منار الإسلام
موقع تربوي تعليمي أكاديمي

الإهمال الأدبي للسرد العربي

0

ولدت المحكيات وسط منظومة شفهية وترعرعت أنواعها وأغراضها وأبنيتها في كنف تلك المنظومة، ذلك أن التاريخ الأدبي لأي أمة يضم عددا هائلا من المرويات التي خضعت، على مر الزمان، لتراكم أثراها وجعلها متنوعة، ومن ذلك الحكاية الخرافية والعجائبية والأخبار وذكر الأنساب وقصص السالفين من الأمم والحضارات والأشخاص والرسائل والمسامرات والأمثال والنوادر..، ويعتبر السرد دعامة أساسية من الدعامات التي أرست ركائز الثقافة العربية باعتباره أسلوبا جميلا يصوغ الحياة الإنسانية، ويضعها في قالب فني راق يترك أثرا بليغا في النفوس البشرية ويساهم في بناء الهوية الفردية والجماعية . فالسرد لغة ” تقدمة شيء إلى شيء تأتي به متسقا بعضه في أثر بعض متتابعا. سرد الحديث ونحوه يسرده سردا إذا تابعه. وفلان يسرد الحديث إذا كان جيد السياق له”1. يقول تعالى في سورة سبإ “وقدر في السرد ” أي ” وقدر في نسج الدروع بحيث تتناسب حلقاتها”2، قال القرطبي في تفسيره لهاته الآية : ” السرد نسج حلق السرود ويقال سرد الحديث والصوم. فالسرد فيهما أن يجيء بهما ولاء في نسق واحد ومنه سرد الحديث “3 .

أما في الإصطلاح هو في رأي سعيد يقطين ” فعل لا حدود له يتسع ليشمل كل الخطابات سواء كانت أدبية أو غير أدبية يبدعه الإنسان أينما وجد وحيثما كان”4، لأنه مفهوم محكم التنظيم ممنهج يسعى إلى دراسة الواقع والحياة الإنسانية ككل دراسة أنيقة هدفها بناء وعي فردي و جماعي ، “ومن ثمة يمكن القول بأن السرد بوسائطه وأنواعه المتعددة هو إحدى طرائق نقل الأفكار والقيم، ووسيلة من وسائل دورانها فيما بين أفراد المجموعة الثقافية واللغوية الواحدة وفيما بينهم وبين غيرهم، وأداة من أدوات صنع الوعي العام، بل أكثر من ذلك هو في رأي بول ريكو مصدر أولي من مصادر معرفة الذات ومعرفة العالم”5.
لقد عرف العرب السرد قديما كأي أمة أخرى، إلا أنهم لم يعطوه أهمية كبيرة مقارنة مع ما ألفوه في الشعر وفنونه، ذلك أن جهود الدارسين والباحثين في التاريخ الأدبي ـ حسب سعيد يقطين، انصبت “على الشعر الذي كان يحظى بحصة مهمة في الرصد والتحليل، يبدو ذلك في كثرة التصانيف في تاريخ الشعر العربي وقلة ما يندرج منها في تاريخ النثر، وحتى هذه القلة كان السرد يتناول بسرعة ويحتل مكانة ثانوية، لأنه كان ينظر إليه باعتباره تجليا نثريا وتنويعا من التنويعات النثرية”12 ، أي أن ما يزخر به التراث العربي من رصيد سردي ضخم والذي ساهم في بناء الهوية العربية وإرساء قواعدها الثقافية والمعرفية كان حظه من الدراسة والإهتمام قليلا جدا، إذ اعتبر السرد شكلا أدبيا ثانويا مقارنة مع الشعر. “إن الوعي بقيمة التراث ودلالاته يحرر السرد من الضيم الذي لحقه لقرون عدة، ويساهم في بناء مستقبل الإبداع والرقي الأدبي والثقافي والحفاظ على الهوية وترسيخ قيمها وتجذيرها عبرالعصور، مما يحمي من خطر الزوال والإندثار أوالذوبان في هويات أخرى، لاسيما في فترات الضعف التي تفقد المناعة والقدرة على التصدي عند ازدحام الثقافات في فضاء حضاري فكري واحد وتنازعها هذا الفضاء”13. وعلى هذا الأساس فإن بناء الهوية والحفاظ عليها يستهل بالرجوع إلى التراث وإحياءه من جديد وإعطاءه حق الدراسة والعناية ، بأساليب حديثة وأدوات متطورة تساير العصر ولا تهمل الأصول، فمن التراث تكون الإنطلاقة الفكرية والإبداعية وبه تبنى الهوية. من هنا وجب الوقوف على أهم الأسباب التي حالت دون العناية بالسرد العربي وعدم الاهتمام به، ويمكننا حصرهذه الأسباب في أربع نقاط أساسية ثلاثة منها قديمة ومرتبط بعضها ببعض وهي: سلطة الشعر ومركزية الشفاهية بالاضافة إلى التعلم والتدوين، أما السبب الرابع حديث يتمثل في التشبع بالثقافة الغربية وقيمها:

