الأمتعة والأموال إلا السلاح، فحملوا ما استطاعوا، حتى قلعوا من بيوتهم الأبواب والشبابيك، والأوتاد وجذوع السقف، وحملوها فيما حملوا، وهذا الذي قال عنه الله تبارك وتعالى: {يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار} ونزل أكثرهم وأكابرهم بخيبر، ونزلت طائفة منهم بالشام.
الشبهة الرابعة: محمد صلى الله عليه وسلم والطموح الشخصي:
يتمثل المنحى الاسقاطي في نظرة فلهاوزن للرسول صلى الله عليه وسلم باعتباره صاحب طموحات شخصية يريد أن يحققها إرضاء لنزوات داخلية مثلما هو شأن من يركبون السياسة في كثير من الأحيان ولا تكون لهم رسالة سماوية تربوية أو حضارية إلا أن يسيطروا على عقول الناس وأموالهم وثرواتهم، ويتحكموا في مصائرهم بتعبئتهم تعبئة تدجينية تفرغهم من طاقاتهم وقدراتهم النقدية ليصيروا كالعجين في أيدي أصحاب القرار، وفلهاوزن لا يعنيه من سيرة الرسول الأكرم صلوات ربي وسلامه عليه إلا أن يرى من خلالها طموحات شخص يريد أن يهيمن ويحكم على جزيرة العرب، يقول: “لكنه كان يرمي إلى ضم الجماعة كلها، فكان يطمح إلى أن يجعل أمته العربية كلها جماعة دينية له” (فلهاوزن: تاريخ.د.ع، 4-5.).
وقد يتناسى فلهاوزن أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد عُرِضَ عليه الحكم والمال وكل ما تصبو إليه النفوس الطبيعية في سعيها ودأبها حين قالوا له “إن كنت إنما تطلب الشرف فينا فنحن نسودك علينا، وإن كنت تريد ملكا ملكناك علينا” (ابن هشام: سيرة النبي،1/313). إلا أنه رفض كل هذا ورده في موقف إنساني مليء بالمعاني والدلالات عن التمسك بالحق والإصرار على المضي في طريق إكمال الرسالة. “والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على ان أترك هذا الامر ما تركته حتى يظهره الله أوأهلك دونه”.
الشبهة الخامسة: محمد والتمييز العنصري:
يذهب فلهاوزن إلى أن دولة النبي محمد صلى الله عليه وسلم الثيوقراطية لم تطبق المساواة السياسية بين المسلمين على النحو الذي من شأنه أن يمحو الفوارق التي كانت موجودة بالفعل. فبقي المكيون الذين جاءوا مع النبي وهم المسلمون المهاجرة على حدتهم، وبقيت إلى جانبهم قبائل العرب التي تسكن المدينة، وهم المسلمون الأنصار في المدينة على حدتها. وكذلك بقيت اليهود في المدينة على حدتها. وبقي التابع تابعا والمولى مولى والنزيل نزيلا وإن كانوا قد اعتنقوا الإسلام جميعا(فلهاوزن: تاريخ.د.ع،11). وإبطال هذه الدعوى يأتي من ثلاثة طرق:
الطريق الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم رسخ مبدأ المساواة منذ الوهلة الأولى لأنها رسالة الإسلام إلى العالم في قوله: “الناس سواسية كأسنان المشط الواحد، لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي إلا بالتقوى”(السيوطي:الدر المنثور،6/98).
الطريق الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم أسس بصحيفة المدينة التي تعتبر اليوم من الوثائق الدولية المعنية بحقوق الإنسان دستورا للمسلمين وغيرهم يجمعهم ويضعهم أمام القانون بمنزلة واحدة، حقوقا وواجبات. وفي صحيفة المدينة اعتبر اليهود “أمة مع المؤمنين، ولهم دينهم وللمسلمين دينهم، وعليهم نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وعلى من دهم يثرب، كل يدافع من جهته، وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم، إلخ..”(المباركفوري:روضة الأنوار، 104).
الطريق الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل يؤاخي بين الأنصار والمهاجرين بعقد المؤاخاة، وكانوا تسعين رجلا، نصفهم من المهاجرين ونصفهم من الأنصار، فآخى بينهم على المؤاساة، وأنهم يتوارثون فيما بينهم بعد الموت، دون ذوي الأرحام، ثم نسخ التوارث وبقيت المؤاخاة، وكانت قد عقدت في دار أنس بن مالك -رضي الله عنهم أجمعين-(المباركفوري:روضة الأنوار،102).
الشبهة السادسة: محمد صلى الله عليه وسلم والإرهاب:
يتوقف فلهاوزن عند بعض الأحداث التي وقعت بعد بدر مع المنافقين فيتهم الإسلام بالإرهاب، يقول: لم يبق الإسلام على تسامحه بعد بدر بل شرع في الأخذ بسياسة الإرهاب داخل المدينة، وكانت إثارة مشكلة المنافقين علامة على ذلك التحول”(فلهاوزن: تاريخ.د.ع،15).
