منار الإسلام
موقع تربوي تعليمي أكاديمي

بَيْنَ تَرَدِّي عَالَمِ التَّفْكِيرِ وَالسَّعْيِ لِإِثبَاتِ الوُجُودِ

0

يَحْمِلُ المتَهَمِّمُ بِمَا تَعِيشُهُ الأُمَّةُ اليَوْمَ مِنْ أَزَمَاتٍ ثِقْلًا عَلَى عَاتِقِهِ، يَحْمِلُ جَمْرًا يُقلِّبُه بَيْنَ اليَدِ اليُمْنَى وَاليُسْرَى، وَلَا يَكَادُ يَشْعُرُ بِالرَّاحَةِ وَالاِطْمِئْنَانِ، حَتَّى يُضَافَ ثِقْلٌ آخَرَ إِلَى مَا يَحْمِل. تَرَاهُ مِنْ حِينٍ لِآخَرَ يُحَاوِلُ أَنْ يَقِفَ عَلَى ثَغْرٍ مِنْ الثُّغُورِ الَّتِي تَأْتِي مِنْهَا الرِّيَاحُ الَّتِي تُقَطِّعُ أَوْصَالَ هَذَا الجِسْمِ النَّحِيفِ المَرِيضِ، وَكُلَّمَا اِسْتَجْمَعَ قِوَاهُ وَتَحَزَّمَ إِلَّا وَوَجَدَ نَفْسَهُ خَارِجَ دَائِرَةِ المُجْتَمَعِ الَّذِي يَنْتَمِي إِلَيْهِ.

أَنْتَ يَا مِسْكِينُ تَحْمِلُ هَمًّا فِي زَمَنٍ اِخْتَلَطَ فِيهِ الهَمُّ بِالسَّعَادَةِ، كُلُّ النَّاسِ صَارُوا جُزْءًا مِنْ ذَلِكَ الهَمّ، وَصَارَ الهَمُّ بِالنِّسْبَةِ لَهُمْ أَمْرًا طَبِيعِيًّا؛ يَرْسُمُ حَيَاتَهُمْ، وَيُشَكِّلُ يَوْمَهُمْ إِلَّا أَنْتَ. فَمَنْ زُجَّ بِكَ يَا مِسْكِينُ فِي هَذِهِ الزَّنْزَانَةِ؟ مَنْ وَضَعَ هَذَا الجَمْرُ المُحْرِقُ فِي يَدَيْكَ؟ مِنْ جَعَلَكَ خَارِجَ الدَّائِرَة؟

يُفَكِّرُ المِسْكِينُ فِي زَمَنِ الرَّدَاءَةِ، حَيْثُ صَارَ التَّفْكِيرُ أَمْرًا مُوَازِيًا لِلتَّكْفِيرِ، وَأَصْبَحَ النَّقْدُ الإِبْدَاعِيُّ؛ ثَمَرَةُ اِشْتِغَالِ الفِكْرِ: كُفْرًا بَوَاحًا فِي أَوْسَاطِ هَذِهِ الأَجْسَادِ المَيِّتَةِ المُتَحَرِّكَةِ. يُفَكِّرُ وَيَقْرَأُ وَيَتَأَمَّلُ، فَإِذَا قَرَأَ مَا حَوْلَهُ وَمَنْ حَوْلَهُ مِنْ مَنْظُورِ مَا تَوَصَّلَ إِلَيْهِ، فَقَدْ أَشْهَرَ بِكُفْرِهِ فِي عَالَمِ الإِيمَانِ، عَالَمُ مَوْتِ الحَيَاءِ، عَالَمُ الرَّقْصِ وَالغِنَاءِ وَمِهْرَجَانَاتِ العُرْيِ، عَالَمُ مَا بَعْدَ الأَخْلَاقِ.

هَا أَنْتَ تُلَاعِبُ الحَيَاةَ مِنْ جَدِيدٍ فِي عَالَمِ الأَرْوَاحِ الَّتِي لَنْ تَعُود، وَفِي عَالَمِ الأَجْسَادِ الَّتِي غَادَرَتْهَا الحَيَاةُ؟ تُخَاطِبُ مَنْ؟ مَنْ يَسْمَعُك؟ وَكَيْفَ يَسْمَعُكْ؟ هَذِهِ الأَجْسَادُ الَّتِي تَسِيرُ أَمَامَكَ كُلَّ يَوْمٍ عَاجِزَةٌ عَنْ التَّفْكِيرِ. مُقْتَنِعَةٌ بِأَنْ الَّذِي كَائِنٌ هُوَ أَحْسَنُ مَا سَوْفَ يَكُونُ، مُقْتَنِعَةٌ بِأَنَّهُ أَفْضَلُ مِمَّا كَانَ، وَأَفْضَلُ مَا بِإِمْكَانِهِ أَنْ يَكُونَ.

