منار الإسلام
موقع تربوي تعليمي أكاديمي

مشاهد من سيرة أبي بكر الصديق

0

تقديم :

ذكريات خالدة في أدهان المسلمين، تلك التي رسمها الجيل الفريد مع الرسول صلى الله عليه وسلم ،من مرحلة الاستضعاف، إلى مرحلة النصر والتمكين،رجال تَربوا من الوهلة الأولى على الصدق والبذل والعطاء،صحبوا الرسول صلى الله عليه وسلم، فاقتبسوا من مجالسته معاني الكمال والجمال، استرخصوا الدنيا في سبيل الله باعوا أنفسهم و أموالهم لله ورسوله ونصرة لدينه ،فاستحقوا أن يكونوا خلفاء راشدين،رسموا بسلوكهم وجهادهم ومحبتهم أجمل  المشاهد في تاريخ الإسلام والمسلمين،فحق لهم أن يكونوا لنا قدوة نقتدي بهم ونسيرعلى نهجهم ، لنعيد بناء ما بشرنا به الرسول صلى الله عليه وسلم ،ولنؤسس لدولة القران من جديد على منهاج النبوة،نقف في هذا الموضوع مع أبي بكر الصديق رضي الله عنه الرجل الذي صحب الرسول صلى الله عليه وسلم ،في جميع مراحل الدعوة،لنأخذ الدروس من سيرته في الصحبة والمحبة والإنفاق والشجاعة والجهاد…

نسبه وصفته ومناقبه وألقابه  رضي الله عنه :

هو عبد الله بن أبي قحافة عثمان بن عامرٍ بن عمرو بن كعبٍ بن سعدٍ بن تيمٍ بن مُرَّةٍ بن كعبٍ بن لؤيٍّ بن غالبٍ القرشي التيمي، ويلتقي مع الرسول صلى الله عليه وسلم في النسب في جده السادس مرة بن كعب ،[1] 

أما صفته الخلقية ،فقد كان يوصف بالبياض في اللون ، والنحافة في البدن ، ناتئ الجبهة، معروق الوجه، خفيف العارضين، أسيفا، رحيماً، رقيق القلب،عظيم القدر،ذو شأنٍ رفيعٍ، وحياءٍ شديدٍ، وورعٍ كبيرٍ، كريمٌ، حازمٌ، رحيمٌ، شريفٌ، غنيٌ بما له من مالٍ وجاهٍ وأخلاقٍ، سليم الفطرة، سليم العقل.. [2].

ومن مناقبه: أنه لم يعبد صنماً قطّ، ولم يشرب خمراً، صدّق الرسول عليه الصلاة والسلام حين كذّبه الناس، وآمن به حين كفربه الناس . 

كان رضي الله عنه- أول من أسلم من الرجال، ويُدعى يوم القيامة من أبواب الجنّة كلّها، وهو أول الناس يدخل الجنّة بعد الأنبياء، ومن فضائله أنّ أباه وأمه وأولاده وأحفاده قد أسلموا، وأدركوا الرسول -صلّى الله عليه وسلّم؛ وليس ذلك لأحدٍ من الصحابة إلّا له، وقد صاحب النبي عليه الصلاة والسلام في الهجرة، وبشّره بالجنة، وكان حريصاً على تذكير الصحابة بفضل أبي بكرٍ الصدّيق، ومنزلته.[3] 

لقب بألقاب كثيرة منها :

العتيق:فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم ” أنت عتيق الله من النار ” فسمي عتيقا(4) ، وقد قيل: إنّه سمي بذلك لجماله، وعتاقة وجهه… 

ولُقّب بـالصدّيق لكثرة تصديقه  للنبي صلى الله عليه وسلم، كما في صبيحة الإسراء قيل له : إن صاحبك يزعم أنه أُسري به فقال : إن كان قالها فقد صدق،إني لأصدقه إلى أبعد من ذلك(5).
وقد سماه الله صديقا فقال سبحانه : ( وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ )[6].
روى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد أُحداً وأبو بكر وعمر وعثمان ، فرجف بهم فقال :” اثبت أُحد ، فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان”.

ولقب بالصاحب : في قوله تعالى :”( إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ )[7] ،وقد أجمع العلماء على أن الصاحب المقصود هنا هو أبو بكر . ويبين الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله في كتاب الإحسان الجزء الأول أهمية الصحبة بقوله: “ليست الصحبة تطبيقا مجردا لنصوص وامتثالا جافا عسكريا للأوامر إنما هي محبة تثبت وترسخ وتنمو و تتجدر في القلب ” .

