تقديم:
أستطيع أن أوكد منذ البداية أن مناط القوة والنجاح للحركة الاجتهادية المعاصرة في معالجة إشكالات الأمة والإجابة عن أسئلة الإنسانية، انبناؤها على النظر المقاصدي، ذلك أن المأزق الذي آل إليه البحث الفقهي في تاريخنا التشريعي المتمثل على سبيل الإجمال في الانعزال في التشريع والانغلاق في الفردية بسبب التركيز على الواقعة الجزئية ودليلها التفصيلي بآلة القياس الجزئي، لا ينجينا منه سوى تأسيس الحركة الاجتهادية المعاصرة على النظر المقاصدي ليثمر ذلك نقل العملية الاجتهادية :
– من دائرة التشريع الجزئي إلى رحاب التشريع الكلي الضابط للجزئي.
– ومن القضايا الفردية والتكليف العيني التي استأثرت بالاجتهاد الفقهي قرونا إلى دنيا القضايا الاستراتيجية التي تمثل عمق الحياة، ومحورية الفعل الإنساني في سياق التكليف الجماعي، وهو الجانب المضمر في تراثنا الفقهي الموروث .
– ومن الانحصار في مدلول الآيات التنزيلية إلى مجال الآيات الكونية ضمانا لعنصري العمق والشمولية في المعرفة والمنهج[2].
وعليه فالنظر المقاصدي أصبح الآن أكثر من أي وقت مضى مطلبا استراتيجيا ملحا في الحركة الاجتهادية المعاصرة، يفرضه عجز آلة الاجتهاد الفقهي عن التفاعل الإيجابي مع قضايا العصر من جهة، وحجم التحديات التي تواجه حاضر الأمة ومستقبلها من جهة أخرى.
1. تحديد المفاهيم المؤسسة للموضوع
أقصد بالمدخل المقاصدي ذلكم الاجتهاد الذي يستثمر مقاصد الشريعة في الإجابة عن قضايا العصر تشريعا، وتوجيه الفعل الإنساني تسديدا.
وبالعلم الجامع:
– الفقه الذي ينتظم التعبد الفردي والتكليف الجماعي في نسق المقاصد الكلية للشرع لأداء وظيفة إحياء الأمة وإعادة تجذيرها في حمى الشريعة لتقيم العدل وتنشد الإحسان.
– والفقه الذي يجمع بين مقتضيات الدعوة ومتطلبات الدولة في علاقتهما الأصيلة زمن التنزيل، ويتتبع مسير هذه العلاقة وتطورها نموا وتوسعا زمن الخلافة الراشدة، ثم فسادا وكسادا على عهود العض فالجبر حتى الوضع الراهن الذي غطت فيه الدولة على الدعوة تماما وسجنتها في منابر الوعظ المراقب الملجم [3] ليعيد بناء العلاقة المطلوبة بين الدعوة والدولة زمن التجديد وبناء الخلافة الموعودة جعلني الله وأخي القارئ من المسهمين في هذا البناء.
وفي جملة: العلم الجامع أو الفقه المنهاجي أو الفقه الكلي هو الإجابة العلمية الكلية لمعضلات الأمة الكبرى ضمن مشروع علمي متكامل لبناء أمة الخلافة الثانية الموعودة.
2. كليات البناء المقاصدي: الشورى والعدل والإحسان:
تشكل هذه الكليات الإطار النظري العام لأبحاث النظر المقاصدي، بحيث تشكل القاعدة العلمية التي على أساسها تتكامل فروع المعرفة المقاصدية لخدمة استراتيجية البناء العلمي لمستقبل الأمة، وهي صياغة لمعاني كلية وردت بها الشريعة في مختلف أبوابها، لا يتسع المقام لاستعراض الأدلة المتعاضدة الشاهدة على كلية تلك المعاني.
ومن جهة أخرى فإن هذه الكليات تختزل بعمق أزمة الأمة الإسلامية منذ أن انفرط عقد وحدتها بانتقاض أولى عرى دينها، وذلك حين أحيلت الشورى استبدادا والعدل ظلما والإحسان دروشة وانعزالا، بدأ ذلك في الحكم وسرى في الأمة عبر الزمن حتى فشا الظلم وساد الاستبداد في الأسر وبين الأفراد، وتكيف الفقه الإسلامي سنين عددا مع هذا الوضع الاستثنائي تحت قواعد: الضرورة، وسد الذرائع، وارتكاب أخف الضررين، فتجزأت المعرفة في ذهن الأمة وغابت النظرة الشمولية في مناهج التفكير لديها، حتى جاءت صدمة الاستعمار الغربي فأحيل معها الفقه الإسلامي وأهله على المعاش بعد أن أقصيت الشريعة من المجالات الحيوية في الأمة .