وفي هذا الكلام مغالطتان نجيب عنهما بعد تحديدهما بما يلي:
المغالطة الأولى وتتعلق بمفهوم التسامح: إذ يتصور كثيرون أن التسامح تساهل إلى غير غاية، والحق أن الحدود بين ما يتسامح فيه وما لا يتسامح فيه غير بينة، بحيث لا يعرف إلى أي حد يمكن أن يصل التسامح، هل يكون هذا الحد هو عدم الإخلال بمبادئ عقلية مخصوصة أو يكون هو عدم الإخلال بمبادئ أخلاقية معينة؟ ثم لم كانت هذه المبادئ دون غيرها لا تقبل أن نتسامح فيها؟ كل هذه الأسئلة وغيرها تختلف الأمم في الجواب عنها. (طه عبد الرحمن:الحق الإسلامي في الاختلاف الفكري،147). وإذا رجعنا إلى واقع المنافقين في المدينة وجدنا أفعالهم ليست من الصنف الذي يدخل في نظرنا تحت نطاق المسامحة، لأن خطرهم على تماسك المجتمع كان واضحا، إذا كانوا بمنزلة السوس الذي ينخر عماد البيت، وكان لابد من أخذ موقف صريح منهم بعد أن كشفهم الله لنبيه صلى الله عليه وسلم. فالمنافقون طاقات هائلة لو تركت لأفسدت الإسلام بكل قوة وكل أسلوب، ولذا تطلب الموقف حذرًا شديدًا من الرسول صلى الله عليه وسلم ويقظة واستعدادًا لصدهم قولاً وفعلاً، لاسيما وأنهم كانوا هم السباقين إلى الهجوم والغدر، ما وجدوا إليه منفذًا.
المغالطة الثانية وتتعلق بمفهوم الإرهاب: وهو مفهوم يعكس رؤية الغرب لسياسة الإسلام إزاء أعدائه وخصومه، وقد بات اليوم من المصطلحات المبتذلة في سوق الإعلام الدولي يهاجمون به كل من أرادوا تصنيفه ومحاصرته، والإرهاب في الواقع رد فعل طبيعي جاء في القرآن الكريم وصفا متعلقا بالاستعدادات الدفاعية لأمة الإسلام ضد الطامعين في اجتثاتها وحرمانها حقها في الوجود، قال تعالى:{وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم}(الأنفال:60). فهذه الآية الكريمة نص في أنه يجب على المسلمين أن يبذلوا قصارى جهدهم في التسليح وإعداد القوة وتدريب الجيوش حتى يَرهبهم العدو ويحسب لهم ألف حساب، وهذا أمر مجمع عليه بين علماء المسلمين سواء كان الجهاد جهاد دفع أو جهاد طلب. وهذا اللون من الارهاب المنصوص عليه في الآية هو عمل وقائي ذو دلالات إيجابية، وهو من وسائل الردع العسكري وأدوات الحرب الباردة، ولا دلالة له على الارهاب بمعناه المتداول المعرّف في القانون الجنائي، بل هو خطوة نحو السلام، لأنه يمنع العدو من ممارسة عدوانه ..
الشبهة السابعة: محمد صلى الله عليه وسلم والإسلام الوثني:
في حديث فلهاوزن عن التطورات التي عرفتها مسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم بعد الفتح، وفرض الحج على المسلمين، نجد هذا المستشرق يتيه بعقله بعيدا في إسقاطات تفسيرية لا يقره عليها إلا نظراؤه من ضعفاء النظر، يقول”وأصبح الحج إلى الكعبة، بل تقبيل الحجر المقدس من الشعائر الدينية المفروضة، وبذلك دخل في الإسلام مركز للشعائر وعيد وثني شعبي”(فلهاوزن:18). والواقع أن موقف فلهاوزن من قضية استلام الحجر الأسود ليس فيها مبدعا بل نكاد نجد كل المستشرقين يقصر نظرهم حتى لا يمتد بهم إلا إلى اختزاله في صورة إسقاطية على ما يحملونه من تصورات عن الشعوب الوثنية، فهذا بروكلمان يقول: “قدس العرب القدماء ضروبا من الحجارة في سلع وغيرها من بلاد العرب، كما يقدس المسلمون الحجر الأسود القائم في زاوية من الكعبة في مكة” (بروكلمان:تاريخ الشعوب الإسلامية،8) ويعتبره بركلمان أقدم وثن عبدته العرب the oldest idol worshiped there، وعندما بلغ النبي الكعبة طاف بها سبعا على راحلته لامسا الحجر الأسود بعصاه في كل مرة، وبذلك ضم هذا الطقس الوثني إلى دينه (بروكلمان:31).
