منار الإسلام
موقع تربوي تعليمي أكاديمي

قراءة في كتاب: العدالة والديموقراطية:التغيير العالمي من منظور نقدي حضاري إسلامي

عماد الدين محمد عويس عشماوي

0

 قراءة في كتاب: العدالة والديموقراطية

“التغيير العالمي من منظور نقدي حضاري إسلامي”

المؤلف: نادية مصطفى.

الناشر: الشبكة العربية للأبحاث والنشر.

الطبعة الأولى:2015.

عدد الصفحات:327

الباحث: عماد الدين محمد عويس عشماوي

 

 

 

في ظل أزمة الرأسمالية العالمية والليبرالية، وأزمة قيادة العالم التي تعاني منها منظومة العلاقات الدولية، بالإضافة إلى أزمة منظومة القيم في النظام العالمي والتي بينت جميعها أهمية الأبعاد الثقافية في تصميم سياسات القوى العالمية في القرن الحالي، ظهرت منظورات عالمية مختلفة تنافس المنظور الغربي المهيمن على حقل العلاقات الدولية وتدعو إلى التعددية في المنظورات الحضارية، وتحاول أن تحلل وتنقد الأطر النظمية المحيطة بعالمنا من أجل اقتراح حلول واقعية لأزمة الحضارة العالمية الراهنة تنبع من إصلاح النظام العالمي حتى يحقق عالما أكثر أمناً وعدالة، ومن ضمن هذه المنظورات البازغة؛ المنظور الحضاري الإسلامي للعلاقات الدولية.

نشأ المنظور الحضاري الإسلامي وازدهر في جامعة القاهرة في الثمانينات والتسعينات من القرن المنصرم على أيدي الراحلين الدكتورين: حامد ربيع ومنى أبو الفضل، ومدرسة إسلامية المعرفة والمسلم المعاصر، ومن تابعهم من أبناء مدرسة السياسة الإسلامية الذين خدموا المفهوم طوروه وحاولوا بيان معالمه، أمثال الدكاترة: سيف الدين عبد الفتاح، وهبة رؤوف، وأماني صالح وغيرهم.

وتأتي الدكتورة نادية مصطفى؛ التي تطمح كتاباتها إلى إرساء منظور حضاري إسلامي للعلاقات الدولية مقارن مع منظورات العالم الأخرى، على رأس رموز مدرسة المنظور الحضاري في العلاقات الدولية اليوم، وهي تبحث في هذا الكتاب، المكون من أربعة فصول، فضلاً عن مقدمة وفصل تمهيدي وخاتمة، في حالة علم العلاقات الدولية المعاصر وتشرح أزمات النظام العالمي من منظورات علم العلاقات الدولية المقارنة؛ مع التركيز على المدرسة النقدية الساعية لإصلاح النظام الدولي من خلال تقديم أطروحات مقارنة حول الديموقراطية والعدالة العالمية (ص13)، وهي تناقش هذا كله من أجل استدعاء المنظور الحضاري الإسلامي في مقابل تلك المنظورات، أملاً في إسهام إسلامي حقيقي في حل أزمات العالم وفي القلب منه أزمات مجتمعاتنا العربية المسلمة، وتتخذ من قضية الديموقراطية مدخلاً لبيان قدرة المنظور الحضاري الإسلامي على الإضافة لحقل العلاقات الدولية، وتتناول خبرة الثورات العربية وموقف القوى العالمية منها ومن قضية الديموقراطية ذاتها، نموذجاً لبيان عوار أطروحات الديموقراطية العالمية مقابل تميز طرح مدرسة المنظور الحضاري لها.(ص59-60) من أجل بيان معالم رؤية إسلامية ترصد وترسم خريطة الأفعال والأقوال الدالة من جهة، وإطلاق التحذيرات والتنبيه على الضرورات من جهة أخرى، ورسم معالم الطريق نحو ديموقراطية عالمية تنطلق من الرؤية الإسلامية. (ص291).

العالم في أزمة.

تناولت المؤلفة خلال فصول الكتاب أزمات العالم في بداية القرن الحادي والعشرين، وتساءلت بناء على تفاقم تلك الأزمات: هل يدخل النظام العالمي مرحلة تحول في هيكل القوة العالمية تفقد فيه الولايات المتحدة قدرتها على قيادته بمفردها؟ وهل سيشهد نظام الرأسمالية العالمية بدوره تحولا جذريا في ضوء تراجع الولايات المتحدة والأزمة الاقتصادية العالمية؟ لتخلص إلى أن العالم مع نهاية العقد الأول من الألفية يمر بثلاث أزمات: أزمة الرأسمالية العالمية والليبرالية، وأزمة قيادة العالم، وأزمة منظومة القيم في النظام العالمي، كل ذلك في ظل صعود وزن الأبعاد الثقافية والقيمية في واقع العلاقات الدولية بعد أن ظل الاهتمام مركزاً على الأبعاد المادية طويلاً. (ص22-23)

أزمة علم العلاقات الدولية.