نشأ – بعد هذا الذي اختزلته في الفقرة السابقة- واقع التغريب الذي أفرز داخليا قضايا جديدة منها عقليات تناوئ الشريعة من أساسها وتحتقر الفقه وأهله، وعقليات تدعي الاجتهاد مع الفقر في الزاد والآلة، تريد أن تراجع وتؤول كل نصوص الدين بلا استثناء .
وأعتقد أن تجاوز حالة الانشطار المعرفي والانحباس الفقهي الذي ورثناه من تاريخنا نحو أفق التجديد والمعرفة الراشدة من خلال الفقه المقاصدي، يتوقف على مدى استيعابنا للكليات الثلاث في أبعادها الإستراتيجية، ممثلة في إعادة تشكيل عقلية الأمة، واتخاذها أطرا للبحث العلمي في النظر المقاصدي، حتى لا تتكرر فينا المآسي التاريخية بغياب الكليات الثلاث .
3. ضوابط البناء المقاصدي للعلم الجامع
لاشك أن التصدي لإنتاج المعرفة المقاصدية من مستوى ما ذكرنا، وبالصيغة الجماعية
التي إليها سلفا أشرنا، تستدعي كفاءات عالية ومتنوعة تحظى إجمالا بشرطين اثنين:
ا- الشرط التربوي:
ويتمثل في إيمان أهل النظر المقاصدي وتقواهم، برهنوا على ذلك من خلال سيرتهم ومواقفهم وخدمتهم لدينهم، لأن المقام مقام مسؤولية عظيمة، وهي القيادة العلمية والفكرية للأمة، فلا ينبغي إسنادها لغير الأمناء الصادقين من أبناء الأمة.
فإذا كان هذا الشرط لا نكاد نعثر عليه في الكتابات الأصولية السابقة التي تتحدث عن شروط المجتهد[4]، فلأنه تحصيل حاصل، إذ لم يكن أمامهم يومئذ ما يضطرهم للتركيز على الشرط التربوي، بخلاف هذا الزمان الذي اشتدت فيه الحرب على القيم، وتتعرض فيه الأمة لهجمات لائكية متزايدة على دينها في ثوابته وأسسه باسم الاجتهاد والحرية الفكرية، لذلك بات من اللازم اعتماد هذا الشرط في اختيار أهل الفقه المقاصدي حتى تسند الأمانة لمن يحفظها، ولا يحفظها إلا مؤمن يخشى الوعيد النبوي لأهل التفريط بالخزي والندامة يوم القيامة[5]، وتأكيدا لهذا الشرط يقول الأستاذ عبد السلام ياسين: “لا يمكن أن يتصدى للاجتهاد ويسمى مجتهدا من زاده سميولوجيا ولسنيات وتحريف استشراقي للتاريخ، إنما يتصدى له المومنون والمومنات ممن له الميزة العلمية”[6].
ب- الشرط العلمي:
وهي الكفاءة العلمية اللازمة والخبرة الميدانية في تخصص علمي في إحدى المجالات الشرعية أو الكونية، تثبت من خلال الإنتاجات العلمية النوعية لأهلها ومشاريعهم الميدانية التي تنم عن العمق في التفكير والشمولية في الرؤية.
وضابط هذه التخصصات العلمية المطلوبة في الفقه المقاصدي، كل ما يسهم في بناء المعرفة المزدوِجة: بما هو المطلوب شرعا في المطلق، وما هو الممكن في واقع متحرك مشتبك معقد، وهذا يتطلب نوعين من التخصصات العلمية:
– تخصصات شرعية تمكن صاحبها من حسن إدراك مراد الشارع من نصوص الوحي كتابا وسنة وهي جملة من العلوم الشرعية كعلوم العربية وعلوم الحديث وعلم أصول الفقه وعلم المقاصد وعلم الخلاف وغيرها مما ذكره أهل التخصص.
– تخصصات علمية كونية وإنسانية تمكن في مجموعها من تقديم صحيح المعرفة بمختلف قضايا الواقع وإشكالاته المعقدة، وحدود الممكن المتاح، وما لا يمكن إلا بسعي وتهيئ … وهي جملة من العلوم ينبغي أن تتضافر في مؤسسة النظر المقاصدي كالعلوم الإنسانية والاجتماعية والكونية لتخدم الشق الثاني من الحكم الشرعي وهو مناطه ومحل تنزيله، بينما تتولى العلوم الشرعية خدمة الشق الأول ممثلا في فقه النص.