ويمكننا أن نقف قبل أن نختم الورقة على تهافت نظريته من خلال مسألتين شرد فيهما:
الأولى: شروده في اعتباره تقبيل الحجر الأسود من المفروضات. وهو أمر لم يقل به أحد من الأئمة ولا الفقهاء. فقد كان سنة وبقي إلى يومنا هذا كذلك. روى البخاري والترمذي وقال : حديث حسن صحيح عن عامر بن ربيعة قال : “رأيت عمر بن الخطاب يقبل الحجر ويقول: “إني أقبلك وأعلم أنك حجر ، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك لم أقبلك “.قال ابن رشد :”وكذلك أجمعوا على أن تقبيل الحجر خاصة من سنن الطواف إن قَدِرَ، وإن لم يقدر على الدخول إليه قبل يده”(ابن رشد: بداية المجتهد،1/508).
الثانية: شروده في اعتباره هذا الفعل أي تقبيل الحجر في الحج مركزا للشعائر وعيدا وثنيا شعبيا أخذه المسلمون عن العرب، وذلك لأنه لم يعرف عن العرب عبادتها للحجر من جهة، كما أن الحجر قديم وهو جزء من بناء الكعبة من لدن سيدنا إبراهيم، ومنزلته عند المسلمين سبقت منزلته عند غيرهم، وهو على منزلته باعتباره حجرا من الجنة كما تحكي بعض الروايات لا ينبغي للمسلم أن يتزاحم فيؤذي المسلمين حتى يستلمه لأن حرمة المسلم عند الله أعظم من حرمة الكعبة كلها وليس الحجر الذي هو جزء منها.
وعلى هذا يتحصل مما ذكرنا كيف أن فلهاوزن وأضرابه غابت عنهم حقائق كثيرة نتيجة إعمالهم المنهج الإسقاطي في تفسير مجريات السيرة العطرة لسيد الخلائق أجمعين، ويتبين معها أن النظر في تاريخ الإسلام بعامة يحتاج إلى أكثر من أدوات ومناهج مادية وتقنية لفهم أحداثه ووقائعه التي يتداخل فيها عالم الغيب بعالم الشهادة، إنه يحتاج من دون شك لفاعلية الإيمان التي تسمح بالاستبصار والاكتشاف والتحليل والتفكيك. لأن فاعلية الإيمان تنفع صاحبها من جهتين إذ تفتح عينيه على آفاق أوسع من المعرفة غير المادية الفاعلة في الواقع المادي، وتمنعه من السقوط في آفات التكذيب والإنكار لما لا تستسيغه حويصلته العقلية والتي هي نتيجة حتمية للعقل المجرد الأصم. ونحن لا نستغرب إذ ذاك أن يبلغ عند المستشرقين من دارسي التراث العربي والإسلامي، التهاون بهذا المبدأ إلى درجة الاستخفاف به ونبذه بالمرة، لأن أغلبهم هو ممن لا يقيم للإيمان وزنا، ولا يرى له فائدة في أية نظرية تبحث في التراث. وهو العطب بعينه.
المراجع والمصادر:
- أسعد رزق: موسوعة علم النفس، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط3، 1987.
- أحمد حسن عبد السلام، تاريخ الإستشراق الألماني، ضمن مجلة الفكر العربي، ع31. السنة 5، 1983، ص188-202.
- بدوي عبد الرحمن: موسوعة المستشرقين، دار العلم للملايين بيروت، ط3، 1993.
- الديب عبد العظيم: المنهج عند المستشرقين، ضمن حوليات كلية الشريعة والدراسات الإسلامية، ع7، الدوحة،1409.
- ابن سيد الناس: عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير، بيروت مؤسسة عز الدين للطباعة والنشر،1986.
- ابن رشد أبو الوليد: بداية المجتهد ونهاية المقتصد، تحقيق علي محمد عوض وعادل أحمد عبد الموجود، دار الكتب العلمية بيروت لبنان، ط2،2000.
- طه عبد الرحمن: الحق الإسلامي في الاختلاف الفكري، المركز الثقافي العربي، ط1، 2005.
- عبد الحليم محمود: أوربا والإسلام، بيروت، المكتبة العصرية.
- فلهاوزن يوليوس: تاريخ الدولة العربية، تاريخ الدولة العربية من ظهور الإسلام إلى نهاية الدولة الأموية، ترجمة الدكتور محمد عبد الهادي أبو ريدة، ومراجعة حسين مؤنس، القاهرة،ط2، 1968.
- المباركفوري صفي الرحمن: روضة الأنوار في سيرة النبي المختار، وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد بالسعودية، ط2، 1427.
- مقبول إدريس: الدراسات الاستشراقية للقرآن الكريم في رؤية إسلامية، ورقة قدمت للندوة الدولية التي نظمها مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف تحت شعار “القرآن الكريم في الدراسات الاستشراقية” بالمدينة المنورة، 2006.
- النعيم عبد الله محمد الأمين، الاستشراق في السيرة النبوية، سلسلة الرسالئل الجامعية، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط1، 1997.
- ابن هشام: سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، القاهرة، مطبعة حجازي، نشر المكتبة التجارية.
- Brocklmann,Carl :History of the Islamic Peoples,(London.1964)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر هذا البحث بمجلة “منار الهدى”، العدد 9، صيف 2007، من ص 108 إلى ص 122.