وذلك من خلال تناولها لاتجاهات الإصلاح والتغيير في النظام الدولي الراهنة؛ وفي قلبها رؤية التيار النقدي في علم العلاقات الدولية ومدخله التثويري من أجل تغيير جذري يقود نحو نظام عالمي جديد بديل للنظام الرأسمالي السائد، وما يتسم به من إبراز وزن الأفكار والقيم والثقافة عند تحليل العلاقات الدولية (ص34-55)، لتخلص المؤلفة إلى أن المراجعة لحالة لعلم العلاقات الدولية تؤشر على أن علم العلاقات الدولية الذي تأسس منذ ما يقرب من القرن ليكون نظاماً فرعياً مستقلاً في نطاق علم السياسة، أو علماً مستقلاً بذاته، بدأ يشهد أزمة تجسدت في عدة ملامح، ومن أهمها:

1- عدم وجود منظور سائد ومهيمن على مجال الدراسة، ومن ثم تعدد المنظورات المتنافسة على نحو يعكس فوضى نظرية.

2- عدم وجود نظرية عامة للعلاقات الدولية، إلى جانب فشل النظريات الكبرى داخل كل الاقترابات في التنبؤ بنهاية الحرب الباردة.

3- حالة السيولة التي تعكسها الما بعديات: ما بعد الحرب، ما بعد الحداثة، سواء على صعيد المنهج أو المضمون.

4- اهتزاز الخطوط الفاصلة بين علم العلاقات الدولية وبين باقي العلوم الاجتماعية والإنسانية.

5- بروز دور الدين والثقافة في دراسة العلاقات الدولية بعد أن حازت القضايا والأبعاد العسكرية- الأمنية، وقضايا الاقتصاد السياسي الدولي، وسيادة المنهج الوضعي- السلوكي الإمبريقي الذي رفع شعار “علم خال من القيم” في ظل سيادة المنظور الواقعي. (ص 61-66)

وقد أدى كل ما سبق إلى تنامي الحديث عن “إعادة تعريف السياسي”، والذي ساهمت فيه المداخل القيمية والثقافية والحضارية والدينية بعيداً عن المستوى التحليلي التقليدي: الدولة والنظام الدولي، كما ساهمت في إعادة تحديد نطاق موضوعات العلم لموضوعات جديدة، وفي قلبها قضية الديموقراطية العالمية، وكيفية تحقيقها؟ (ص67-68)، وهي مجتمعة تستدعي ضرورة طرح تعددية المنظورات الحضارية كسبيل فعال لحل أزمات النظام الدولي.

نحو تعددية المنظورات.

تدعو المؤلفة في ضوء ما أظهرته الأزمات السابقة من آثار سلبية على عالمنا إلى تبني “التعددية في المنظورات الحضارية” باعتبارها سبيلاً لحل أزمة الحضارة العالمية الراهنة، ولتحقيق عالم أكثر أمناً وعدالة (ص23)، وبخاصة في ظل تصاعد النقاش العالمي حول القيم ودورها في النظام العالمي الذي غير مسار النقاش من مجرد الحوار حول “التغير” في النظام العالمي إلى “التحول” في بعض مكوناته بالتركيز على مؤشراته وأسبابه ونتائجه، سواء على: مستوى قيادة النظام، أو هيكله، أو منظومة قيمه، (ص 26-27) ومؤكدة أن أزمة النظام العالمي الراهنة هي أزمة معيارية قيمية وليست أزمة مادية فقط، ويعزز رؤيتها تلك أن “القيم والأفكار والمعتقدات والهوية والثقافة والدين” صارت قواسم مشتركة في عناوين أدبيات علم العلاقات الدولية وأدبيات الحركة الدولية على حد سواء، وأن الاستفادة من أطروحات المنظورات الحضارية المختلفة غير الغربية سيسهم دون شك في إغناء حقل العلاقات الدولية برؤى متميزة تضيف إليه وتخرجه من أزمته التي أوقعه فيها الأحادية المركزية الغربية.(ص 32)

المنظور الإسلامي للعلاقات الدولية.

