سلسلة قواعد فقهية في المعاملات المالية؛
3/ تحليل قاعدة: “جرح العجماء جبار”.
سنقف بالدرس والتحليل، مع القاعدة الفقهية الثانية وهي؛ “جرح العجماء جبار“، وهذه القاعدة من القواعد المتعلقة بنظرية الضمان في الفقه الإسلامي، وهي مقتبسة من الحديث النبوي الشريف الذي ورد بصيغة؛ “جرح العجماء جبار“.
أولا: مضمـون القاعـدة؛
ثـانيـا: حجية القاعـدة؛
ثــالثـا: بعض القواعد المرادفة لهذه القاعدة؛
رابـعا: تطبيقات القاعدة وبعض الخلافات الفقهية؛
أولا: مضمـون القاعـدة؛
1- شرح المصطلحات:
– الجرح في اللغة: من “جرحه يجرحه جرحاَ؛ أثر فيه بالسلاح، وحو أيضا من باب اكتسب”[1]. وفي عرف الفقهاء: (المراد بجرحها: جنايتها وإضرارها، أي ما تفعله البهيمة من الأضرار بالنفس أو المال)[2].
– العجماء: البهيمة، سميت كذلك لأنها لا تتكلم.
– جبـار؛ قال الإمام مالك رحمه الله تعالى: (وتفسير الجبار، أنه لا دية فيه)[3].
2- بيان مضمون القاعدة:
معنى هذه القاعدة أن جناية العجماء وما ينشا عنها من إتلاف أو إفساد أو إضرار هدر، لا ينبني عليها أي شيء، ولا تستوجب الضمان من صاحبها، ما لم يكن معها من يركبها أو يسوقها أو يراها وهي تفعل شيئا من ذلك. ومعنى هذا أن بطلان الضمان مقيد بما إذا كانت العجماء وحدها، أما إذا كان معها صاحبها سواء كان راكبا أو سائقا أو قائدا وداست شيئا للغير أو جرحت إنسانا ففي هذه الحالة يعتبر ضامنا، قال الإمام مالك: (القائد والسائق والراكب كلهم ضامنون لما أصابت الدابة، إلا أن ترمح الدابة من غير أن يُفعل بها شيء ترمح له، وقد قضى عمر بن الخطاب في الذي أجرى فرسه بالعقل)[4].
ثـانيـا: حجية القاعـدة؛
من القرآن الكريم قوله تعالى: (إذ نفشت فيه غنم القوم)[5]. و”النفش يكون بالليل والهمل يكون بالنهار”[6].
من السنة النبوية:
– ما رواه مالك في الموطأ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (جرح العجماء جبار والمعدن جبار وفي الركاز الخمس)[7].
– وما رواه مالك أيضا؛ (أن ناقة للبراء بن عازب دخلت حائط رجل فأفسدت فيه، فقضى رسول الله عليه وسلم: أن على أهل الحوائط حفظها بالنهار، وأن ما فسدت المواشي بالليل ضامن على أهلها)[8].
ثــالثـا: بعض القواعد المرادفة لهذه القاعدة؛
من الضابط التي تندرج تحت هذه القاعدة: “من أتلف زرع غيره بغنمه تفريطا فهو ضامن له”[9]. ومن القواعد المرادفة لها:
– “العجماء جرحها جبار”[10].
– “جناية العجماء جبار”[11].
– “فعل البهيمة هدر”[12].
رابـعا: تطبيقات القاعدة وبعض الخلافات الفقهية؛
سأكتفي بـإيراد أربعة أمثلة تطبيقية لهذه القاعدة، مع إبراز الاختلافات الفقهية الواردة فيها مع ذكر سبب ذلك الاختلاف وهي:
1- حكم الجناية بالليل؛
لقد أجمع الفقهاء على سقوط الضمان على صاحب الدابة فيما تلحقه من أضرار بالنهار إذا لم يكن معها، إعمالا للقاعدة، لكنهم اختلفوا فيما تتلفه بالليل هل يجب على صاحبها الضمان أم لا؟ (فذهب الأحناف وأصحاب الرأي إلى أنه لا ضمان على صاحب الدابة فيما أتلفته، سواء كان ذلك بالليل أو بالنهار، لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: “العجماء جرحها جبار”، … وذهب جمهور الفقهاء إلى أن على صاحب الدابة الضمان فيما أتلفته بالليل)[13]. محتجين على ذلك بحديث البراء بن عازب السابق ذكره، والذي قضى فيه النبي صلى الله عليه وسلم فيه على أن: “على أهل الحوائط حفظها بالنهار“، وأن “ما أفسدت المواشي بالليل ضامن على أهلها“، وقد أشار الإمام الشافعي رحمه الله إلى هذا التخصيص أثناء حديثه عن حديث ” العجماء جرحها جبار” حيث قال: (فيضمن أهل الماشية السائمة بالليل ما أصابت من زرع، ولا يضمنونه بالنهار)[14].
وسبب اختلافهم في ذلك هو اختلافهم في دلالة العام هل قطعي أم ظني، فمن رأى أنه قطعي قال لا يخصص إلا بقطعي مثله، وما دام لم يرد في المسألة دليل قطعي يوجب الضمان على صاحب البهيمة بالليل فإنهم تمسكوا بالعموم الوارد في الحديث القاعدة، ومن رأى أنه ظني فقد حمله على النهار دون الليل تخصيصا بحديث البراء بن عازب، وهؤلاء هم الجمهور.