سلطة الشعر

لقد سيطر الشعر على الساحة الثقافية العربية منذ القدم حتى صارت هاته الثقافة تلخص فيه فقط، نظرا لما تميزت به القصيدة العربية من قواعد اكتسبتها عبر تاريخها الممتد في القدم، وفي ظل هذه الهيمنة الشعرية السرد كان موجودا يسير بتأن في ظل سلطة الشعر العربي، حيث أنتج العرب السرد وما يجري مجراه وتركوا لنا تراثا هائلا منذ القدم، وظل هذا الإنتاج يتزايد عبر الحقب والعصور وسجل لنا العرب من خلال مختلف صور حياتهم وأنماطهم، ورصدوا من خلال مختلف الوقائع وما خلفته من آثار في المخيلة والوجدان وصور تفاعلاتهم مع الذات والآخر14، إلا أن سطوة الشعر على النفوس وأثره البليغ فيها جعله ديوانا للعرب، بالإضافة إلى القراءة التعسفية للتراث التي كانت في أحايين كثيرة غير حيادية لا تأخذ إلا ما يتماشى مع فكرة القارئ أو رأيه أو موقفه الذي يريد تبليغه للآخرين فتكون فئوية إقصائية.

مركزية الشفاهية

من المعلوم أن الثقافة العربية نشأت في منظومة شفهية صاحبت بداياتها وتحكمت في سيرورتها وأثرت في مستقبلها، فقد حالت الرواية الشفهية بين العربي وبين تفكيره في الكتابة، حيث اعتمد العرب على الشعر في نقل وحفظ أخبارهم وأنسابهم وأحسابهم نظرا لسهولة الحفاظ على المنظوم في الأفهام و الذاكرة.

التعلم و التدوين

رغم أن الكثير من الدراسات أكدت أن العرب عرفوا الكتابة والتدوين قبل الإسلام، إلا أن الكتاب والمدونين كانوا معدودين على رؤوس الأصابع حيث تواجدوا في المدن الأكثر تحضرا في الجزيرة العربية15. هذا في الجاهلي، أما في العصور الإسلامية فقد كانت الدراسات النقدية تعنى في غالبيتها الساحقة بالشعر، كما أن التعلم في تلك الفترات من التاريخ العربي الإسلامي انصب على الحفظ دون الدراسة، فنجد العديد من المؤلفات السردية والقليل من الدراسات التي لم تعن إلا ببعض الجوانب السردية العربية.