باجتماع الشرطين وتكاملهما في أهل النظر المقاصدي، نكون فعلا أمام كفاءات اجتهادية ناضجة قادرة على إنتاج معرفة مقاصدية تجيب عن إشكالات الأمة العظمى وتخطط لمستقبل علمي يندرج تحت شرع الله ويتطور ضمن ضوابطه، وذلك في سياق دعم ومساندة العمل الدعوي التربوي الذي تقوده الحركة الإسلامية الجادة في الأمة .
أما عملية تحديد موضوع الأولويات للنظر المقاصدي، فتتم انطلاقا من طبيعة المرحلة نفسها التي تعيشها الأمة وتحدياتها وحاجيات الأمة فيها الآنية والمستقبلية، ودرجة تفاعلها مع كل ذلك، وعليه يمكن تصنيف القضايا التي نعدها من أولويات النظر المقاصدي على النحو الآتي:
4) أولويات في بناء العلم الجامع
وأقصد بها تلكم الإشكالات المنهجية الكلية التي قاد سوء إدارتها في تاريخنا العلمي إلى تجزيء المعرفة في ذهن الأمة مما أدى إلى حالة التفتت التي عاشتها الأمة وما تزال في واقعها الفكري والعملي، وهذا ما يستدعي من أهل النظر المقاصدي استفراغ الوسع لإعادة بناء حالة الانجماع بين القضايا التالية:
أ- الجمع بين التكليف الفردي والجماعي
من المباحث الأصولية المنهجية الموضوعة أمام النظر المقاصدي المعاصر إعادة بحث موضوع التكاليف الشرعية من أجل إعادة صياغتها وفق مبدأ التمييز بين الجوانب المتعلقة بالذمة الفردية والأخرى المتعلقة بالذمة الجماعية، لكن ضمن مشروع متكامل يروم تحقيق أمرين:
1) تجاوز الصيغة الفردية للتكاليف الشرعية المؤسسة على رؤية تفصم بين البعد الفردي والبعد الجماعي للتكليف الشرعي، وهو الإشكال الذي تخبط فيه البحث الفقهي والأصولي زمنا طويلا تحت وطأة الظروف التاريخية التي مر منها، كان مآله في النهاية الانحباس في القضايا الفردية والابتعاد عن القضايا الكلية .
2) صياغة التكاليف الشرعية على نحو يتكامل فيه البعد الفردي والجماعي ويروم تقديم إجابات حقيقية لأسئلة العصر، ومن ثم نعيد الشريعة إلى مركز الحيوية في الفعل الإنساني، وهذا يحيلنا على ضرورة البحث عن صياغة كليات شرعية تنتظم الأحكام الشرعية في سلك مشروع بناء متكامل للفرد والجماعة .
وأقترح في هذا المجال: الإحسان والاستخلاف كليتين متكاملتين ومعنيين شرعيين من قبيل “ما علمت ملاءمتها للشريعة بمجموع أدلة لا تنحصر في باب واحد”[7]، فهما يمثلان السقف المقاصدي للتكاليف الشرعية في بعديها الفردي والجماعي .
فالإحسان ورد في الشرع كتابا وسنة بمعان ثلاثة[8]:
- المعنى التربوي الإيماني ممثلا في كون الإحسان يمثل الرتبة العليا في الدين بعد الإسلام والإيمان كما في حديث جبريل ” أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك” [9]، وقد ورد القرآن بالمدح والثناء على المحسنين في مواطن عدة منها قوله تعالى: ﴿إن الله يحب المحسنين﴾( البقرة: 195) وقوله ﴿والله يحب المحسنين﴾ [10]وقوله عز من قائل: ﴿إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ﴾ ( النحل: 128).
- المعنى الاجتماعي ممثلا في تحسين العلاقة بخلق الله، ابتداء بالوالدين﴿وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا ﴾ (الإسراء: 23) فالأقربين واليتامى والمساكين والناس أجمعين، كما أمر الحق سبحانه في قوله: ﴿وقولوا للناس حسنا﴾( البقرة من الآية 83).
- معنى المهارة والإتقان كما في قوله صلى الله عليه وسلم: ” إن الله كتب الإحسان على كل شئ فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة ” [11].