ولقب كذلك بالأتقى قال الله تعالى :”( وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى “) [8].

ولقب بالأواه : قال إبراهيم النخعي ،كان أبو بكر يلقب بالأواه لرأفته ورحمته،و شدة خوفه و وجله من الله تعالى [9].

وأشتهر بأمور منها:

 

  • العلم بالأنساب :روي عن عائشة رضي الله عنها أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال :”ان أبا بكر أعلم قريش بأنسابها”)[10].
  • التجارة:كان رضي الله عنه من التجار الكبار ،ينفق ماله بسخاء وكرم …
  • موضع الألفة والفضل بين قومه: لقد ذكر ابن اسحاق في السيرة أن قومه كانوا يحبونه ،ويعترفون له بالفضل العظيم ،والخلق الكريم ،وكانوا يأتونه لقضاء حوائجهم،لعلمه وتجارته وحسن مجالسته [11].

 

قوة الذاكرة والعلم: سأل الرسول أصحابه يوما،وفيهم أبو بكر قائل:من يحفظ كلام قُس بن ساعدة في سوق عكاظ ؟سكت الصحابة وقال الصديق :إني أحفظه يا رسول الله ، كنت حاضرا يومها في سوق عكاظ ومن فوق جمله الاورق وقف قُس يقول : أيها الناس :اسمعوا وعوا ،وإذا وعيتم  فانتفعوا،إنه من عاش مات ،ومن مات فات ، وكل ما هو أتٍ آت، إن في السماء لخبرا،وان في الأرض لعبرا …يقسم قُس أن لله دين هو أحب إليه من دينكم الذي انتم عليه.مالي أرى الناس يذهبون ولا يرجعون ،أرضوا بالمقام فأقاموا،أم تركوا فناموا،ثم أنشد قائلا :

في الذاهبين الأولي      ن من القرون لنا بصائر 

لما رأيت مواردا         للموت ليس لها مصادر 

ورأيت قومي نحوها     يسعى الأكابر و الأصاغر 

أيقنت أني لامحا         لة حيث صار القوم صائر . [14].

محبته رضي الله عنه للرسول صلى الله عليه وسلم:

تتجلى محبة ووفاء الصديق للرسول صلى الله عليه وسلم في مشاهد كثيرة ومتنوعة نذكر منها خوفه على الرسول صلى الله عليه وسلم وهما في الغار والمشركين يتربصون بهم، ففي الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه حدّثه قال : نظرت إلى أقدام المشركين على رؤوسنا ونحن في الغار فقلت : يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى قدميه أبصرنا تحت قدميه . فقال : يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما .
ولما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يدخل الغار دخل قبله  لئلا يُصاب النبي صلى الله عليه وسلم بشيء من الاذى
ولما سارا في طريق الهجرة كان يمشي حينا أمام النبي صلى الله عليه وسلم وحينا خلفه وحينا عن يمينه وحينا عن شماله .[12].
روى الحاكم و البيهقي في دلائل النبوة، أن رجالا على عهد عمر رضي الله عنه  فضّـلوه على أبي بكر رضي الله عنهما ، فبلغ ذلك عمر رضي الله عنه فقال : والله لليلة من أبي بكر خير من آل عمر ، وليوم من أبي بكر خير من آل عمر ، لقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لينطلق إلى الغار ومعه أبو بكر ، فجعل يمشي ساعة بين يديه وساعة خلفه ، حتى فطن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا أبا بكر مالك تمشي ساعة بين يدي وساعة خلفي ؟ فقال : يا رسول الله أذكر الطلب فأمشي خلفك ، ثم أذكر الرصد فأمشي بين يديك . فقال :يا أبا بكر لو كان شيء أحببت أن يكون بك دوني ؟ قال : نعم والذي بعثك بالحق ما كانت لتكون من مُلمّة إلا أن تكون بي دونك ، فلما انتهيا إلى الغار قال أبو بكر : مكانك يا رسول الله حتى استبرئ الجحرة، فدخل واستبرأ، تم قال : انزل يا رسول الله ، فنزل  فقال عمر : والذي نفسي بيده لتلك الليلة خير من آل عمر . 

