لا أجد أدنى إبداع في أسئلة الملحدين.. فكل أسئلتهم قديمة جدا جدا.. يجترون أسئلة طرحت منذ قرون.. في التوراة أمثلة منها وفي القرآن.. نجد بعضا منها في فلسفة اليونان ونقرأ عن بعضها في تاريخ الطبري.. أسئلة طرحت على سيدنا ابراهيم عليه السلام.. وطرحها اتباع موسى على سيدنا موسى عليه السلام ثم طرحها احفادهم على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.. ودونها المؤرخون المسلمون.. ونقلها منهم المستشرقون والملاحدة واستعملوها.. ولا يزالون..
فيما أكتب لا استهدف الملحدين الذي يجدون في كثرة النقاش تسلية تنسيهم تذكر الموت/العدم.. ويلهيهم تكاثرها حتى يزوروا المقابر.. مثل هؤلاء -وهم قلة دائما لأن فطرة الناس جميعهم جبلت على حب النظر إلى السماء ونجومها.. بحثا عن خالق لهذا الجمال الغريب.. وعن شيء ما بعد الموت- مثل هؤلاء الملحدين سيبقون إلى يوم الدين.. كما سيبقى اختلاف المعتقدات.. وليس هذا مشكلا.. بل إنه لذلك خلقنا الله..
{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ. إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ۚ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ ۗ..} -هود 118-119-
لكن تقع المسؤولية علينا -نحن الذين وصلنا الوحي الأخير بلا مجهود منا- أن نوصل الرسالة التي وصلتنا لمن لم تصله..
كان الهدف من هذه السلسلة ولا يزال إسماع فطرة بعض الصادقين ممن اغتروا بمنطق حسبوه منطقا كاملا ربما لقصور منطقهم هم.. مؤقتا..
ولقلة عدد الملحدين وعدم تأثيرهم في تغيير ما بالأمة وما بالأرض – لتشكيكهم الدائم غير الباني ولعدم اتضاح هدفهم إلا ما يكون من انحلال خلقي مناف لفطرة الغيرة والحياء يجهر به بعض دعاتهم وقدواتهم أو من كسل أو انتظار غير ذكي وغير مبرر لموت حتمي -، فإن مجهود الدعوة يجب أن يوجه لأناس همهم البناء وتغيير الأرض وإرساء العدل الفطري ومكارم الأخلاق الفطرية والحياء الفطري.. وانتظار الخلود الفطري بعد نومة الموت..
وقد يخصص بعضنا -لا كلنا- وقتا يسيرا لدعوة الصادقين من الملحدين الباحثين عن الحقيقة المستمعين إلى فطرتهم وهم قلة من قليل.. وليدع للآخرين بالهداية ولا يضيع وقته وجهده معهم كثيرا.. فهناك الملايير ممن ينتظرون منا إسماعهم الوحي الذي لم يصلهم بعد..
من أمثلة اسئلة الملحدين القرونية.. سؤال إمكانية البعث بعد الموت..
وإن من أهم ما جاء به الرسل نبأ البعث بعد الموت ثم الخلود..
والخلود حاجة فطرية..
يسميها الداروينيون “غريزة بقاء”.. إلا أنهم لا يحبون رؤية حدود ما يهذرون به حين يرون تضحية أم الغزال بنفسها لتنقذ صغيرها من هجوم السباع.. بشكل فطري مناف “لغريزة حب البقاء” هذه..
قبل أزيد من 1400 سنة، مر أحد الملحدين بالبطحاء قبل أن يأتي مجلس دعوة قام بتنظيمه النبي الله محمد صلى الله علي وسلم وجماعته فأخذ منها عظما رميما.. وقف أمام الملإ وبطريقة إعلامية ذكية عملية تجريبية حاول نسف ما يقوله النبي للناس من حوله.. وقد نجح لبعض الوقت.. فقد أخرج العظم المهترئ وفتَّته في وجه النبي الكريم ومن حوله وبدأ يذروه في الهواء في مشهد مسرحي وهو يقول ساخراً : أتزعم يا محمد أنَّ الله يُحيينا بعد أن نصبح رفاتاً مثل هذا؟ فقال صلى الله عليه وسلم له : نعم يبعثك ويدخلك النار..
كان جواب النبي صدقا تاما لكنه -لحكمة أرادها الله تعالى- لم يجار منطق السائل الذي بدا للحضور متماسكا وواقعيا وماديا..
لقد أراد الله تعالى أن يكون الجواب على هذا السؤال المصيري من المعني بأمر الخلق والبعث مباشرة.. وبنفس المنطق وأن يكون قرآنا يتلى إلى يوم الدين.. فأنزل الآيات الأخيرة من سورة “يس” جوابا منطقيا كاملا.. قال الله الخالق مبينا الفجوة والنقص والخطأ في منطق السائل وبرهنته.. :
{أَوَلَمْ يَرَ الإنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79)}..
الخطأ في المثل هو ان “الذكي الشاطر” (نسي خلقه) نسي أنه لم يكن شيئا أصلا.. لقد ركز الملحد في مسرحيته على جانب من الصورة وهو العظم ثم الغبار الناتج عن بعثرة العظم.. اعتمدت المسرحية على اعتقاد الناس بأن الغبار الذي يذروه الريح لاشيء.. هباء منثور..
لكن نصف الصورة الذي لم يره الناس ولم يخطر ببال السائل هو أن العظم لم يكن شيئا في الأصل.. كان العظم انسانا وكان الانسان جنينا لكن الجنين لم يكن شيئا قبل 9 أشهر ولا قبل وجود أبويه إلى ما لا نهاية.. لم يك شيئا.. ولا حتى غبارا..
فالاصعب من تحويل العظم غبارا (شيء يصير شيئا) هو خلق العظم من لا شيء (لا شيء يصير شيئا)..
في هذا يقول تعالى {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ۚ ..} -الروم 27- .. أهون أي أسهل..
يا من تخاف من بعثرة عظامه بعد الموت..
إن الله لا يحتاج عظامك ليخلقك وإن من أنشأها ذرة ذرة -أو أصغر من ذلك- كل جزء في مكانه.. لقادر منطقيا على إعادة تركيبها وجمعها..
هذا الاستدلال يسمى في الرياضيات تراجعا أو ترجعا*..
نجده في أجوبة القرآن مرارا. نقرأ في سورة القيامة : {أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَىٰ (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّىٰ (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَىٰ (39) أَلَيْسَ ذَٰلِكَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَىٰ (40)}؟
بلى..
رياضيا.. منطقيا..