تطرح المؤلفة المنظور الحضاري الإسلامي كأحد النماذج القيمية القادرة على الإسهام في حل أزمات النظام الدولي، وفي قلبها قضية الديموقراطية العالمية وكيفية تحقيقها على الوجه المأمول. والمنظور الحضاري الإسلامي؛ هو منظور قيمي ذو طبيعة خاصة ترجع إلى تميز مصادره الإسلامية عن نظائرها في المنظورات الغربية نتيجة اختلاف طبيعة النسق المعرفي الإسلامي عن نظيره الغربي، ويتميز بمنهجيته وأدواته وافتراضاته ومقولاته في تناول الأبعاد الأساسية لدراسة العلاقات الدولية: أصلها ومحركها، الفواعل ووحدات التحليل ومستوياته، ونمط قضايا العلاقات الدولية وتفاعلاتها محل الاهتمام، والعلاقة بين الداخلي والخارجي، وبين المادي وغير المادي في تفسير الأحداث والتطورات وفي طبيعة الحلول التي يطرحها. (ص77-79)

وهذا المنظور، ليس مجرد تصور مثالي عما يجب أن يكون، لكنه يتعامل مع الواقع بقدر ما يتعامل مع المصادر الدينية التأصيلية للمنظور ورؤيتها عن التغيير، فمصادر المنظور الإسلامي للعلاقات الدولية تنطلق من أساس شرعي يؤسس المبادئ الحاكمة للعلاقات الخارجية في الإسلام، ومنظومة القيم الحضارية التي يتضمنها الإسلام كإطار مرجعي لدراسة العلاقات الدولية، والرؤية التي يقدمها المنظور لإصلاح العالم من خلال أسسه الشرعية ومنظومة قيمه ومبادئه التي لا تقرر ما يجب أن يكون فقط لكنها ذات صلة كبيرة بالواقع، وتتمثل أبعاد منظومة الإصلاح التي يطرحها المنظور الحضاري الإسلامي كما تقدمه المؤلفة، في:

أولاً: محركات ودوافع الإصلاح والتغيير، وتتمثل في: منظومة الدعوة- القوة- الجهاد: فالدعوة أساس تلك العلاقات، بينما القوة هي حقيقة استخلافية تحرك الفعل الحضاري العمراني وليست قوة طغيان، وهي تتحرك ضمن منظومة منفتحة على مفاهيم:العدل، الحق، البناء، وليس المصلحة والصراع وتوازن القوى والمصالح، وهي وسيلة ومقدمة لواجب الحق والعدل، وتشمل عناصر مادية ومعنوية، بينما يعني الجهاد بذل المسلم أقصى الجهد لخدمة الإسلام وليس مرادفاً للحرب فقط؛ سواء كانت دفاعية أم هجومية, فهو كمبدأ أو قيمة إسلامية أساسية له أشكال وأساليب متنوعة، وله أدواته: الحرب، والسلام، من أجل الدعوة.

ثانياً: العلاقة بين دوائر الاجتماع البشري (وحدات ومستويات التحليل، مصدر الإصلاح والتغيير) والتي تقوم على علاقة الضم وليس استبعاد دائرة على حساب أخرى، بدءاً من الفرد ومروراً بالجماعة والأمة والدولة والعالم، حيث ينطلق نموذج المنظور الحضاري من الأمة كمستوى تحليلي باعتباره أحد الإسهامات الإسلامية الأصيلة، وهو يتشكل من أبعاد أربعة، وهي:

1-الجماعة باعتبارها المادة الحية للأمة، وليس المؤسسة أو الدولة أو الفرد.

2-المنهج (العقيدة ونمط السلوك) وهو بمثابة الرابطة التي تجمع أجزاء هذه الجماعة وأفرادها في وحدة.

3-الوظيفة/الدور: أي وجود التزام من الجماعة إزاء معتقدها وطريقتها المثلى في الحياة.

4- الزمن: وهو ساحة بيان نجاح أو فشل جماعة أو جيل منها في إنجاز مهمته أو رسالته.

الأمة: الفاعل الغائب.

وتؤكد المؤلفة أن طرح مستوى الأمة يغطي جانباً مهماً في مجال العلاقات الدولية ويبين ملمحاً متميزاً من ملامح المنظور الحضاري الإسلامي للعلاقات الدولية، ويلقي الضوء على فاعل تجاهلته أدبيات العلاقات الدولية التقليدية وهو الجماعة، وعلى دينامية مهمة من ديناميات العلاقات الدولية؛ وهي العقائد، كما أنها تتيح للباحث التركيز على مناطق بينية تربط أكثر مما تجزئ عدداً من عناصر التحليل في العلاقات الدولية.

في ضوء هذه الثلاثية: الجماعة-الأمة-الدولة، فإن رؤية المنظور الحضاري الإسلامي عن إصلاح العالم تتضمن عدة دوائر تتضافر معاً لتحقيق ذلك، وهي:

ا- إصلاح الإنسان الفرد في ضوء ميزان الحق والواجب، الإنسان المستخلف لعمارة الأرض بوسطيته واعتداله وعدله المادي والمعنوي، المبرأ براءة أصلية، المحفوف بالرعاية الربانية، ويمتد هذا التصور للإنسان في تجلياته الجماعية على مستويات: الأسرة، والجماعة، والدولة، والأمة، والبشرية.

