ثانيا: المصادر الثانوية
أ – التراث التربوي الإسلامي :
حُق للمسلين أن يفتخروا بالصفحات المضيئة من تراثهم الثري، ومصدر تراثنا هم علماؤنا، الذين تركوا لنا وللبشرية مكتبة زاخرة، وكنوزا من العلم باهرة، لايوجد مثلها ولا نصفها ولا معشارها عند أمة من الأمم، لا من قبل ولا من بعد، وهذا التراكم العلمي والمعرفي الرصين يدعونا إلى بحثه ودراسته واحتضانه، ولا تزال الحاجة داعية وشديدة إلى التنقيب وتطوير البحث العلمي فيه، بما أن معرفة التاريخ والتراث نبراس يضيء لنا الحاضر ويساعدنا في التخطيط للمستقبل.
“ونحن نقدر أن موضوع التراث التربوي الإسلامي هو أحد موضوعات التعليم والبحث العلمي التي تحتاج إلى البحث والاهتمام، لا ليكون هذا الموضوع غاية في حد ذاته، وإنما ليكون وسيلة لبناء فكر تربوي إسلامي معاصر، يأخذ من التراث ما يلزم أخذه، لكنه يستلهم مقاصد الإسلام في نصوصه الأساسية في القرآن الكريم والسنة النبوية، ويستأنس بفهم علماء الأمة لتلك المقاصد، كما جاء هذا الفهم في مادة التراث، ثم يتعامل مع الخبرة الإنسانية المعاصرة، بتحليل نقدي; سعيا وراء ماقد يتوفر فيها من الحكمة، وتطلعا إلى بناء نماذج تتصف بالأصالة والإبداع، وتقود إلى تطوير الواقع واستشراف المستقبل”(1).
والتراث يأخذ معنى الثروة التي انتقلت إلينا ممن عاشوا قبلنا في كافة الميادين، سواء كانت مادية أو معنوية، وعلى هذا الأساس يعرف التراث بأنه “كل ما وصل إلينا من الماضي داخل الحضارة السائدة”(2)، “وأما بعض الباحثين فيرى أن التراث هو ما جاءنا من الماضي البعيد والقريب أيضا”(3).
و”نعني بالتراث التربوي الإسلامي تراث الأمة المسلمة، على امتداد هذا التراث في الزمان، وفي المكان. وعلى الرغم من أن العلماء الذين كتبوا التراث ينتسبون إلى أقوام وأعراق ولغات متعددة، جمعتهم أمة الإسلام، فإن معظم ما كتب كان بالعربية؛ فقد كانت لغة العلم في المجتمع الإسلامي، لكن ما كتبت مادته بلغات أخرى، لم يكن قليلا كذلك”(1).
وهذا إطلاق عام يشمل كل ما يدخل تحت مسمى التراث – ولا سيما المكتوب منه -، وهو يحتاج لا محالة إلى تقييد، “فالتراث التربوي الإسلامي ليس تراث القرن الأول فحسب، ولا حتى تراث القرون الثلاثة الأولى، ولكنه تراث ممتد على مدى يزيد عن ثلاثة عشر قرنا. ثم إنه ليس تراث تعليم القرآن والفقه وأحكام الشريعة فحسب، وإنما هو إضافة إلى ذلك سائر أنواع التعليم الأخرى التي مارستها المجتمعات الإسلامية من لغة وأدب وفلك وطب، فضلا عن حرف الزراعة والصناعة والبناء وفنون الحرب وغيرها”(2).
وانطلاقا من هذا، فإن التراث التربوي الإسلامي بوثقة للأراء والقضايا التعليمة، “لكن هذا المعنى العام للتعليم ليس هو غايتنا في الحديث عن التراث التربوي الإسلامي، وإنما الذي نعنيه ذلك التراث الذي يتضمن موضوعات عن التربية والتعليم بالمعنى الخاص؛ أي الكتب التي تحتوي مادة عن واحد أو أكثر من الموضوعات الآتية: العلم، المعلم، المتعلم، وطرق التعليم، ومناهج التعليم، ومؤسسات التعليم، وتمويل التعليم، وإجازات التعليم، وغير ذلك مما له صلة بالتعلّم والتعليم، سواء أكان منهج عرض هذه المادة منهجا فقهيا، أو فلسفيا، أو تاريخيا، أو أدبيا، أو صوفيا، أو غير ذلك”(3).
وعليه، فإن التراث التربوي الإسلامي مجموعة من الإجابات والمقاربات والاقتراحات والممارسات المنصبة على واقع التربية والتعليم، داخل الحظيرة الإسلامية، طرحها الوجود التربوي على أسلافنا ليجابهوا بها مشكلات وقضايا ذلك الواقع.