محبة الرسول صلى الله عليه وسلم له رضي الله عنه:

بسلوكه الفريد ،وحبه الشديد ،وخلقه الجميل ،نال الصديق محبة الرسول الكريم .قال عمرو بن العاص لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أي الناس أحب إليك ؟ قال : عائشة . قال : قلت : من الرجال ؟ قال : أبوها [13].

وروى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس وقال : إن الله خير عبدا بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ذلك العبد ما عند الله . قال : فبكى أبو بكر ، فعجبنا لبكائه أن يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد خير ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخير ، وكان أبو بكر أعلمنا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن مِن أمَنّ الناس عليّ في صحبته وماله أبا بكر ، ولو كنت متخذاً خليلاً غير ربي لاتخذت أبا بكر، ولكن أخوة الإسلام ومودته ، لا يبقين في المسجد باب إلا سُـدّ إلا باب أبي بكر.

مشهد أخر من الحب والوفاء،عندما اشتد الأذى بالمسلمين ،وبدؤوا  يهاجرون إلى المدينة، حفاظا على أنفسهم ودينهم ،استأذن أبو بكر في الهجرة فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم :”لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحبا “[14]

فتشرف  أبوا بكر رضي الله عنه، بتنفيذ خطة الهجرة،واستنفر كل عائلته لخدمة الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه المهمة الشاقة، ووزع المهمات ،يبيت على في مكان الرسول صلى الله عليه وسلم ويرد الأمانات إلى أهلها ، و تتكلف  أسماء رضي الله عنها بالطعام ، وعبد الله باستطلاع أخبار قريش، والراعي يأتي بالغنم لإخفاء أثر الأقدام ،وليشرب النبي من حلبيها في الغار رضي الله عن الجميع ،في انتظار اليوم الثالث يأتي عبد الله بن أريقط بالراحلتين  ويسلك بهم الطريق الساحلي إلى المدينة ،بعيدا عن أنظار المشركين.[15]
قال سبحانه وتعالى : ( ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا ) [16].
قال السهيلي : ألا ترى كيف قال : لا تحزن ولم يقل لا تخف ؟ لأن حزنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم شغله عن خوفه على نفسه.

دعوته  رضي الله عنه :

أسلم الصديق وحمل الدعوة مع الرسول ،وتعلم من رسول الله أن الإسلام دين عمل ودعوة وجهاد، وأن الإيمان لا يكمل حتى يهب المسلم نفسه وماله لله رب العالمين قال الله تعالى :(“قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله ربي العالمين “)[17]. ،وقد كان الصديق كثير الحركة للدعوة الجديدة وكثير البركة ، أينما تحرك اثر وحقق مكاسب عظيمة للإسلام ،وقد كان نموذجا حيا في تطبيقه لقوله تعالى:(” ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ “) [18]. 

كانت أول ثمار الصديق الدعوية دخول صفوة من خيرة الخلق في الإسلام وهم : الزبير بن العوام،وعثمان بن عفان ،وطلحة بن عبيد الله،وسعد بن أبي وقاص،وعثمان بن مظعون ،وعبيدة بن الجراح،وعبد الرحمن بن عوف، والأرقم بن أبي الأرقم…الدعامات الأولى للإسلام بهم أعز الله الإسلام،واهتم الصديق بأسرته فأسلمت أسماء وعائشة وعبد الله وزوجته أم رمان وخادمه عامر بن فهيرة،لقد كانت الصفات الحميدة والأخلاق الكريمة التي تجسدت في شخصية الصديق عاملا مؤثرا في الناس عند دعوتهم للإسلام، كانت له بمكة ضيافات لا يفعلها أحد،وكان رجلا بليغا .[19] .

يؤكد الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله ،على أهمية فتح البيوت وفتح القلوب، لنشر الدعوة و تحبيب الاسلام للناس بالسلوك الحسن،اقتداء بالصحابة رضي الله عنهم ،فيقول:” أما إكرام الضيف بالقرى والخدمة والملاطفة، فهو سمت الدعوة، وأهم آدابها. بيوت المؤمنين هي معاقل الدعوة ورباطاتها. فينبغي للمؤمنين والمؤمنات أن يفتحوا بيوتهم للواردين. وعلى الدعاة أن يضربوا المثال في ذلك. فداعية لا يفتح باب داره، وباب قلبه، وبشاشة وجهه، للمؤمنين والواردين دعي.” [20].

