إن الغرض من دراسة التاريخ هو التعرف على التحولات التي أثرت على حضارة المسلمين وفكرهم، فالانحدار والانحطاط الذي وقع في تاريخ الأمة ساهم في ظهور العصبية والحمية الجاهلية، وساهم في انقسام وحدة المسلمين، ولا يمكن أن نفهم سبب تأخر الحضارة الإسلامية وواقع المسلمين المعاصر إن لم نفهم ما حدث في التاريخ الإسلامي.
إن الدراسة العميقة للتاريخ تمكننا من استجلاء العلاقة بين الحق والباطل، وبين الوحي والواقع، وبين قيام الحضارة وأفولها مع السنن الكونية الإلهية. وهذه الدراسة يجب أن تنأى عن منطق التقديس والتمجيد للتاريخ باعتباره تجربة بشرية، ثم لا تلغي الماضي من الحضارة باعتباره قيما أخلاقية وتراثا يمكن البناء عليه لاستشراف المستقبل.
ومن هنا نحتاج إلى دراسة التاريخ لمعرفة وفهم الماضي والحاضر والمستقبل. وهو ما يطرحه مالك بن نبي في كتابه شروط النهضة. ومن ثمة لابد من تحليل التاريخ بمنطق الوحي القائم على القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة. ثم بمقاربة شمولية وموضوعية تستحضر الأحداث التاريخية في سياقها وأسبابها وظروفها.
لقد تحدث الصادق الأمين محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الفتنة وتكالب الأمم على المسلمين، وحذرهم من أغيلمة قريش، ومن كارثة وصدمة انتقال الخلافة إلى ملك عاض ثم ملك جبري. وهو ما نفهمه من حديث الإمام الترمذي عن سفينة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:﴿ الخلافة في أمتي ثلاثون سنة، ثم ملك بعد ذلك﴾
وجاء في صحيح البخاري رحمه الله في باب الفتن حديث رواه بسنده عن سعيد بن عمرو بن العاص قال: كنت مع مروان وأبي هريرة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمعت أبا هريرة يقول: سمعت الصادق المصدوق يقول:﴿ هلاك أمتي على يدي غلمة من قريش، فقال مروان: غلمة؟ لعنهم الله غلمة. قال أبو هريرة: إن شئت أن أسميهم بني فلان وبني فلان﴾. قال الحافظ ابن حجر:﴿ أن الغلمة ليست هي الصغر في السن ولكن الصغر في الدين والمروءة والرأي﴾
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:﴿ تَكُونُ النُّبُوَّةُ فِيكُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ، فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا عَاضًّا، فَيَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ الله ُأَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا جَبْرِيّاً، فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ، ثُمَّ سَكَتَ﴾
قال النبي صلى الله عليه وسلم:﴿ ليُنقـَضَنَّ عُرَا الإسلام ِعروة ًعُروة، فكلما انتقضت عُروة ٌ، تشبَّثَ الناسُ بالتي تليها، وأولهُنَّ نقضاً الحُكم، وآخِرُهنَّ الصلاة ﴾
إذا كان هذا هو الانكسار الذي حدث في تاريخ الأمة الإسلامية فقد نتج عن هذا الانكسار عدة نتائج:
- انقلاب الخلافة إلى ملك عاض ثم ملك جبري.
- انفصال الدعوة عن الدولة.
- تفرق جماعة المسلمين إلى مذاهب وفرق، وسيادة العصبيات والحمية الجاهلية.
- ضياع العدل والكرامة وغياب الشورى وانقضاض عرى الحكم.
- انتشار الفساد والاستبداد والفتن وضياع الحرية.
- التخلف والانحطاط في مختلف المجالات خاصة بعد سقوط الأندلس ودولة الموحدين على حد تعبير مالك بن نبي.
- انفراط وحدة الأمة وتمزق الشخصية الإسلامية.
- ضياع الأخلاق والقيم الحضارية.
- الوهن والغثائية وكراهية الموت.
- الانغماس في الشهوات والملذات …
لقد كان مالك بن نبي من أوائل الذين تنبهوا لهذا الانكسار الذي حدث في تاريخ الأمة الإسلامية، فيرى أن أزمة الأمة في الشرعية الدستورية والسياسية التي حدثت بعد وقعة صفين، وهي مرحلة انتهاء الخلافة الراشدة وبداية الملك العاض.
يقول مالك بن نبي:” ولا شك أن لهذه الآثار وضوحا أكثر، في فترة التخلق الدستوري، التي تصب خلالها النصوص النظرية في الحقائق الاجتماعية، في أعمال وسلوك الجيل الذي وضع المشروع الديمقراطي الإسلامي في طريق التحقيق، من اليوم الذي أشرقت فيه الهداية المحمدية إلى يوم صفين ”
فواقعة صفين في نظر مالك بن نبي تمثل نقطة التحول في تاريخ العالم الإسلامي، وتمثل الفاصل الذي منع المشروع الديمقراطي الإسلامي من أن يواصل سيره في التاريخ.