فهذه المعاني الثلاثة مترابطة ومتكاملة، ذلك أن المعنى الثالث عائد إلى الأول، وحصول الأول متوقف إلى حد على الثاني والثالث وهكذا .
فالمعاني الثلاثة للإحسان تمثل المرتكزات الأساسية لبناء شخصية إيجابية فاعلة للفرد المسلم، ومن ثم يكون مفهوم الإحسان كلية شرعية قادرة على انتظام التكاليف الشرعية من زاوية علاقتها بالذمة الفردية، باعتبار المآل الأخروي .
أما الاستخلاف فهو المعنى الكلي الذي يتكامل مع كلية الإحسان، والمقصد الأعلى الذي تنتظم في سلكه التكاليف الشرعية المتعلقة بالذمة الجماعية للأمة[12]، وهي التكاليف التي تفضي بالأمة-عند إقامتها على الوجه المطلوب- إلى مآل الشهود الحضاري والاستخلاف في الأرض.
وبمقتضى ما سبق يصبح النظر إلى التكاليف الشرعية نظرا مزدوجا: نظر الإحسان وهو المآل الآجل للفرد، ونظر الاستخلاف وهو المآل العاجل للأمة ( مصيرها في التاريخ )، أما النظر إلى التكليف الشرعي من زاوية دون أخرى، فإنه يعود ولا شك بالإخلال على أحد المقصدين السابقين .
نخلص إلى أن النظر إلى جزئيات الشريعة من خلال كليتي الإحسان والاستخلاف، يمكننا من تقديم الشريعة مشروعا حضاريا متكاملا يقود الفرد – من خلال إتقان عمله، وحسن تفاعله مع غيره- إلى مرضاة ربه، والأمة إلى عمارة الأرض والاستخلاف فيها دونما فصل بين الأمرين .
ب- الجمع بين المعرفة العقلية والمعرفة الشرعية:
حين ننظر إلى المعرفة بمنظار الوحي المقاصدي، متحررين من ثقل الموروث التاريخي بحق، مستقلين عن إكراهات التغريب، نجدها كلا لا يتجزأ، لا ينفصل فيها الجانب العقلي عن الجانب الشرعي، وذلك لوحدة المصدر وهو الخالق سبحانه، فإذا كانت المعرفة العقلية ترجع من حيث المصدر إلى الكون بشقيه الطبيعي والبشري، وهو كتاب الله المنظور المتضمن لآياته في الآفاق وفي الأنفس[13]، فإن المعرفة الشرعية مصدرها كتاب الله المسطور الممثل في الوحي كتابا وسنة، المتضمن لآيات الله التنزيلية، وهذا الذي أطلق عليه الدكتور طه جابر علواني: ” الجمع بين القراءتين ” [14]: قراءة الوحي وقراءة الكون.
فالجمع بين طرفي المعرفة، وإعادة بناء علاقة القران بينهما قضية منهجية مركزية بها نستطيع أن نقدم المعرفة في أبهى صور الاكتمال، ونتجاوز حالة الانفصام المعرفي الطارئة على الأمة بفعل الظروف التاريخية وفتنها التي أدت مع مرور الزمن إلى تخلف المسلمين عن العطاء الحضاري والإنتاج العلمي،حين انقطعوا عن الواقع الموضوعي المتغير، وتخلوا عن التفاعل مع الطبيعة وملاحظة مقاصد الشريعة في مجالات حيوية عديدة، فأخلدوا إلى التقليد في الشرعيات وطلقوا الكونيات، فاتسعت الفجوة بين أحوال المسلمين والغرب في البناء العلمي والحضاري الدنيوي، تلك سنة الله في الأمم ولن تجد لسنة الله تبديلا.
وإن استفراغ الوسع في معالجة هذه القضية لمن شأنه أن يرجع المعرفة إلى حالة الانجماع الأصيلة – كما كان الأمر عند سلفنا يوم تعايش عندهم النظر في الشرع مع النظر في الكون – فيستقيم فعل الإنسان وقراره وتكتمل رؤيته ويصح حكمه على الأشياء، فينفعنا حينذاك علمنا وينفع غيرنا.
فكما أن الشرع مجال للدراسة والبحث من أجل استثمار المعرفة الشرعية على أساس الاجتهاد، فكذلك الكون ميدان فسيح للدراسة والبحث والتجريب لاستمداد المعرفة العقلية على أساس المنهج التجريبي، وكلا الطرفين: الشرعي والعقلي يعضد الآخر ويسانده، ومن هنا تقرر أنه لا يتعارض صحيح المنقول مع صريح المعقول.