ب- إصلاح الجماعة/الأمة-الأمة/الدولة، والنهوض بها يبدأ من الدائرة القيمية، ممتداً بالتفعيل إلى الدوائر الأخرى.

ثالثاً: منظومة قيم الإصلاح والتغيير: وتشمل الحوار انطلاقاً من التعارف بين الناس، والتدافع والتداول الحضاريين بين الأمم والدول، ومفهوم الحوار الحضاري وما يرتبط به من مفاهيم: الأمن الحضاري، والمصلحة الحضارية.

رابعاً: الغاية حول العالم ومنظومة قيم تأسيسه (التوحيد، التزكية، العمران)، ومنظومة معايير إصلاحه: ومحور هذه الرؤية القرآنية عن العالم مفهوم (المقاصد العامة) التي تحدد مفهوم المصالح. (ص200-269)

وبعد بيانها للخطوط العامة لرؤية المنظور الحضاري الإسلامي التي يمكن أن تسهم في إصلاح النظام الدولي، تناولت المؤلفة قضية الديموقراطية العالمية والتي تعد في صلب القضايا التي يتوقف على النجاح في التعامل معها نجاح إصلاح النظام العالمي.

ما هي الديموقراطية العالمية؟                    

[الديمقراطية العالمية هي نظرية سياسية تستكشف تطبيق قواعد الديمقراطية وقيمها في المجال عبر الوطني والعالمي والحديث عنها ليس بجديد فقد سعى لتأكيد شكل من أشكال الديموقراطية على المستوى الدولي بتأكيده المساواة السيادية بين الدول الأعضاء في المنظمة ودعا إليها الكثير من المفكرين على اختلاف رؤاهم لها وكيفيات تحقيقها واقعاً كما تؤكد المؤلفة] [يجمل بالباحث إعادة النظر في هذه الفقرة لما وقع من اضطراب] (ص101-126)، وهو الأمر الذي دفع المؤلفة للتساؤل عن نوعية القضايا التي يمكن التصدي لها اليوم؛ خاصة من خلال المنظور الحضاري الإسلامي الذي تتبناه، مثل: ما هو مفهوم الديموقراطية العالمية؟ وما هو جوهره؟ وما الغاية من طرحه؟ وما هي فلسفته وغاياته؟ ولمصلحة من يصاغ الحوار وتتحرك مساعي إقامة الديموقراطية العالمية؟ وهل المقصود بالديموقراطية العالمية: ديموقراطية كونية، أم ديموقراطية عبر قومية، أم ديموقراطية فوق قومية، أم ديموقراطية إقليمية؟ وما هي الشروط اللازم توافرها؟ وما الرغبة في تحقيق تلك الديموقراطية العالمية؟ وما إمكانية تحقيقها من عدمه؟ (ص 89-104، ص 188)

وتخلص المؤلفة من خلال استعراض آراء المدارس المختلفة في تعاملها مع المفهوم إلى عدم وجود توافق حوله، كما أكدت على أن الجدالات حوله كثيرة ومتشعبة وأن ذلك قد أدى إلى اختلاف وصل حد التناقض وهو الأمر الذي أنتج انعدام الاتفاق حول هذا المفهوم، ناهيك عن آليات تطبيقه، وهو الأمر الذي أنتج العديد من الإشكاليات، مثل:

ا- إشكالية صلاحية تطبيق الديموقراطية على المستوى العالمي.

ب- إشكالية العلاقة بين الديموقراطية والعلاقات الدولية.

ج- إشكالية أيهما أسبق الديموقراطية الداخلية أم الديموقراطية العالمية؟

د- إشكالية هل المطلوب من أجل إدارة العالم على نحو أفضل التعديل والتحسين، أم تغيير شكل الإدارة بالكلية؟ (ص89-98)

وفي ضوء هذه الإشكاليات ترى المؤلفة أن جدالات “الديموقراطية العالمية” ليست مجرد جدالات معتادة حول الفواعل والقضايا والعمليات من منظورات مختلفة، ولكنها بالأساس جدالات حول “فلسفة” هذه الديموقراطية ومنظومة قيمها وغاياتها “العالمية” بين المنظورات المتعددة داخل النموذج الحضاري الغربي، وبين الدعوات لنقد ورفض ما عكسه هذا النموذج السائد من هياكل للقوة وأنماط تفاعلات الهيمنة داخل النماذج الحضارية غير الغربية؛ وفي صلبها المنظور الحضاري الإسلامي.(ص 124).