كُلُّ الَّذِي يَسْتَحِقُّ أَنْ يَشْغَلَنَا اليَوْمَ فِي نَظَرِهِمْ يَا صَدِيقِي تَمَّ الحَدِيثُ عَنْهُ قَبْلَنا، نَحْنُ وُلِدْنَا فِي عَالَمٍ كَامِلٍ لَمْ يَتْرُكْ لَنَا الأَوَّلُونَ شَيْئًا لِنَتَنَاوَلَهُ إِلَّا الأَكْلَ وَالزَّوَاجَ وَالعَيْشَ، تُفَكِّرُ وَأَنْتَ وَسَطَ هَذَا العَالَم حَتَّى تَخْشَى مِنْ نَفْسِكَ أَنْ تَكُونَ هُنَاكَ بَيْنَهُمْ مِنْ أَجْلِ العَيْشِ فَقَطْ. أَخَذَ الَّذِينَ عَبَرُوا الحَيَاةَ قَبْلَنَا، بَيْنَمَا بَقِيَ لَنَا العَيْشُ نَسِيرُ عَلَى عَجَلَاتِهِ السَّرِيعَةِ إِلَى الزَّوَالِ، لَا أَحَدَ مِنَّا يَخْشَى اليَوْمَ أَنْ يُغَادِرَ العَالَمَ كَمَا تُغَادِرُ شَمَّسُ النَّهَارِ. لَا أَحَدَ مِنَّا اليَوْمَ يَقُولُ بِأَنَّ شَمْسَ الشَّهْرِ المَاضِي قَدْ شَرَقَتْ، وَلَا أَنَّ الشَّمْسَ فِي يَوْمٍ مِنْ العَامِ المَاضِي قَدْ جَاءَتْ لِتُنِيرَ هَذَا العَالَمَ بَعْدَ وَحْشَةِ اللَّيْلِ، أَنْتَ لَسْتَ شَمْسًا يَا عَزِيزِي، فَكَيْفَ تَذَكُرُكَ الأَجْيَالُ مِنْ بَعْدِك؟

أَنْتَ وُلِدْتَ هُنَاكَ فِي هَذَا العَالَمِ لَا يَعْرِفُكَ إِلَّا أَقَارِبُكَ، تَعَلَّمْتَ وَعِشْتَ، نَضِجْتَ وَتَزَوَّجْتَ فَأَفْرَخْتَ كَمَا تُفْرِخُ الطُّيُورُ ثُمَّ غَادَرْتَ فِي صَمْتٍ، لَمْ تَسْأَلْ يَوْمًا لِمَاذَا خُلِقْتَ أَصْلا؟ وَأَيْنَ عَلَامَاتُ مُرُورِكَ مِنْ هَذَا العَالَمِ الضَّخْمِ الفَسِيحِ.

غَادَرْتَ دُونَ أَنْ تُؤَثِّرَ فِي أَقْرَبِ النَّاسِ إِلَيْكَ، بَلْ دُونَ أَنْ تُؤَثِّرَ فِي نَفْسِكِ، لَمْ تَتَعَلَّمْ يَا مِسْكِينُ أَنَّكَ لَمْ تُخْلَقْ لِتَعِيش، وَإِنَّمَا خُلِقْتَ لِتُفَكِّرَ فِي تَغْيِيرِ نَفْسِكَ مِنْ القَابِلِيَّةِ لِلعَيْشِ الفِطْرِيَّةِ، إِلَى القُدْرَةِ عَلَى الحَيَاةِ فِي هَذَا العَالَمِ الكَبِيرِ. العَيْشُ حَالَةٌ كَائِنَةٌ أَصْلًا، فَلَا تُضَيِّعْ جُهْدَكَ مِنْ أَجْلِهَا، كُلُّ شَيْءٍ يَعِيشُ، لَكِنَّ القَلِيلَ مَنْ اِقْتَحَمُوا أَبْوَابَ الحَيَاةِ وَتَجَاوَزُوا العَيْشَ.