ج – الجمع بين العلم والإيمان:
نقصد بهذه المسألة أن يكون التحصيل العلمي في حضن التحصيل الإيماني ليعاد الأمر إلى أصله ونصابه ويصبح العلم نافعا والعمل خالصا، فيكتمل فينا الفقه في الدين الذي أرشدنا إليه القرآن في قوله عز وجل:﴿فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون﴾( التوبة من الآية 122)، ورغبتنا فيه السنة في قوله صلى الله عليه وسلم:”من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين”[15].
ولا ينفع العلم إلا إذا حصل من مدخل التربية الإيمانية مصداقا لقول الله عز وجل: ﴿واتقوا الله ويعلمكم الله﴾( البقرة من الآية 282)، فيثمر العلم حينئذ خشية الله في قلب صاحبه كما قرر الحق سبحانه في قوله:﴿إنما يخشى الله من عباده العلماء﴾( فاطر من الآية 28)، وعملا مباركا باقي الأثر في الأمة يتوج بالدرجات العلى عند المولى:﴿يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ﴾( المجادلة من الآية 11).
والعلم حين ينفصل عن الإيمان يصبح حجة على صاحبه ووبالا على الأمة وكارثة على الإنسانية، وهو العلم الذي كان يستعيذ منه صلى الله عليه وسلم في دعائه: ” اللهم إني أسألك علما نافعا وأعوذ بك من علم لا ينفع”[16].
قال المناوي في تعليقه على هذا الحديث: ” وفي قرنه بين الاستعاذة من علم لا ينفع ومن قلب لا يخشع إشارة إلى أن العلم النافع ما أورث الخشوع”[17].
فمقتضى النظر المقاصدي في هذا الإشكال العميق التأسيس لعقد القران بين ثنائيتي التحصيل الإيماني والتحصيل المعرفي في مناهجنا التربوية والتعليمية وفي ثقافتنا العامة وبرامجنا الإعلامية، فنكون بذلك قد جمعنا بين طرفي الفقه في الدين أو ما يسميه الغزالي علم الآخرة[18]، فينضبط العلم بمطلوب العدل في الدنيا وبغاية الإحسان في الأخرى، وحينها تستعيد الأمة حيويتها وعافيتها .
د- الجمع بين العلم والعمل:
المقصود من هذه القضية المنتصبة أمام النظر المقاصدي الآن إكساب الأمة وأفرادها القدرة على ترجمة أفكارها ومعارفها إلى خطط ومشاريع عمل، بدل الحرص على الجمع والتحصيل والتخلي عن العمل والتطبيق، إذ القصد من العلم العمل، فقد دل استقراء الشريعة أن المقصود بالعلم المطلوب شرعا ما انتهى إلى عمل سواء كان عملا قلبيا- مثلما ذكرنا قبل عن الإيمان- أو جوارحيا، كان ذلك العمل في حق الفرد أو المجموع، وقد قرر الشاطبي في المقدمة الخامسة من موافقاته أن “كل مسألة لا ينبني عليها عمل فالخوض فيها خوض فيما لم يدل على استحسانه دليل شرعي”[19] .
فربط العلم بالعمل أو بعبارة أكثر إجرائية ربط المعرفة بآليات التوظيف والإعمال مقصد شرعي عظيم من شأن تحقيقه أن ينقل الأمة من درك اجترار المعرفة إلى أفق الفاعلية والإنتاجية وهذا لا يتم – في نظري – إلا إذا تم تنزيل هذا المقصد في عمق المنظومة التربوية التعليمية المسؤولة الأولى عن تشكيل عقول خريجيها، وتوطينه كذلك في برامج تكوين الأطر والإعلام وغيرها حتى نتمكن من تكوين أجيال مسكونة بهاجس العمل وهي تبحث عن المعرفة .
وقد تولى الله سبحانه في كتابه توجيه البحث عن المعرفة- من خلال الأسئلة التي كانت ترد على الرسول صلى الله عليه وسلم- في اتجاه العمل لا مجرد النظر، نذكر من ذلك:
قوله تعالى: ﴿يسألونك عن الاهلة قل هي مواقيت للناس والحج ﴾( البقرة من الآية 189)، فقد كان السؤال عن معرفة لا ينبني عليها عمل، وهو: لم يبدو الهلال في أول الشهر دقيقا كالخيط ثم يمتلئ حتى يصير بدرا ثم يعود إلى حالته الأولى ؟ [20] فكان الجواب فيما يفيد العمل.