وتطرح المؤلفة رؤيتها لتفعيل المنظور الحضاري الإسلامي ليقدم إسهاماً حقيقياً في قضية الديموقراطية العالمية؛ وبخاصة في ظل خبرة الثورات العربية، مؤكدة أهمية الاهتمام بمفهوم الديموقراطية العالمية بالنسبة للعرب والمسلمين لكونه يحتمل أن يؤدي دور بوتقة جديدة لتجميع تلك المراجعات المتناثرة بين فروع مختلفة من هذا العلم؛ بل بين مختلف العلوم، والتي أثارتها المنظورات المختلفة لقضية الديموقراطية العالمية من أجل غزل مفهوم بأبعاد جديدة للديموقراطية لا تخلط بين المقاصد والأدوات. (ص 126)

المسلمون والنظام العالمي والديموقراطية العالمية؛ حضور كالغياب.

على بالرغم من حضور المسلمين في قلب كل ما يعانيه النظام العالمي من مشكلات وتأثرهم بها بشدة؛ وفي مقدمتها فشل تطبيق الديموقراطية في مجتمعاتهم، بسبب الخلل الحادث في هذا النظام وفي تحيزاته عند تطبيق قضية الديموقراطية من بلد لآخر، إلا إنهم غائبون بصورة كبيرة عن تقديم منظورهم الحضاري للعلاقات الدولية ورؤيتهم الإسلامية لجدالات الديموقراطية العالمية، بل إن المفهوم ذاته والمفاهيم المرتبطة به غائب عن دائرة اهتماماتهم كمسلمين ونخب مسلمة. (ص 127-129)

لتتساءل الباحثة وما هو الجديد في العالم في هذا المجال؟ وإلى من ينتسب؟ وعلى من تعود آثاره السلبية والإيجابية على حد سواء؟ والأهم من ذلك ما هي أسبابه؟ وكيف يقع هذا الغياب؟ لأن فضاءنا الحضاري العربي والإسلامي واقع في قلب التحولات التي يطرحها هذا المفهوم، صعوداً وهبوطاً، فاعلين ومفعولاً بنا. (ص 9) فقضية الديموقراطية في عالمنا الإسلامي ليست مجرد تأصيل وفكر فقط، ولكنها قضية واقع ذي سياسات وبرامج تشكلت تحت ضغوط خارجية وتحديات داخلية في ظل العولمة.

ولذلك تؤكد المؤلفة في سعيها لبيان أهمية طرح المنظور الحضاري الإسلامي وما يقدمه من إسهامات في قضية الديموقراطية العالمية، أن النقد الموجه للديموقراطية الليبرالية الرأسمالية من داخلها يؤكد أن شرط تحقيق الديموقراطية في العالم وداخل مجتمعاتنا هو وجود رؤية كلية وشمولية لا تفصل الداخلي عن الخارجي في القضية، وتعالج عواقب وتداعيات الدولة القومية الرأسمالية والفواعل الأخرى. (ص 194) كما تؤكد أن هناك فارقاً كبيراً بين أن نرسم خريطة الاتجاهات الفكرية والنظرية حول نمط العلاقة بين الإسلام والديموقراطية من ناحية، وبين التنظير من ناحية أخرى من واقع الإسلام وخبرة عالمه داخلياً وخارجياً.

الديموقراطية الإسلامية والعلاقات الدولية.

تؤكد المؤلفة أن مفهوم الديموقراطية العالمية يحتاج إلى إعادة بناء، إذا كنا نقصد بالفعل ممارسة حوار ثقافي يعبر عن كيفية إصلاح أحوال الشعوب في العالم برمته، أو حتى من خلال صك مفهوم بديل أو مواز له إن اقتضى الأمر. (ص 170). وأنه إذا كانت حالة التنظير حول الديموقراطية العالمية -من دون استدعاء الإسلام أو المسلمين-تطرح أسئلة عديدة، فإن حالة استدعاء الديموقراطية من المنظور الحضاري الإسلامي تطرح المزيد من الأسئلة والإشكاليات. (ص 75)، ومن أهمها:

1- أي تفسير للإسلام، وأي مسلمين نريد، وعن أي ديموقراطية نتحدث؟

2- السياق الداخلي والخارجي لأزمة التحول الديموقراطي: ما هي خصائصه؟ وأين، ومتى يتحقق؟

3- ما نوع الديموقراطية التي نحتاج إليها؟ لماذا تغيب “الديموقراطية الإسلامية” عن الجدل؟ (ص 154-155)

4- ما هو نمط الديموقراطية المأمولة في الداخل وبين الدول وعلى صعيد العالم؟ وهل المأمول هو تغيير عالمي؟

5- وكيفية استدعاء الإسلام كمصدر ومرجعية دينية ينطلق منها التصور عن كيفية تغيير العالم وليس عن كيفية نشر الديموقراطية أو إدارة العالم ديموقراطياً. (ص 183)

6- وكيف يمكن المشاركة في ديموقراطية عالمية دون أن تتوافر ديموقراطية داخلية؟

7- وما هي حدود مسؤولية الخارج عن غياب الديموقراطية في المجتمعات الإسلامية؟ (ص 178)

8- هل نحن في حاجة إلى الديموقراطية العالمية لإصلاح النظام العالمي، أم نحن بحاجة إلى إصلاح النظام العالمي لتحقيق العدالة؟ وأيهما السبب وأيهما النتيجة؟ (ص176)

نحو المشاركة في بناء مفهوم الديموقراطية العالمية من المنظور الحضاري الإسلامي.

