إنه الحلف الذي ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله:” شَهِدْتُ حِلْفَ الْمُطَيَّبِينَ مَعَ عُمُومَتِي وَأَنَا غُلَامٌ فَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي حُمْرَ النَّعَمِ وَأَنِّي أَنْكُثُهُ.”[1]
وقصة هذا الحلف أوردها ابن هشام في سيرته تحت باب [ذكر ما جرى من اختلاف قريش بعد قصي وحلف المطيبين]، فقد روى عن ابن أسحاق:” ثُمّ إنّ قُصَيّ بْنَ كِلَابٍ هَلَكَ فَأَقَامَ أَمْرَهُ فِي قَوْمِهِ وَفِي غَيْرِهِمْ بَنُوهُ مِنْ بَعْدِهِ فَاخْتَطّوا مَكّةَ رِبَاعًا (أي منازل) – بَعْدَ الّذِي كَانَ قَطَعَ لقومه بها، فَكَانُوا يَقْطَعُونَهَا فِي قَوْمِهِمْ وَفِي غَيْرِهِمْ مِنْ حُلَفَائِهِمْ وَيَبِيعُونَهَا ؛ فَأَقَامَتْ عَلَى ذَلِكَ قُرَيْشٌ مَعَهُمْ لَيْسَ بَيْنَهُمْ اخْتِلَافٌ وَلَا تَنَازُعٌ. ثُمّ إنّ بَنِي عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيّ: عَبْدَ شَمْسٍ وَهَاشِمًا وَالْمُطّلِبَ وَنَوْفَلاً أَجَمَعُوا عَلَى أَنْ يَأْخُذُوا مَا بِأَيْدِي بَنِي عَبْدِ الدّارِ بْنِ قُصَيّ مِمّا كَانَ قُصَيّ جَعَلَ إلَى عَبْدِ الدّارِ مِنْ الْحِجَابَةِ وَاللّوَاءِ وَالسّقَايَةِ وَالرّفَادَةِ، وَرَأَوْا أَنّهُمْ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْهُمْ لِشَرَفِهِمْ عَلَيْهِمْ وَفَضْلِهِمْ فِي قَوْمِهِمْ فَتَفَرّقَتْ عِنْدَ ذَلِكَ قُرَيْشٌ، فَكَانَتْ طَائِفَةٌ مَعَ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ عَلَى رَأْيِهِمْ يَرَوْنَ أَنّهُمْ أَحَقّ بِهِ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدّارِ لِمَكَانِهِمْ فِي قَوْمِهِمْ وَكَانَتْ طَائِفَةٌ مَعَ بَنِي عَبْدِ الدّارِ يَرَوْنَ أَنْ لا يُنْزَعَ مِنْهُمْ مَا كَانَ قُصَيّ جَعَلَ إلَيْهِمْ.”[2]
والمطيبون خمس قبائل هم عبد مناف وزهرة وأسد بن عبد العزى وتيم والحارث بن فهر، سموا بهذا الاسم لأن بني عبد مناف لما أرادوا أخذ ما في أيدي بني عبد الدار من الحجابة والرفادة واللواء والسقاية، وأبت بنو عبد الدار، عقد كل قوم على أمرهم حلفا مؤكدا على أن لا يتخاذلوا، فأخرجت بنو عبد مناف جفنة مملوءة طيبا فوضعوها لأحلافهم عند الكعبة ، ثم غمس القوم أيديهم فيها وتعاقدوا ثم مسحوا الكعبة بأيديهم توكيدا فسموا الْمُطَيَّبِينَ.
“وتَعَاقَدَتْ بَنُو عبدِ الدَّارِ وحُلَفَاؤُهُمْ حِلْفاً آخَرَ مُؤَكَّداً علَى أَن لا يَتَخَاذَلُوا فَسمُّوا الأَحْلاَفَ وقال الكُمَيْتُ يَذْكُرُهم :
نَسَباً في الْمُطَيَّبِينَ وفي الأَحْـ لاَفِ حَلَّ الذُّؤابَةَ الْجُمْهُورَا
والأَحْلاَفُ في قُرَيْشٍ : سِتُّ قبَائِلَ وهم : عبدُ الدَّارِ وكَعْبٌ وجمح وسَهْمٌ ومَخْزُومٌ وعَدِيُّ وقَالَ ابنُ الأَعْرَابِيِّ : خَمْسُ قَبَائِلَ فأَسْقَطَ كَعْباً…”[3]
“فَبَيْنَا النّاسُ عَلَى ذَلِكَ قَدْ أَجَمَعُوا لِلْحَرْبِ إذْ تَدَاعَوْا إلَى الصّلْحِ عَلَى أَنْ يُعْطُوا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ السّقَايَةَ وَالرّفَادَةَ وَأَنْ تَكُونَ الْحِجَابَةُ وَاللّوَاءُ وَالنّدْوَةُ لِبَنِي عَبْدِ الدّارِ كَمَا كَانَتْ. فَفَعَلُوا وَرَضِيَ كُلّ وَاحِدٍ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ بِذَلِكَ وَتَحَاجَزَ النّاسُ عَنْ الْحَرْبِ وَثَبَتَ كُلّ قَوْمٍ مَعَ مَنْ حَالَفُوا، فَلَمْ يَزَالُوا عَلَى ذَلِكَ حَتّى جَاءَ اللّهُ تَعَالَى بِالْإِسْلامِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَا كَانَ مِنْ حِلْفٍ فِي الْجَاهِلِيّةِ فَإِنّ الْإِسْلامَ لَمْ يَزِدْهُ إلاّ شِدّةً.”[4]
وقِيلَ لِعُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ : أَحْلاَفِيٌّ لأَنَّهُ عَدَوِيٌّ، قال ابنُ الأَثِيرِ: وهذا أَحَدُ ما جَاءَ مِن النَّسَبِ إِلى الجَمْعِ لأَنَّ الأَحْلافَ صار اسْماً لهم كما صَار الأَنْصَارُ اسْماً للأَوْسِ والخَزْرَجِ وكانَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ وأَبو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عنه مِن المُطَيَّبِينَ.”[5]