2- حكم جناية الدابة مع سائقها؛
إذا أتلفت الدابة شيئا من أموال الغير ومعها صاحبها، فقد اختلف الفقهاء في وجوب الضمان عليه على القولين:
أ_ عدم الضمان؛ وهو قول المالكية، وذلك إذا كانت الجناية بغير تأثير صاحبها ولا إيعاز منه، كما إذا نفخت برجلها أو بيدها ابتداء.
ب_ وجوب الضمان؛ وهو مذهب الأحناف والشافعية، سواء كانت بإيعاز من صاحبها أم لا، لأن الجناية الدابة تعتبر كجناية صاحبها إذا كان معها.
وسبب اختلافهم في إيجاب الضمان أم لا في هذه الصورة هو العموم والإجمال في الحديث الذي انتزعت منه القاعدة[15].
قال ابن عبد البر في هذا الباب: (واختلف الفقهاء في هذا على أربعة أبواب:
أحدها: كل دابة مرسلة فصاحبها ضامن.
الثاني: لا ضمان فيما أصاب المنفلتة من الدواب المواشي
الثالث: ما أصاب بالليل فهو مضمون وما أصاب بالنهار فهو غير مضمون
الرابع: الفرق بين الأموال والدماء)[16].
3- حكم إتلاف الحيوان الصائل؛
إذا صال الحيوان على أحد ودفعه عن نفسه فقتله، فقد اختلف الفقهاء حول وجوب الضمان أولا؟ فقال المالكية “إن قتله كان هدرا عندنا، وبه قال الشافعي ولم يختلف فيه أحد علمائنا، وقال أبو حنيفة إذا دفعه عن نفسه فقتله ضمن قيمته لمالكه، لأن العجماء لا يعتبر فعلها لقول النبي صلى الله عليه وسلم: “جرح العجماء جبار“، وممن قال بالقول الثالث الإمامان مالك والشافعي و”عمدتهما في هذا شيئان: أحدهما قوله تعالى: “وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم“[17]. والنفش عند أهل اللغة لا يكون إلا بالليل… والثاني: مرسل عن ابن شهاب أن ناقة للبراء بن عازب دخلت حائط رجل فأفسدت فيه، فقضى رسول الله عليه وسلم على أهل الحوائط حفظها بالنهار، وأن ما فسدت المواشي بالليل ضامن على أهلها[18].
4- حكم من اتخذ كلبا عقورا فأتلف مالا أو نفسا؛
اختلف الفقهاء فيمن اتخذ كلبا عقورا فأتلف مالا أو نفسا هل عليه الضمان أم لا؟ فذهب الأحناف والشافعية إلى أنه لا ضمان عليه لعموم الحديث، وذهب المالكية إلى أن عليه الضمان، لأنه أمسك سبعا يعدو على الناس ويفترسهم، عالم به، فلزمه ضمان ما تلف به كالذئب والفهد، ولأنه حيوان يتلف به الناس وأموالهم؛ فكان باتخاذه ضامنا كالجنايات. وسبب اختلافهم أيضا: العموم والإجمال في حديث القاعدة.
[1]– لسان العرب لابن منظور، ج: 8/ ص: 422، (مادة: ج ر ح).
[2]– يُنظر: نظرية التقعيد الفقهي وأثرها في اختلاف الفقهاء، للدكتور محمد الروكي،
الصفحة: 336-337.
[3]– الموطأ؛ كتاب: العقول، باب: ما لا يجوز جامع العقول، الصفحة: 534.
[4]– الموطأ؛ كتاب: العقول، باب: ما لا يجوز جامع العقول، الصفحة: 534.
[5]– سورة الأنبياء / الآية: 78.
[6]– الجامع لأحكام القرآن للإمام القرطبي، ج:11 / ص: 307.
[7]– الموطأ؛ كتاب: العقول، باب: ما لا يجوز جامع العقول، حديث رقم:1560، الصفحة:534.
[8]– يُنظر: الموطأ؛ كتاب: الأقضية، باب: القضاء في الضواري والحريسة، حديث رقم:1435.
[9]– يُنظر: الموطأ؛ كتاب: الأقضية، باب: القضاء في الضواري والحريسة، الصفحة: 64.
[10]– يُنظر: نظرية التقعيد الفقهي وأثرها في اختلاف الفقهاء، للدكتور محمد الروكي،
الصفحة: 336-337.
[11]– شرح القواعد الفقهية لأحمد الزرقا، الصفحة: 167.
[12]– يُنظر: نظرية التقعيد الفقهي وأثرها في اختلاف الفقهاء، للدكتور محمد الروكي،
الصفحة: 336-337.
[13]– شرح السنة للإمام البغوي، تحقيق وتعليق: سعيد محمد اللحام. (طبعة 1419هـ-1998م،
دار الفكر، بيروت). ج:8 / ص: 236-237.
[14]– كتاب الأم، للإمـام الشافعي، كتاب: الاختلاف، تحقيق وتخريج: رفعت فوزي عبد المطلب،
(دار الوفاء، 1422هـ ـ2001م). ج:8 / ص: 566.
[15]– نظرية التقعيد الفقهي وأثرها في اختلاف الفقهاء، للدكتور محمد الروكي، الصفحة:337.
[16]– الاستذكار لابن عبد البر، ج:22/ ص: 253.
[17]– سورة الأنبياء / الآية: 78.
[18]– الهداية في تخريج أحاديث البداية، للإمام الحافظ المحدث أحمد بن الصديق الغماري الحسني،
تحقيق يوسف عبد الرحمان المرعشلي وعدنان علي شلاق، (عالم الكتب، الطبعة الأولى:
1407هـ – 1987م). ج:8/ ص: 185-188.