التشبع بثقافة الغرب

يجد بعض المغتربين في أوطانهم والمثقفين من بني جلدتنا غرابة كلما حاولوا دراسة التراث الأدبي العربي، ويحتجون في موقفهم هذا بأن التراث أكل عليه الدهر و شرب وأنه لا يتماشى وسيرورة العصر، فذاك زمان وهذا زمان آخر، وعلينا أن نصوب أعيننا تجاه الغرب المتحضر لأن في تقليده سبيل إلى الرقي الحضاري. لكن ” أليس من واجب الأمة أن تنظر في مراتها الخاصة ثم في مرايا الآخرين لعلها تنبعث من رمادها الذي تعصف به الرياح من كل صوب؟ “16 فالحقيقة أن حجتهم داحضة ؛ لأن الغرابة التي وجدها هؤلاء توحي بشيء واحد وهو الجهل بقيمة الإنتماء الأصلي وفقدان الشخصية، ذلك أن” الهوية هي مزيج من رؤية الأمة لنفسها ورؤية الآخر لها، ومن واجب أي أمة من الأمم أن تتضمن استراتيجيتها الثقافية حماية الهوية وتطويرها وتعزيز الإنتماء وتطوير الشخصية”17.
إن السرد العربي جزء لا يتجزؤ من تراثنا، فهو موجود في حياتنا كلها: في العلوم و الآداب و المعاملات والمحادثات اليومية و العبادات…إنه كل الحياة، فلا يمكن الإستغناء عنه أو إهماله كما حدث في الماضي، وما مقولة الشعر ديوان العرب إلا احتقارا للسرد ووأد تاريخ كبير ابتدأ في الأزل ولازال يعيش الحاضر معنا و سيظل إلى الأبد. فالعلاقة التي أقامها السرد بين الإنسان والحياة هي علاقة شفافة نراها من خلال السرود القديمة بأنواعها و تجلياتها، حيث نجد عالما من الإبداعات والتخيلات لا تنفصل عن عالمنا، وإنما تقدم لنا صورة عن الفكر السامي وروح الإبداع. إنها تحقيق للرغبات اللامتحققة في الواقع؛ لأن السرد فن ساحر يأخذك في رحلة تكتشف من خلالها أعماق الكلمات ويحملك إلى بحر واسع علك ترجع بالصيد الوافر، وهذا ما نلمسه في المؤلفات السردية على اختلافها؛ فالرحلات والسفريات تتميز بضمها للعديد من المعارف والعلوم المتنوعة هدفها الرغبة في الإطلاع والسعي وراء العلم والتحصيل وإفادة المتلقي بأسلوب سردي راق، سواء كانت الرحلة حقيقية (كرحلات ابن بطوطة) أو خيالية كما فعل ابن شهيد في التوابع والزوابع. وأدب السير أيضا من الأنواع الأدبية التي اعتمدت السرد في تدوين الأحداث وسير الأشخاص البارزين في التاريخ والتعريف بحياتهم ومنه السيرة النبوية، “ويتيح العرض السردي لكاتب السير وصياغته هامشا من الحرية تمكنه من التصرف في الأحداث مبنى لا جوهرا وقول أشياء أو إبداء آراء والإفصاح عن قراءات قد لا يتيسر له قولها إلا بهذه الكيفية”18. كما لايفوتنا ذكرالمقامة، تلك الحكاية القصيرة التي يسودها شبه حوار درامي. إنها عالم سردي يحتوي فن الكتابة النثرية وفن الشعر، بالإضافة إلى بلاغتها وتعدد أغراضها وأبعادها، يقول إبراهيم صحراوي: “ولأنها كانت حلقة من حلقات تطور القصص العربي وصورة من صور تطور الوعي السردي، فقد أمنت وظائف ما ( ترفيهية وتربوية تعليمية ) وأشبعت حاجات ضمن البنية الثقافية العربية كما أعطت صورة عن جانب من جوانب الحياة الإجتماعية في العصر الذي ظهرت فيه”19، وكذا الحكايات العجائبية والخرافية بأبطالها الخوارق، والكم الهائل من المعلومات التي توحي لنا بشيء من علاقة الإنسان القديم بالكون وظواهره الغامضة. وقد توسل كتاب الرسائل أيضا السرد في عرض رسائلهم على اعتبار أن السرد فن جميل يساهم في ترسيخ قدرة التعبير عن الأفكار، ولنا في رسالة الغفران ورسالة طوق الحمامة وغيرهما الدليل الأكبر، كما لا ننسى ذكر الحكم والعبر على ألسنة الحيوانات ( كليلة و دمنة ، ثعلة وعفرة ) ، و سير أبطال العرب ( سيف بن ذي يزن ، عنترة بن شداد ، أبو زيد الهلالي، المهلهل …) والأمثال العربية والحكايات الشعبية وكل السرود التي أثرت خزينة الثقافة العربية وأغنت العقل العربي وساهمت في بناء الهوية .

هوامش
1ـ ابن منظور ” لسان العرب” مادة (سرد)
2ـ محمد علي الصابوني ” صفوة التفاسير” ج3 ص502
3ـ ابراهيم صحراوي ” السرد العربي القديم” ص 31
4ـ سعيد يقطين ” الكلام و الخبر” ص19
5ـ ابراهيم صحراوي، نفس المرجع ص 24
6ـ سعيد يقطين “السرد العربي مفاهيم و تجليات” ص76
7ـ ابراهيم صحراوي السرد العربي القديم ص37
8ـ سعيد يقطين السرد العربي القديم ص60
9ـ نجاح حواس التدوين و بداياته عند العرب مجلة العروبة العدد 14343
10ـ وهب رومية ” الشعر و الناقد” ص15
11ـ نفس المرجع ص
12ـ ابراهيم صحراوي “السرد العربي القديم” ص37
13ـ نفس المرجع ص86

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.