قوله تعالى:﴿يسألونك عن الساعة أيان مرساها فيم أنت من ذكراها إلى ربك منتهاها﴾ (النازعات الآيات 42-43-44)، فبين سبحانه للسائل أن سؤاله فيما لا يعني، إذ يكفي العلم بأنها ستقع، وإنما الواجب المقصود الإعداد لها، وهذا الذي بينه الرسول صلى الله عليه وسلم للذي سأله عن الساعة بسؤال موجه للمقصود: “ما أعددت لها؟”[21].
وقد قرأ عمر رضي الله عنه قوله تعالى: “وفاكهة وأبا” فقال: هذه الفاكهة فما الأب؟ ثم قال: نهينا عن التكلف “، وذلك حين أدرك أن إدراك المعنى التركيبي للآية يغني عن المعنى الإفرادي للأب الذي لا يتعلق به كبير غرض، وعن هذا النوع من الأسئلة التي لا ينبني عليها عمل عزر رضي الله عنه صبيغا ونفاه حتى تراجع عن ذلك [22].
وسأل ابن الكواء عليا بن أبي طالب عن معنى قوله تعالى:﴿والذاريات ذروا فالحاملات وقرا﴾( الذاريات الآيتان 1- 2) فقال له: سل تفقها ولا تسل تعنتا، ولما سأله عن السواد الذي في القمر قال: أعمى سأل عن عمياء، ثم أجابه[23].
ومن نتائج العمل بالعلم على المستوى الفردي أن يزداد صاحبه إيمانا وخلقا وهداية، وعن مالك بن دينار أنه قال: ” إذا طلب العبد العلم ليعمل به كسره علمه، وإذا طلب العلم لغير العمل زاده كبرا ” [24]، أما على المستوى الجماعي فإن بنيان الأمة العام يتقوى بما فيها من العلم والعمل، لتنهض بواجب الإعمار في الأرض، وتحقق مقصد الاستخلاف .
هـ– الجمع بين الاجتهاد الفردي والجماعي
إذا كان الإنتاج العلمي في تاريخنا الفقهي قائما على الاجتهاد الفردي بقيادة العالم الموسوعي، وذلك حسب ما أملته الظروف التاريخية زمن العض، حين حصر البحث الفقهي في عمومه في قضايا فردية جزئية مرتبطة بالحياة اليومية، وكانت الحياة وأسئلتها يومئذ لاتخرج في مجملها عن البساطة، فإن الواقع المعقد للأمة الإسلامية الآن، وما يطرحه من أسئلة متشابكة ضمن واقع دولي أكثر تعقيدا وتطورا وتقلبا وسرعة، لم تعد تنفع معه الصيغة الفردية للاجتهاد وحدها، بل لابد من صيغة جماعية تتمم الصيغة الفردية ولا تلغيها.
أما المقصود بالصيغة الجماعية للاجتهاد، فهو أن يمارس الاجتهاد العلمي في مؤسسات علمية تضم كفاءات علمية نابغة متضلعة في مختلف التخصصات، بحيث تتنوع إلى مؤسسات قطرية محلية تتولى دراسة قضايا الواقع المحلي بحثا عن الحلول الشرعية لها، ومؤسسات إقليمية تهتم ببحث الإشكالات التي يطرحها الواقع الإقليمي، ومؤسسات عالمية تتصدى للإشكالات الكبرى والقضايا المركزية التي تواجه الأمة الإسلامية[25] من جهة والإنسانية من جهة أخرى، وتعالجها من مختلف الزوايا العلمية.
والمطلوب من هذه المؤسسات حتى تؤدي رسالتها، أن تتكامل في عملها وتتعاضد ضمن إستراتيجية علمية واضحة تقوم على مبدأين متكاملين:
أولهما: العمل على إيجاد الحلول الشرعية لإشكالات العصر ضمن حدود الوسع الجماعي والفردي للأمة، وفي ظل إكراهات الواقع الغثائي والتكالب الدولي التي تكبل الأمة.
ثانيهما: التنظير العلمي والتخطيط الاستراتيجي لإعادة بناء المعرفة الإسلامية المتكاملة في العقل الجماعي للأمة، وعقول أفرادها، وذلك في أفق استئناف الحياة الإسلامية في الأمة، سواء على مستوى أقطار التجزئة بداية أو على مستوى الأمة يوم يأذن الله بوحدتها، وينجز وعد نبيه صلى الله عليه وسلم بالخلافة الثانية .