هَا أَنَا أَكَثَرْتُ عَلَيْكَ بِالدَّعْوَةِ إِلَى التَّفْكِيرِ وَإِشْغَالِ النَّظَرِ البَدِيعِ البَعِيدِ، لَكِنْ كَيْفَ تُفَكِّرُ؟ كَيْفَ تَتَحَوَّلُ مِنْ آلَةٍ يُؤَثِّرُ فِيهَا المُحِيطُ وَيُوَجِّهُهَا إِلَى إِنْسَانٍ يَرْسُمُ آفَاقًا نَيِّرَةً فِي هَذَا العَالَمِ المُظْلِمِ؟ كَيْفَ تَكُونُ شَمْعَةٌ فِي هَذَا اللَّيْلِ؛ تُضِيءُ مُحِيطَكَ؟

أَنْ تَكُونَ شَمْعَةً يَعْنِي ِبِالضَرُورَةِ أَنْ تَتَعَرَّضَ لِلذَّوَبَانِ وَالدَّمْعِ السَّائِلِ مِنْ أَجْلِ مَنْ حَوْلَكَ، أَنْ تُفَكِّرَ فِي زَمَنِ الخُمُولِ يَعْنِي ِبِالضَرُورَةِ، أَلَّا تُؤَدِّي بِكَ اِنْتِقَادَاتُ الآخَرَيْنَ مِنْ حَوْلِكَ إِلَى الرُّكُونِ فِي زَاوِيَّتِكَ خَائِفًا مُتَوَجِّسًا؛ مُتَوجِّسًا مِنْ عَالَمِ السَّخَافَةِ أَنْ تَأْتِيَكَ مِنْهُ اِنْتِقَادَاتٌ تَتَّهِمُكَ بِجَرِيمَةِ التَّفْكِيرِ وَالتَّأَمُّلِ وَالنَّقْدِ، أَنْتَ فِي وَحْلَةٍ يَا صَدِيقِي, إِذَا فَكَّرْتَ فَأَنْتَ خَارِجَ الدَّائِرَةِ، وَإِذَا لَمْ تُفَكِّرْ فَأَنْتَ غَيْرُ مَوْجُودٍ.

لَا أَحَدَ يُؤْمِنُ اليَوْمَ بِحَقِيقَةٍ مَفَادُهَا أَنَّكَ إِذَا لَمْ تَسْتَطِعْ أَنْ تَرْسُمَ طَرِيقًا آخَرَ عَلَى غَيْرِ مَا هُوَ مَوْجُودٌ، فَلَا بُرْهَانَ عَلَى وُجُودِكَ. يَقُولُونَ: كُلُّ شَيْءٍ جَاهِزٌ اليَوْمَ، فَلَا دَاعِيَ لِلتَّفْكِيرِ، مَا عَلَيْكَ إِلَّا أَنْ تَكُونَ قَابِلًا لِلخُضُوعِ وَالاِسْتِهْلَاكِ، فَهُنَاكَ فِي هَذَا العَالَمِ مَنْ خُلِقَ لِلإِنْتَاجِ وَالاِبْتِكَارِ مِنْ أَجْلِ أَنْ تَسْتَهْلِكَ بِنَهَمِكَ المُفْرِطِ، أَنْتَ خُلِقْتَ لِتَعِيشَ بِمَا يُنْتِجُهُ الآخَرُونَ.

لَا تَعْتَبِرْ نَفْسَكَ عَالَةً عَلَى العِبَادِ وَالبِلَادِ، وَإِنْ اِكْتَفَيْتَ بِالاِسْتِهْلَاكِ وَالاِسْتِيرَادِ، فَقَدْ وُجِدَ فِي هَذَا العَالَمِ مَنْ يَعْمَلُ بِجِدٍّ وَاِجْتِهَادٍ. أَنْتَ مُحَفِّزٌ فَقَطْ؛ أَنْتَ عَامِلٌ مُحَفِّزٌ وَمُثِيرٌ لِاِسْتِجَابَةِ الآخَرِينَ يَا صَدِيقِي. هَكَذَا تُعَلِّمُنَا مُقَرَّرَاتُنَا الدِّرَاسِيَّةُ، وَهَكَذَا تَرَبَّيْنَا فِي المُؤَسَّسَاتِ الَّتِي نَزُورُهَا فِي مُجْتَمَعَاتِنَا القَاحِلَةِ، وَبَيْنَ هَذِهِ القُيُودِ الَّتِي تُحِيطُ بِنَا فِي هَذَا السِّجْنِ العَرَبِيّ.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.