تشدد المؤلفة على أن مشاركة المنظور الحضاري الإسلامي في بناء مفهوم الديموقراطية يجب أن يقوم على عدة خطوات منهجية، تتمثل في:

1- تمهيد لحالة المفهوم في المنظورات الغربية المقارنة لبيان الإطار العام الذي ينبثق عنه، وأهم خصائص وملامح هذا المفهوم في تلك المنظورات المقارنة.

2- إعادة طرح الأسئلة بما يتناسب وواقع الدائرة الحضارية الإسلامية وأهدافها من وراء الديموقراطية العالمية، مع بيان المعوقات أمام المشاركة في هذه الدائرة في بناء المفهوم، بل وربما الحاجة إلى إعطاء الأولوية لمفاهيم أخرى. (ص80)

3- عدم الاقتصار على الفقه السياسي الإسلامي الداخلي فقط، ولكن يجب أن نمتد أيضاً إلى فقه العلاقات الدولية في الإسلام، ومن دون الاقتصار على المعاصر من الجانبين بل لابد من الامتداد إلى حالة إسهام “التراث” في القضية.

4- في سبيلنا لبناء منظور حضاري إسلامي في العلاقات الدولية لابد أن نتخلص من التحيز المتعلق بأن تراث الفقه السياسي الإسلامي قد أسس وكرس وأضفى الشرعية على الملك العضوض والاستبداد عبر التاريخ الإسلامي ومنذ نهاية الخلافة الراشدة، والتحيز المتعلق بأن تراث الفقه السياسي للعلاقات الدولية قد قام على التقسيم الدولي للمعمورة إلى دار سلم ودار حرب، وأنه قد تبلور على صعيده الجدال بين اتجاه أن “الأصل في الإسلام هو الحرب” واتجاه أن “الأصل هو السلم”، فقد كان هذان التحيزان في صميم أسانيد “الاتجاهات العلمانية “الحديثة الرافضة لأي دور للإسلام في الحياة السياسية والعلاقات الدولية. (ص131)

الثورات بين منظورين.

تشير المؤلفة إلى أنه بعد عصر الثورات الكبرى؛ منذ نهاية القرن التاسع عشر وفي القرن العشرين، توالت موجات من الثورات الصغرى في دوائر الجنوب ذات أنماط مختلفة: تقاوم الاستعمار، وتطالب بالتحرير والاستقلال، وثورات الصراع الأيديولوجي بين الشيوعية والرأسمالية -انقلابات عسكرية في معظمها-، وصولاً إلى الثورة الإيرانية وثورات شرق أوروبا من أجل التحول الديموقراطي، وأخيراً الثورات العربية. (ص273-274)

وهي تؤكد أن الدراسة المقارنة بين هذه الموجات والأنماط، تبين الفارق بين مفهوم “الثورة” وفق التقاليد الوطنية ضد الاستعمار، ومفهوم “الثورة” وفق التقاليد الليبرالية -ضد النظم العسكرية والنظم الاستبدادية-، ومفهوم “الثورة” وفق التقاليد الماركسية -الثورتان الروسية والصينية-، ومفهوم “الثورة” الإسلامية -وفق التقاليد الشيعية-. (ص275).

وأنه بعد أن أضحى أسلوب التحول الديموقراطي التدريجي بديلاً للثورات الصغرى هو البديل المقبول من الغرب وفق نموذجه الليبرالي التمثيلي الرأسمالي، وصعود مفاهيم حقوق الإنسان والمجتمع المدني والتحول الديموقراطي والمجال العام والسلام واللا عنف والمقاومة المدنية محل مفهوم الثورات الذي شاع قبل أكثر من عقدين (ص 277)، جاءت ثورات الربيع العربي لتؤكد عدم صحة ثبات هذا النموذج الغربي.

النظام العالمي والديموقراطية والثورات العربية.