إنفاقه وبذله رضي الله عنه:

الصديق لا يخاف الفقر،قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدق، فوافق ذلك مالاً فقلت : اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوما . قال : فجئت بنصف مالي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما أبقيت لأهلك ؟ قلت : مثله ، وأتى أبو بكر بكل ما عنده فقال : يا أبا بكر ما أبقيت لأهلك ؟ فقال : أبقيت لهم الله ورسوله ! قال عمر قلت : والله لا أسبقه إلى شيء أبدا . رواه الترمذي.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما نفعني مال قط ما نفعني مال أبي بكر”. فبكى أبو بكر وقال: هل أنا ومالي إلا لك يا رسول الله. “أخرجه أحمد.

شجاعته وقوته رضي الله عنه:

الصديق لا يخاف الموت،عن عروة بن الزبير قال: سألت عمر بن عاص بأن يخبرني بأشد شيء صنعه المشركون بالنبي فقال :بينما النبي يصلي في حجر الكعبة ،إذ أقبل عقبة بن معيط فوضع ثوبه في عنقه فخنقه خنقا شديدا ، فأقبل أبو بكر حتى أخذ بمنكبيه ودفعه عن النبي وقال : (أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ”[21].

فقد كان رضي الله عنه لا يخاف في الله لومة لائم ،تميز بالشجاعة والقوة في الحق والدفاع عن صاحبه ،عندما أمر الله الرسول صلى الله عليه وسلم  بالجهر بالدعوة في قوله تعالى: “فَا صْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94)إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95)”[22]، خرج أبو بكر خطيبا في الناس يدعوا إلى دين الله تعالى ، فثار عليه المشركون وضربوه ضربا شديداً حتى أغمي عليه من شدة الضرب، ثمَّ جاءت عشيرته فأجلوه من بين يد المشركين، وحملوه إلى أهله.[23]

قفي حديث علي بن أبي طالب قال: يا أيها الناس، من أشجع الناس؟ فقالوا: أنت يا أمير المؤمنين، فقال: أما إني ما بارزني أحد إلا انتصفت منه، ولكن هو أبو بكر، وإنا جعلنا لرسول الله عريشاً فقلنا: من يكون مع رسول الله لئلا يهوي عليه أحد من المشركين؟ فو الله ما دنا منه أحد إلا أبو بكر شاهرًا بالسيف على رأس رسول الله ، لا يهوي إليه أحد إلا أهوى إليه فهذا أشجع الناس. قال: ولقد رأيت رسول الله وأخذته قريش، فهذا يحادَّه، وهذا يتلتله ويقولون: أنت جعلت الآلهة إلهاً واحدًا، فو الله ما دنا منه أحد إلا أبو بكر يضرب ويجاهد هذا ويتلتل هذا، وهو يقول: ويلكم، أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله، ثم رفع على بردة كانت عليه فبكى حتى اخضلت لحيته، ثم قال: أنشدكم الله أمؤمن آل فرعون خير أم هو؟ فسكت القوم، فقال علي: فو الله لساعة من أبي بكر خير من ملء الأرض من مؤمن آل فرعون، ذاك رجل يكتم إيمانه، وهذا رجل أعلن إيمانه. [24].

مواقفه رضي الله عنه عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم :

لما توفي الرسول صلى الله عليه وسلم أصيب الصحابة بزلزال شديد ،

 فأقبل أبو بكر ونزل عند مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يكلم الناس، ودخل المسجد، ومنه دخل إلى بيت عائشة حيث مات رسول الله صلى الله عليه وسلم على حجرها، فتوجه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مغطى بثوب، فكشف عن وجهه، ثم أكب عليه، فقبله وبكى،ثم قال الصديق وقلبه ينفطر: “بأبي أنت وأمي، لا يجمع الله عليك موتتين، أما الموتة التي كتبت عليك، فقد متها”. [25] ثم خرج في ثبات عجيب يليق بخير الأمة بعد نبيها، خرج الصديق رضي الله عنه، فوجد عمر في ثورته يتكلم مع الناس، والناس يلتفون حوله يتمنون أن لو كان كلامه حقًّا، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيعود ثانية كما يقول، قال الصديق في ثبات ورباطة جأش عجيبة: اجلس يا عمر.  لكن عمر قد أذهلته المصيبة عن السماع، فلم يجلس، وظل على حاله، لكن الناس وجدوا وزير رسول الله صلى الله عليه وسلم الأول أبا بكر، فتركوا عمر والتفوا حول الصديق ينتظرون ما يقول، قال أبو بكر الصديق في فهم عميق وحكمة بالغة:  أما بعد، من كان منكم يعبد محمدًا صلى الله عليه وسلم، فإن محمدًا قد مات، ومن كان منكم يعبد الله فإن الله حي لا يموت. وفي براعة ولباقة وتوفيق قرأ الآية الكريمة: “(وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ”) [26].كانت هذه الآية بردا وسلاما  على قلوب الصحابة وكأنهم لأول مرة يسمعونها ، يقول ابن عباس رضي الله عنهما: “والله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر، فتلقاها الناس كلهم، فما أسمع بشرًا من الناس إلا يتلوها”.[27].