وهذا التصنيف في قريش بقي معتمدا بعد الإسلام، “ومنه حديث ابن عباس [وجدنا وِلايةَ المُطَيَّـبيّ خيرا من وِلاية الأحلافِيّ] يريد أبا بكر وعمر لأن أبا بكر كان من المُطَيّبين وعمر من الأحْلاف…
- ومنه الحديث [أنه لما صاحت الصائحة على عمر قالت: واسَيّد الأحلاف قال ابن عباس: نعم والمُحْتَلَف عليهم] يعني المُطَيَّبين.”[6]
وفي الحديث الذي سبق ذكره من مسند الإمام أحمد: [وَأَوْفُوا بِحِلْفِ الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّ الْإِسْلَامَ لَمْ يَزِدْهُ إِلَّا شِدَّةً]، وفي حديث المطيبين أعلاه: [فَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي حُمْرَ النَّعَمِ وَأَنِّي أَنْكُثُهُ] نجد الوفاء لهذا الحلف من قبل الرسول صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة:
“قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزّبَيْرِ، عَنْ عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي ثَوْرٍ عَنْ صَفِيّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمّا نَزَلَ مَكّةَ، وَاطْمَأَنّ النّاسُ خَرَجَ حَتّى جَاءَ الْبَيْتَ فَطَافَ به سَبْعًا عَلَى رَاحِلَتِهِ يَسْتَلِمُ الرّكْنَ بِمِحْجَنِ (بعود) فِي يَدِهِ، فَلَمّا قَضَى طَوَافَهُ دَعَا عُثْمَانَ بْنَ طَلْحَةَ، فَأَخَذَ مِنْهُ مِفْتَاحَ الْكَعْبَةِ، فَفُتِحَتْ لَهُ فَدَخَلَهَا، فَوَجَدَ فِيهَا حَمَامَةً مِنْ عِيدَانٍ فَكَسَرَهَا بِيَدِهِ ثم طَرَحَهَا، ثُمّ وَقَفَ عَلَى بَابِ الْكَعْبَةِ وَقَدْ اُسْتُكِفّ لَهُ (استجمعوا له من الكافة) النّاسُ فِي الْمَسْجِدِ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَحَدّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَامَ عَلَى بَابِ الْكَعْبَةِ، فَقَالَ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ صَدَقَ وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ أَلَا كُلّ مَأْثُرَةٍ أَوْ دَمٍ أَوْ مَالٍ يُدّعَى فَهُوَ تَحْتَ قَدَمَيّ هَاتَيْنِ إلّا سَدَانَةَ الْبَيْتِ وَسِقَايَةَ الْحَاجّ…
ثُمّ جَلَسَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْمَسْجِدِ فَقَامَ إلَيْهِ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَمِفْتَاحُ الْكَعْبَةِ فِي يَدِهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ اجْمَعْ لَنَا الْحِجَابَةَ مَعَ السّقَايَةِ صَلّى اللّهُ عَلَيْك، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ: أَيْنَ عُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ ؟ فَدُعِيَ لَهُ فَقَالَ: هَاكَ مِفْتَاحَك يَا عُثْمَانُ، الْيَوْمُ يَوْمُ بِرّ وَوَفَاءٍ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَذَكَرَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ لِعَلِيّ: إنّمَا أُعْطِيكُمْ مَا تُرْزَءُونَ لَا مَا تَرْزَءُونَ.”[7] ( أي أعطيتكم ما تحتاجون فيه إلى مؤن كالسقاية لا ما يرزأ لها الناس بالبعث إليها كالسدانة، يعني كسوة البيت).
وعثمان
بن طلحة هذا كان من بني عبد الدار، وكانت لهم سدانة البيت والحجابة، فأمضاها لهم
برا ووفاء لحلف المطيبين.
[1] مسند الإمام أحمد (مرجع سابق) – الجزء 3 – ص 190
[2] أبو محمد عبد الملك بن هشام المعافري- السيرة النبوية– ج 1/ ص 100، المكتبة العصرية – بيروت – ط 3/ 1995
[3] تاج العروس للزبيدي (م.س) – مادة حلف
[4] السيرة النبوية لابن هشام – ج 1/ ص 101، (م.س)
[5] تاج العروس للزبيدي (م.س) – مادة حلف
[6] النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير (م.س)
[7] السيرة النبوية لابن هشام – ج 4/ ص 46-47، (م.س)