غير أن هذا العمل الجبار يتطلب شروطا لابد من توفيرها، نجملها فيما يلي:
أولها: العمل على ترسيخ قيم التمويل والإنفاق بسخاء على البحث العلمي في الأمة باعتباره قضية حياة الأمة أو موتها، وأولى ما تنفق فيه الأموال في هذا الزمان تقربا إلى المولى، حتى يقبل الجميع- في جو تنافسي- في خدمة هذه القضية أفرادا ومؤسسات ورجال أعمال ودولة رغبة فيما أعده الله للمنفقين في سبيل الله في قوله سبحانه: ﴿الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون﴾.( البقرة:261)
فخير مدخل لإنجاح المشاريع الكبرى في الأمة أن نحيي فيها الحوافز الإيمانية الغيبية ليسارع الجميع إلى مساندة واحتضان مشاريع النهضة والعمران الأخوي في جو تنافسي يحذوه قول الله عز وجل:﴿سارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والارض أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء…الآية﴾[26]، إذ لا مستقبل لنهضة تنمو خارج كنف الأمة وحضنها، محرومة من دعمها وتمويلها وحمايتها .
ثانيها: الحرية والاستقلال في البحث العلمي داخل المؤسسة، فأجواء الاستبداد والإرهاب لا تبعث على الإبداع والنهوض الحضاري وإنما يتولد عنها التبلد والانكماش والتحجر، يقول محمد الهاشمي موضحا أثر الحرية في البحث العلمي: ” إن حرية البحث العلمي تؤدي إلى الخلق والإبداع، والإنسان الموهوب إذا منح الثقة وحرية البحث والتفكير أثبت أنه قوة قادرة وكنز طاقات ومواهب وعنصر فعال وصخرة صلدة ومرآة ينعكس عليها تطور الأمة وتقدمها ” [27] .
فما جنى على الفقه الإسلامي في وقت مبكر غير منطق السيف المصلت على رقاب الفقهاء من قبل الأجهزة الحاكمة المتوالية على الأمة منذ الانقلاب الأموي، وهو ما فرض على الدراسات الفقهية أن تتجه في مجملها اتجاها فرديا جزئيا ضمن مجال الحياة اليومية للفرد المسلم، بعد أن طردت قسرا من ساحة الفقه العام، وبقيت القضايا الحيوية والمصيرية في حياة الأمة من قبيل الشورى والعدل في الحكم وفي القضاء وفي قسمة الأرزاق ومظلومية المرأة ووحدة الأمة غفلا من البحث والاجتهاد والمراكمة العلمية الجادة .
فكانت النتيجة على المستوى العلمي غزارة الإنتاج العلمي في مجال الفقه الفردي، وضعفه وقصوره في مجال الفقه السياسي العام، إذ لا نكاد نجد في هذا الميدان إلا أدبيات فقه السلطان التي تقنن وتسوغ الوضع السياسي الاستثنائي القائم الذي لا يسمح برأي حر يجادل في واحدة من القضايا السابقة خارج إطار التقنين والتسويغ.
فكان كل من تجرأ من أهل العلم لإسداء نصح أو إبداء رأي مخالف يساق إلى السجن مكبلا كما حدث للإمام الشافعي، أو يطاف به في الأسواق تحت السياط كما وقع لإمام دار الهجرة مالك بن أنس، أو يعرض لأنواع الترهيب والتنكيل ليتراجع عن رأيه كما فعل بالإمام أحمد بن حنبل في محنة خلق القرآن، أو يقتل ذبحا كما حصل لإمام التابعين سعيد بن جبير، ولإمام أهل البيت الحسين السبط رضي الله عنه، أو يقتل صلبا كم حدث للصحابي الجليل عبد الله بن الزبير رضي الله عنه وهكذا.
وقد يتخذ أسلوب القتل الجماعي وانتهاك الأعراض ونهب الأموال وسيلة للتخلص من رجال العلم وأهليهم ومن يأتم بهم، كما في واقعة الحرة لما استباح يزيد بن معاوية وعساكره مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام، قتل خلالها ” من فيها من بقايا المهاجرين والأنصار وخيار التابعين وهم ألف وسبعمائة ومن الأخلاط عشرة آلاف … “[28].