شهد أبو بكر مع رسول الله بدراً وجميع المشاهد وثبت مع رسول الله يوم أحد حين انهزم الناس ودفع إليه رسول الله رايته العظمى يوم تبوك.

خلافة أبي بكر رضي الله عنه :
لما بويع أبو بكر بالخلافة بعد بيعة السقيفة تكلم أبو بكر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
“أما بعد أيها الناس فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أريح عليه حقه إن شاء الله، والقوى فيكم ضعيف حتى آخذ الحق منه إن شاء الله، لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم قط إلا عمهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم”.[28].تعتبر هذه الخطبة برنامجا سياسيا،يربط فيه الصديق رضي الله عنه المسؤولية بالمحاسبة ودعوته للناس للتحلي بالصدق والأمانة، والابتعاد  عن الكذب و الخيانة ،ويبين أن طاعة أولي الأمر مترتبة على طاعة الله ورسوله ،ويؤكد في البيان على اجتناب الفواحش لأهميتها في حماية المجتمع من الانهيار والفساد ،و على العدل بين الرعية لأنه أساس الحكم ،وعلى نصرة المستضعفين ،وحمل لواء الجهاد في سبيل الله لأنه عز للأمة …جمع رضي الله عنه بين الدعوة والدولة ،كان يعظ الناس ويذكرهم بالله من مواعظه :الظلمات خمس والسرج‘خمس:حب الدنيا ظلمة والسراج له التقوى،والذنب ظلمة والسراج له التوبة ،والقبر ظلمة والسراج لااله الا الله محمد رسول الله ،والآخرة ظلمة والسراج لها العمل الصالح، والصراط ظلمة والسراج لها اليقين ” .[29] 

لا يختلف الحاضر عن الماضي من وجود ،عناصر الشر أو ما يصطلح عليه بالمعارضة المخربة، لكن شجاعة الصديق كانت لقوى الغذر بالمرصاد  حيت قال والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه للرسول صلى الله عليه وسلم لقاتلهم عليه ، فقاتل المرتدين ومانعي الزكاة ، وقتل مسيلمة الكذاب، وهرب مدعي النبوة طليحة بن خويلد إلى أرض الشام ، ومن انجازاته كذلك جمع القرءان وهو أول من سماه مصحفاً وقبل ذلك لم يكن مجموعا بل كان محفوظا في صدور القراء من الصحابة ومكتوباً في صحف مطهرة متفرقة.ونفد جيش أسامة الذي كان أعد ه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الشام ،رغم معارضة بعض كبار الصحابة على صغر سن أسامة قال رضي الله عنه :امض يا أسامة للوجهة التي أمرت بها ثم اغز حيث أمرك رسول الله صلى الله عليه وسلم من ناحية فلسطين ،وعلى أهل مؤتة فان الله سيكفي ما تركت “[30] .
وفي السنة الثالثة عشرة جهز أبا عبيدة بن الجراح أميراً على جيوش بلاد الشام.استعدادا لمعركة اليرموك …
وبينما هم في القتال حضر بريد من المدينة المنورة أخبر خالد بن الوليد أن الخليفة أبو بكر الصديق رضي الله عنه قد توفي وولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأسر خالد ذلك الخبر ولم يعلم أحدا لانشغالهم بالقتال.

وفاته رضي الله عنه : 

مرض الصديق خمسة عشر يوما وتوفي يوم الاثنين في الثاني والعشرين من شهر جمادى الآخر، من السنة الثالثة عشر للهجرة، وقد غسّلته زوجته أسماء بنت عُمَيسٍ؛ كما أوصى، ودُفن إلى جانب رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم [31].