كان انفجار الثورات العربية، كما تؤكد المؤلفة، ضد كل التحليلات التي أسهبت في التأكيد على أفول نجم الثورات؛ وبخاصة في المنطقة العربية، وتأكيد فشل مناهج الإصلاح التدريجية والشكلية لنظم مستبدة وفاسدة كانت حليفة لمن يدعو إلى إصلاحها، وكانت إجابة إبداعية من الشعوب الثائرة عن سؤال طالما تجادلت حوله النخب حتى صار معضلة أمام فكر المقاومة والمعارضة الوطنية بكافة تياراتها، هو: كيف يمكن كسر جمود الإصلاح وفشله؟ (ص278-279)

فالثورات العربية لم تقم ضد الاستبداد والفساد الداخلي فقط بحثاً عن الحرية والديموقراطية والعدالة، لكنها قامت أيضاً ضد التبعية والهيمنة الخارجية بحثاً عن الاستقلال الوطني، ولذلك تقاطعت فيها مطالب الداخل مع المطالب تجاه الخارج وعلى نحو يبرز وطأة الخارج على الوضع الداخلي والإقليمي(ص 271)، وكان المحك الحقيقي للجديد الذي أتت به تلك الثورات يكمن في الناس، وفي الجمهور، وفي النخب الجديدة التي حاولت استعادة المجتمع لمدنيته ومبادرته في إطار هويته و خصوصيته المنفتحة على الإنسانية.(ص 280-281)، ولهذا كان مآل الثورات العربية ومستقبل التحول في المنطقة بمثابة مدخل ومخرج في آن واحد لمستقبل عملية التحول العالمية الجارية؛ وفي قلبها قضية الديموقراطية. (ص285)

ومن هنا، أيضاً، كانت هجمة الاستعمار الغربي وأتباعه؛ على دول الثورات العربية ومحيطها الإقليمي ومحاولة إفشالها، لأنها كانت ضد: -الحفاظ على شبكة المصالح الخاصة بهم-ومنظومة القيم الليبرالية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تعمق تبعية الشعوب العربية لهم-استمرار ديموقراطية بلا إسلاميين وبلا ديموقراطيين-ومحاربة وهم الإرهاب الذي يمنع فعل الحرية والتنمية في مجتمعاتنا العربية، فتوافقت جميعها على ضرب هذه الثورات. (ص291-296).

وتؤكد المؤلفة أن مستقبل الثورات كان مرهوناً بحلف “العلمانية-الصهيونية-الإمبريالية” وليس مرهوناً بموقف الإسلاميين من “الديموقراطية والتعددية والحريات” وحقوق الإنسان، أو بالرؤية الإسلامية الحضارية حول هذه المفاهيم. (ص 181)، وإذا أضفنا إلى ذلك؛ عدم وضع تصورات استراتيجية عن مستقبل الثورات في ظل مستقبل التحولات العالمية والتي كانت من أخطر التحديات التي واجهت فهمنا للعقبات التي اعترضت مسارها إما لإجهاضها أو لجعلها مجرد حركات لإصلاحات محدودة وليس منطلقات لتحولات جذرية شاملة (ص289)، وكثرة مواطن الخلل في الخبرات الثورية التي لا تقتصر على أسباب داخلية فقط ولكن في دور الأبعاد الدولية وتسكين هذه الثورات في لعبة الصراع العالمي في مرحلة الحرب الباردة (ص 273)، وتدخلات السياسة الأمريكية ضد كافة أنماط الثورات؛ بأدوات وآليات متنوعة، من بينها استراتيجية التلاعب بعقول قادة الثورات وقلوبهم (ص275-276)، يمكننا أن ندرك كيف صارت الثورات إلى مآلها الحالي.

وفي ضوء هذا الفهم، وترى المؤلفة أن الثورات العربية تقدم مجالا حياً لاختبار مفاهيم وممارسات الديموقراطية العالمية في هذا الصدد، ومدى تأثرها بالعلاقات الدولية وتدخلات القوى المهيمنة في شئون مجتمعاتنا العربية. وأن السبيل لعلاج مشاكل عالم المسلمين، لا يكون من الداخل فقط، ولكن بالمشاركة في حل مشاكل العالم من حولنا المؤثرة على مجتمعاتنا ونظمنا السياسية والاجتماعية، والنظر إلى مشروع الإصلاح أو النهوض الإسلامي في إطاره الكلي العالمي، فهو لا يمكن أن يتحقق في بيئة دولية معادية تحرس التخلف والاستبداد في الداخل، وبالتحالف مع نظم داخلية مستبدة ليست إلا امتدادا للخارج منقطعة الصلة عن شعوبها] (ص 176)

كما تؤكد المؤلفة على الحاجة الماسة لفهم رشيد ومنضبط لمستقبل التحولات العالمية وموضع ثوراتنا منها تأثيراً وتأثراً (ص15)، في ضوء إيمانها الواثق أن إرادة الشعوب لابد أن تنتصر من أجل الحرية والكرامة والعدالة الإنسانية، ومن أجل التدافع وليس الصدام الحضاري، وهو ما يتطلب من النخب العربية المفكرة الانتباه إلى أهمية ودور المنظور الحضاري الإسلامي في العلاقات الدولية لتحقيق ذلك. (ص297)

خاتمة:

إن طبيعة الأزمة العالمية اليوم، كما تبدو لكل ذي لب، هي أزمة حضارية بالدرجة الأولى، ولهذا لن يكون الحل لأزمات عالمنا إلا من منطلق عالمي تعددي حقيقي ذو طبيعة إيمانية إنسانية يشارك فيه كل أبناء آدم من الشمال والجنوب والشرق والغرب، بعيداً عن المركزية الغربية المتحيزة لقيم ومعتقدات غربية تستند لمفاهيم القوة المادية أولاً وأخيراً لفرض مصالحها على العالمين.

