قال الشيخ الحجوي الفاسي ( ت 1376هـ/1956م) رحمه الله في كتابه الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي (2/ 451):
غالب العلماء من المائة الثامنة إلى الآن لم يحفظ لهم كبير اجتهاد، ولا لهم أقوال تعبير في المذهب أو المذاهب، وإنما هم نقّالون اشتغلوا بفتح ما أغلقه ابن الحاجب، ثم خليل وابن عرفة، وأهل القرون الوسطى من المذاهب الفقهية؛ إذ هؤلاء السادة قضوا على الفقه، أو على من اشتغل بتواليفهم، وترك كتب الأقدمين من الفقهاء بشَغل أفكارهم بحل الرموز التي عقدونها، فجنت الأفكار، وتخدرت الأنظار بسبب الاختصار فترك الناس النظر في الكتاب والسنة والأصول، وأقبلوا على حل تلك الرموز التي لا غاية لها ولا نهاية، فضاعت أيام الفقهاء في الشروح، ثم في التحشيات والمباحث اللفظية، وتحمل الفقهاء آصارا وأثقالا بسبب إعراضهم عن كتب المتقدمين، وإقبالهم على كتب هؤلاء، وأحاطت بعقولنا قيود فوق قيود،، وآصار فوق آصار.
فالقيود الأولى: التقيد بالمذاهب وما جعلوا لها من القواعد، ونسبوا لمؤسسيها من الأصول.
الثانية: أطواق التآليف المختصرة المعقدة التي لا تفهم إلا بواسطة الشروح، واختصروا في الشروح، فأصبحت هي أيضا محتاجة لشروح وهي الحواشي، وهذا هو الإصر الذي لا انفكاك له، والعروة التي لا انفصام لها، أحاطوا بستان الفقه بحيطان شاهقة، ثم بأسلاك شائكة، ووضعوه فوق جبل وعر بعدما صيروه غثا، وألقوا العثرات في طريق ارتقائه، والتمتع بأفيائه، حتى يظن الظان أن قصدهم الوحيد جعل الفقه حكرة بيد المحتكرين، ليكون وقفا على قوم من المعممين، وأن ليس القصد منه العمل بأوامره ونواهيه وبذله لكل الناس، وتسهيله على طالبيه، بل القصد قصره على قوم مخصوصين، ليكون حرفة عزيزة، وعينا من عيون الرزق غزيرة، وحاشاهم أن يقصدوا شيئا من هذا لأنه ضلال في الدين، وإنما حصل من دون قصد.
فيا لله أين نحن من قوله عليه السلام: “سددوا وقاربوا”؟! وقوله: “بلغوا عني ولو آية، فرب مبلغ أوعى من سامع”؟! وقوله: “لأن يهدي الله بك رجلا خير مما طلعت عليه الشمس وغربت”؟!
ولله در عبد العزيز اليحصبي الأخبش حيث قال: “هذه الأعمار رءوس أموال يعطيها الله للعباد يتجرون فيها، فرابح أو خاسر، فكيف ينفق الإنسان رأس ماله النفيس في حل مقفل كلام مخلوق مثله، ويعرض عن كلام الله ورسوله الذي بعث إليه”.
وليتنا نمرن طلبة الفقه على النظر في الآيات القرآنية المتعلقة بالأحكام وحفظها وفهمها فهما استقلاليا يوافق ما كان يفهمه منها قريش الذين نزل بلغتهم، وعلى النظر في السنة الصالحة للاستدلال وحفظها وإتقانها وفهمها، كذلك، ونمرنهم على قواعد العربية، وأصول الفقه، ثم نترك لهم حرية الفكر والنظر كما كان عليه أهل الصدر الأول، ولن يصلح آخر الأمة إلا ما صلح عليه أولها، وهذا العمل أنجح من السعي في توحيد المذاهب، أو ترجيح أحدها…
ولنضع أمامك مثالا تفهم به ما امتُحن به طلاب العلم بعد القرون الوسطى: عرف ابن عرفة الذبائح بكلمات وهي: “الذبائح لقبا لما يحرم بعض أفراده من الحيوان لعدم ذكاته أو سلبها عنه ما يباح بها مقدورا عليه”.
وهو تعريف أشبه كما ترى بلغز منه بمسألة علمية، فاحتاج بعض أهل العصر في شرحه إلى كراس كامل، فإذا كان تعريف لفظ واحد من ألفاظ الفقه التي حدث الاصطلاح الشرعي فيها يحتاج شرحه إلى هذا، وبالضرورة لا بد من درسين أو ثلاثة دروس تذهب فيه، فكيف يمكن أن يمهر الطالب في الفقه، وكيف يمكن أن ترتقي علومنا؟ وأي حاجة بطلبة العلم إلى هذه التعاريف، فلقد كان مالك وأضرابه علماء وما عرفوا ذبيحة ولا نطيحة.
وهذه “الموطأ” و”المدونة” شاهدتان بذلك، وهكذا بقية المجتهدين، ولهذا كانت المجالس الفقهية في الصدر الأول مجالس تهذيب لجميع أنواع الناس عوامهم وطلبتهم، فأصبحت اليوم لا ينتابها إلا الطلبة، فإذا جلس عامي حولها، لم يستفد منها شيئا، فيفر عنها، ولا يعود إذ يجدهم يحلون مقفلات التآليف بأنواع من القواعد النحوية المنطقية التي لا مساس له بها، ولو أنه وجدهم يقرءون تأليفا من تآليف الأقدمين فقهيا محضا مبينا فيه الفرع وأصله من الكتاب والسنة لاستفاد، وأفاد أهله. ومن هو مسئول عن تعليمهم فهذا سبب نقصان العلم في أزماننا، وغلبة الأمية على رجالنا ونسائنا، وحصول التأخر في سائر علومنا حتى النحو وغيره من العلوم العربية.