ولمّا توفي جاء علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه باكياً مسرعاً مسترجعاً حتى وقف بالباب وقال: يرحمك الله أبا بكر لقد كنت والله أول القوم إسلاما، صدقت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كذّبه الناس وواسيته حين بخلوا، وقمت معه حين قعدوا، وسماك الله في كتابه صديقا …

خاتمة :

من رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الصحابة معاني الإيمان، ومن قلبه الطاهر سرت مادة الإيمان والإحسان إلى قلوبهم ، ثم امتدت الصحبة وراثة فكانت رحمة بين الصحابة والتابعين ومن تبعهم بالإحسان، يقول الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله: “صحبة الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم رفعتهم لحاله، قبل مقاله… في أحضان النبوة تربوا ومنها رشفوا واستقوا، حتى تفجرت في قلوبهم ينابيع الإيمان وكانوا أبر الناس قلوبا وأعمقهم علما، بالحب تربى الصحابة لا بالخضوع لسلطة حاكمة” [32].

حق لصحابة رضي الله عنهم، أن يكونوا جيلا فريدا،عز نظيره في التاريخ،قال فيهم عبد الله بن مسعود رضي الله عنه :من كان مستنا فليستن بمن قد مات ،فان الحي لا تؤمن عليه الفتنة ،أولئك أصحاب محمد ،كانوا والله أفضل هذه الأمة،وأبرها قلوبا ،وأعمقها علما ،وأقلها تكلفاَ،قوم اختارهم الله لصحبة نبيه ،وإقامة دينه،فاعرفوا لهم فضلهم،واتبعوهم في آثارهم،وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم ودينهم،فإنهم كانوا على الهدى المستقيم “[33].

 اللهم احشرنا في زمرة الصديقين وأمتنا على محبتهم واجعلنا من أتباعهم،متمسكين بالصحبة والجماعة إلى أن نلقى الله تعالى وهو راض عنا وأخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .

   المراجع :

1 – الاصابة لابن حجر (4/144،145).

2– سيرة الصديق ،فتحي السيد ص 29،تاريخ الخلفاء ص56. 

3 –  عبد الرحمن بن عبد الله السحيم، “سيرة أبي بكر الصديق رضي الله عنه”، www.saaid.net، بتصرّف. 

4- المعجم الكبير للطبري (1/52)

5 –  سعود الزمانان، “المختصر الأنيق في فضائل أبي بكر الصديق”، www.saaid.net، 

6 – سورة الزمر الآية 33.

7 –  سورة التوبة الآية 40.

8 –    سورة الليل الآية17.

9 –  محمد بن سعد بن مَنِيع ،الطبقات الكبرى (171/3).

10- مسلم رقم 2490،الطبراني في الكبير رقم 3582.

11 -السيرة النبوية لابن هشام (1/371).

12 –  السيرة النبوية لابن هشام (1/372).

13 – رواه مسلم . 

14 – تاريخ الدعوة إلى الإسلام ص 107

15- البخاري ،كتاب مناقب الأنصار ،باب هحرة النبي رقم 395.

14 – مواقف الصديق مع النبي بمكة ص8

16 – سورة التوبة الآية 40.

17 – سورة الأنعام الآية 162

18 – سورة النحل الآية 125.

19 – السيرة الحلبية (1/422).

20– عيد السلام ياسين ،المنهاج النبوي ص147.

21- سورة غافرالآية28 

22- سورة الحجر الآية( 94/95)

23 – السيرة النبوية لابن كثير (1/439- 441)

24- البداية والنهاية (3/271-272) ص 38 نقلا عن علي الصلابي سيرة أبي بكر الصديق رضي الله عنه .

25- الفتح الباري ص756 ج7 رقم 4187 . 

26– سورة آل عمران: الآية 144.

27 – البخاري فضائل الصحابة رقم 3668 ص105.

28 – عصر الخلافة الراشدين .د.فتحية النبراوي ص30 .

29 – فرائد الكلام للخلفاء الكرام ، قاسم عاشور ،ص 29  .

30 – عهد الخلفاء الراشدين للذهبي ص 20  .

31 –  “مرض أبي بكر الصديق ووفاته”، ar.islamway.net. بتصرّف.

32عبد السلام ياسين الإحسان( 1/103).

33 – شرح السنة للبغوي( 1/214-215.).

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.