ثالثها: التنسيق بين المؤسسات العلمية والتقنية في الوطن الإسلامي، ومراكز البحث في العالم من أجل التعاون وتبادل المعلومات والخبرة ، فما يوجد لدى المسلمين من مؤسسات علمية عبر العالم على قلتها وضعف فعاليتها إنما ينقصها التعاون وتنسيق الجهود في أفق بناء شبكة علمية عالمية قوية تستجيب لتحديات الأمة ومتطلبات مستقبلها.
أما العالم المجتهد الفذ الذي استكمل أدوات النظر الاجتهادي اللازمة لفقه النص ومحل تنزيله، فله أن يجتهد ويواصل البحث في القضايا الجزئية والفردية مما تطرحه الحياة اليومية مسترشدا بالقضايا الكلية التي تعالج على مستوى المؤسسات الجماعية.
وفي جملة: الجمع بين الاجتهاد الفردي والجماعي بالشكل الذي ذكرنا متكأ منهجي أساس في منهج الفقه المقاصدي الذي ننشده، ومقدمة لازمة للبناء العلمي لمستقبل أمتنا بتوفيق المنان سبحانه .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[2] – ينظر بحثنا ” النظر المقاصدي وأولوياته الراهنة ” المنشور ضمن أعمال الندوة العالمية المنعقدة بماليزيا غشت 2006م في موضوع: مقاصد الشريعة وسبل تحقيقها في المجتمعات المعاصرة 1/122.
[3] – ينظر كتاب”نظرات في الفقه والتاريخ” لعبد السلام ياسين ص17 .
[4] – تنظر دراسة مفصلة لأدوات النظر الاجتهادي عبر القرون السابقة لمصطفى قطب في كتابه “أدوات النظر الاجتهادي” ص 23 فما بعدها .
[5] – مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر حين طلب المسؤولية “… إنها خزي وندامة يوم القيامة …” مسلم / كتاب الإمارة / باب كراهة الإمارة بغير ضرورة .
[6] – “حوار مع الفضلاء الديمقراطيين” لعبد السلام ياسين ص 49 ط 1 – 1994 مطبوعات الأفق البيضاء المغرب.
[7] – الموافقات في أصول الشريعة للشاطبي تحقيق دراز 1/26 ط 3- 2003.دار الكتب العلمية – بيروت.
[8] – ينظر كتاب”الإحسان” لعبد السلام ياسين 1/17 فما بعدها ط. 1 – 1998 مطبوعات الأفق – البيضاء – المغرب.
[9] – البخاري في كتاب الإيمان باب سؤال جبريل، ومسلم في كتاب الإيمان باب الإيمان والإسلام والإحسان .
[10] – تكرر وروده في القرآن .
[11] – مسلم في كتاب الصيد والذبائح باب الأمر بإحسان الذبح والقتل .
[12] – لا أرى داعيا لسرد الشواهد القرآنية والحديثية على ذلك فهي معروفة.
[13] – مصداقا لقول الله تعالى ” سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ” فصلت من الآية 53 .
[14] – صدر له كتاب بهذا العنوان.
[15] – البخاري في كتاب العلم باب من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين .
[16] – ابن حبان في صحيحه عن جابر بن عبد الله.
[17] – فيض القدير شرح الجامع الصغير للمناوي 5/478 . ط 1 – 1356ه المكتبة التجارية الكبري – مصر .
[18] – ينظر إحياء علوم الدين للغزالي / الباب الثاني من كتاب العلم دار الكتب العلنية بيروت دون رقم ط. ولا تاريخها.
[19] – الموافقات 1/31 .
[20] – ينظر تفسير البغوي لابن مسعود البغوي ص 98 . ط 1 – 2002 م دار ابن حزم بيروت لبنان .
[21] – ينظر الحديث في صحيح البخاري كتاب الأدب باب ما جاء في قول الرجل ويلك، وصحيح مسلم كتاب البر والصلة والآداب باب المرء مع من أحب .
[22] – ينظر الموافقات 1/33 و 2/66 .
[23] – ينظر الموافقات 1/34 .
[24] – البيهقي في شعب الإيمان .
[25] – لمزيد من التفصيل ينظر: “أدوات النظر الاجتهادي المنشود في ضوء الواقع المعاصر” لقطب مصطفى سانو ص 150 فما بعدها .
[26] – آل عمران الآية 133 وجزء من الآية 134 .
[27] – الأساليب العلمية لرعاية الموهوبين في الوطن العربي لمحمد الهاشمي ص 38 ط. 1 دار النصر بيروت 1993 .
[28] – فيض القدير1/42 .