وقد حاولت المؤلفة، في هذا الكتاب، الخروج من المركزية الحضارية الغربية التي تدعي العالمية باسم الحداثة والعلمانية، ومنظومات المفاهيم المنبثقة عنها، وعلى رأسها: الدولة القومية والسيادة والديموقراطية وحقوق الإنسان، إلى تعددية المنظورات كسبيل لتحقيق عالمية حقيقية لعلم العلاقات الدولية من خلال الربط بين الواقع والنظرية، ليكون التغيير العالمي ممكناً. وقدمت معالم في الطريق يمكن للمنظور الحضاري الإسلامي للعلاقات الدولية انطلاقاً منها أن يسهم في تقديم المسلمين رؤية حضارية لإعادة التوازن في العلاقات الدولية وتحقيق ديموقراطية عالمية حقيقية انطلاقاً من منظور قيمي إسلامي يقوم على التعددية الثقافية والتنوع والتعارف الحضاري وإبراز دور الدين في توفير الأساس الأخلاقي والقيمي للتفاعل بين الدول لسد الفراغ في المنظومة القيمية الغربية.

كما أثارت في كتابها الكثير من القضايا المتعلقة بمستقبل النظام الدولي، والصراع بين الصين والولايات المتحدة على القيادة، والتداخلات الكثيرة بين الداخل والخارج في قضايا الإصلاح والتغيير في مجتمعاتنا، وفتحت الباب واسعاً أمام تساؤلات عديدة لا بد من إجابات حاسمة فيها بخصوص طبيعة المنظور الحضاري الإسلامي ووضوح رؤيته ومستقبله، وهي جميعاً قضايا تحتاج الكثير من النقاشات.

والعالم العربي، اليوم، بعد مرور سبع سنوات على كتابة هذا الكتاب مطالب بإعادة قراءته من جديد، وبخاصة في ظل انتشار جائحة فيروس كورونا الذي ضرب العالم كله غير مبال بمركز متقدم وأطراف متأخرة، وما طرحته من احتمالات للتغيير في النظام العالمي بعد انقشاع غمة هذه الجائحة بعون الله للبشرية، وما بينته تلك الأزمة من عجز للديموقراطية والرأسمالية الغربية عن التعامل معه، وما كشفته من سلوكيات سلبية في دول الشمال المتقدم؛ على مستوى الأفراد والحكومات، وما تثيره من مخاوف لسيادة الشعبوية في عالمنا أجمع متخذة من خوف الشعوب من انتشاره تكئة للترويج لقدرتها على التعامل معه ومع غيره من الأزمات وإجهاض أي توجه حقيقي نحو ديموقراطية حقيقية تحقق لأبناء آدم في كل مكان الحياة الطيبة التي يستحقونها. كما أن ما أظهرته أخيراً حرب روسيا وأوكرانيا من خلل شديد في النظام العالمي الحالي وقيمه ومنطلقاته يؤكد على أهمية المنظور الحضاري الإسلامي لبناء نظام عالمي أكثر عدالة وأقدر على تحقيق سلم عالمي حقيقي ينصف الناس جميعاً وينهي العالم القائم على القوة ويبني عالماً يقوم على الحق والعدل.

وما سبق كله يجعل الحاجة لمعالجة جديدة لأزمة النظام العالمي وتستدعي أكثر المنظور الحضاري الإسلامي في التعامل مع مشكلات عالمنا، كمنظور واقعي مختلف عن هيمنة الأنساق الغربية المادية التي لا تعرف سوى القوة والمصلحة والاستهلاك، يربط بين القيم والواقع حتى يمكن معالجة سؤال الأزمة المعاصرة في عالمنا.

ولذلك، فإن التحدي كبير أمام دعاة المنظور الحضاري الإسلامي في العلاقات الدولية اليوم: لتطوير المنظور، وبلورة مسلماته، وكيفيات تشغيله، والإجابة عن كثير من التساؤلات والتحديات والإشكاليات التي تواجهه حتى يستقر كنموذج تفسيري بين النماذج والمنظورات العالمية الحالية، وساعتها سيصبح إصلاح النظام العالمي ممكناً إن شاء الله.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.