لقد شكل الانقلاب على الشرعية السياسية للخلافة على منهاج النبوة والخلافة الراشدة منعطفا خطيرا في تاريخ الأمة الإسلامية، فبعد وقعة صفين انتهت الخلافة الراشدة وبدأت مرحلة الملك العاض مع معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، وقد كانت مرحلة معاوية مرحلة تقهقر للروح الديمقراطي الإسلامي. يقول مالك بن نبي: ” لاشك أن عهد معاوية مثلا كان من الوجهة التي تهمنا هنا، عهد تقهقر الروح الديمقراطي الإسلامي “
وبوقعة صفين وقع الانشطار بين الحق والسلطة، وبين الدعوة والدولة، وبين القرآن والسلطان، يقول مالك بن نبي:” ولقد عرف التاريخ الإسلامي لحظة كهذه في معركة صفين، تلك الحادثة المؤسفة المؤثرة التي نتج عنها التذبذب في الاختيار، الاختيار الحتم بين علي ومعاوية، بين المدينة ودمشق، بين الحكم الديمقراطي الخليفي والحكم الأسري، ولقد اختار المجتمع الإسلامي في هذه النقطة الفاصلة في تاريخه الطريق الذي قاده أخيرا.. إلى القابلية للاستعمار، وإلى الاستعمار ”
لقد كانت الحمية الجاهلية العصب الرئيسي للانكسار التاريخي، يقول مالك بن نبي:” فلقد عرف هذا العالم أول انفصال في تاريخه في معركة صفين عام 38 للهجرة، إذ كان يحمل بين جنبيه بعد قليل من سنوات ميلاده تعارضا داخليا كانت حمية الجاهلية تصطرع مع الروح القرآني، فجاء معاوية رضي الله عنه فحطم ذلك البناء الذي قام لكي يعيش.. ومنذ ذلك الانفصال الأول فقد العالم الاسلامي توازنه الأولي، على الرغم من بقاء الفرد المسلم متمسكا في قرارة نفسه بعقيدته التي نبض بها قلبه المؤمن ”
كانت بذلك وقعة صفين منعطفا وحدا فاصلا للانتقال من “جو المدينة ” القائم على منظومة القيم الأخلاقية وعلى التعاقد السياسي بين الحاكم والمحكوم، إلى ” جو دمشق ” القائم على قيم القهر والتملك والغلبة.
يقول مالك بن نبي:” ونحن نجد مثلها في الكارثة التي أصابت العالم الإسلامي في واقعة صفين فأخرجته من جو المدينة الذي كان مشحونا بهدى الروح وبواعث التقدم، إلى جو دمشق حيث تجمعت مظاهر الترف وفتور الإيمان “
ويستغرب مالك بن نبي عن السبب الذي جعل المؤرخين لم يقفوا عند واقعة صفين، وعن اعتبار هذه الكارثة ظاهرة ثانوية. يقول مالك بن نبي:” ولا شك في أن المرحلة الأولى من مراحل الحضارة الإسلامية التي ابتدأت من غار حراء إلى صفين، وهي المرحلة الرئيسية التي تركبت فيها عناصرها الجوهرية، إنما كانت دينية بحثة، تسودها الروح.. ولست أدري لماذا لم ينتبه المؤرخون إلى هذه الواقعة، التي حولت مجرى التاريخ الإسلامي إذ أخرجت الحضارة الإسلامية إلى طور القيصرية الذي يسوده عامل العقل، وتزينه الأبهة والعظمة، في الوقت الذي بدأت تظهر فيه بوادر الفتور الدالة على أفول الروح ”
ولعل مستقبل الحرية والديمقراطية في البلاد الإسلامية تمر قطعا بحالة إرهاص تبشر بنهضة الروح الديمقراطية في هذه البلاد مرة أخرى. يقول مالك بن نبي:” لكن هذه المحاولات لا تنجح إلا بقدر ما تضع في ضمير المسلم تقويما جديدا للإنسان، أي بقدر ما تضع في ضميره قيمته وقيمة الآخرين حتى لا يقع في هاوية العبودية أو هاوية الاستعباد ”
ويمكن أن نخلص إلى أن جناية التاريخ وكارثة صفين في المشروع الحضاري لمالك بن نبي لها الأثر البالغ في انفراط العقد السياسي والاجتماعي للأمة الإسلامية، وكانت صدمة صفين سببا في ضياع قيم العدل والكرامة الحرية والشورى التي كانت ركائز ومبادئ المشروع الديمقراطي الإسلامي.