ب- إبداعات التراث الإنساني السليم في شقه التربوي:
تبين فيما سبق أن التراث في معناه العام هو حصيلة ما أبدعه السلف من علوم وفنون، وما خلفوه من مآثر تاريخية وعمرانية، وآثار ذلك في أخلاق الأمة وأنماط عيشها وسلوكها، فهو منجز تاريخي لاجتماع إنساني في المعرفة والقيم والتنظيم، وتراث أمتنا العربية لا يقف من حيث الزمان عند بداية التاريخ الإسلامي، وإنما يمتد مع ماضيها إلى ما قبل ذلك موغلا في أعماق الزمن؛ فماضي كل الشعوب التـي أسلمت وتعربت هو من ماضي هذه الأمة، وكل الحـضارات الفكرية والمادية التـي ازدهرت في أرضنا العربية هي في الواقع التاريخي ميراث أمتنا.
ثم إن العقلية الإسلامية اتسمت بالقدرته على استيعاب الثقافات الأخرى المستلهمة من مختلف الحضارات، كفلسفة الإغريق وعلومهم، وحكمة الهند وفكرها، إلـى آداب الفرس ونظمها، فقد تناولوا ما نقل إليهم من ذلك التراث بالدراسة وصبغوه بالصبغة الإسلامية، وقد تفاعلت ثقافتنا مع هذه الثقافات دون أن تفقد هويتها، أو تفقد أصالتها، فلم يقفوا أمام هذه الواردات الفكرية موقف الرافض لها المحذر منها، وإنما اجتهدوا في نقدها وتمحيصها، فأخذوا ما رأوه حقا وطرحوا ما رأوه مبطلا، مبرهنة على قدرة فائقة على التكيف مع الحـاجة الـعلمية والفكرية والـنفسية، واستيعاب المحدثات والمتغيرات في مجال العلوم والتقنية والفنـون والآداب.
ولما كانت الحضارة “هي ثمرة كل جهد يقوم به الإنسان لتحسين ظروف حياته، سواء أكـان الجهـد المبـذول للوصول إلى تلك الثمرة مقصودا أم غير مقصود، سواء أكانت الثمرة مادية أم معنويـة”(7)، فإن المسلم مدعو من منطلق الخلافة للاستفادة من تلك الثمرة، ومطالب بمحاكاة كيفية زراعتها وجنيها بالطريقة السهلة الأقل كلفة والأكثر جودة، كما يحث الشرع على التماس الحكمة من حيث خرجت، مادامت حقا أبلجا، فقد أثنى الله عز وجل على صاحب الحكمة فقال: ﴿ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ﴾(8)، وجاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “الْكَلِمَةُ الْحِكْمَةُ ضَالَّةُ المُؤْمِنِ فَحَيْثُ وَجَدَهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا”(9)، وقد سار الصحابة على هذا الهدي الحكيم في تلقف الحكمة من أية جهة جاءت، فقد أورد ابن عبد البر في كتابه (جامع بيان العلم وفضله) عن علي رضي الله عنه أنه قال: “العلم ضالة المؤمن فخذوه ولو من أيدي المشركين، ولا يأنف أحدكم أن يأخذ الحكمة ممن سمعها منه”(10).
ذلك أنه “لا ينبغي أن نجعل أكبر همنا مقاومة كل جديد، وإن كان نافعا، ولا مطاردة كل غريب، وإن كان صالحا، وإنما يجب أن نفرق بين ما يحسن اقتباسه وما لا يحسن، وما يجب مقاومتـه وما لا يجب، وأن نميز بين ما يلزم فيه الثبات والتشدد، وما تقبل فيه المرونة والتطور”(11).
ولا يمكن انطلاقا من هذا أن نحقق النهضة المطلوبة لهذه الأمة، إلا بالاعتماد المتبادل، والانفتاح على الحضارات الأخرى، لنقف على روح التقدم الذي تعيشه، ونثرى بتجارب إيجابية بناءة، في وقت أصبح فيه العالم أقل حجما وأكثر ترابطا، فلا مبرر للانغلاق على الذات، بل وجب التفاعل بمسؤولية شرعية ووطنية وبواقعية مع كل جديد في الثقافة العالمية، كما أن هذا الانفتاح – كما أكدنا سابقا – لا يعني قبول كل ما لدى الآخر، “ولذا كان من أبرز مقاصد الشريعة التنشئة الاجتماعية تشكيل أفراد إنسانيين قادرين على الاندماج في الإطار العام للجماعة، متكيفين مع أنماطها وقيمها”(12).