منار الإسلام
موقع تربوي تعليمي أكاديمي

الديمقراطية قاعدة الدولة المدنية هل لها من عيوب ؟

0

فــــــــي البـــــدء:

تعتبر الديمقراطية قاعدة المجتمع المدني والأساس الذي تقوم عليه الدولة المدنية. وبحكم عدة عوامل مركبة، منها ما هو تاريخي ومنها ما هو اقتصادي ومنها ما هو سياسي عسكري، أصبح للكلمة صدى عالمي وطنين في الآذان، كما أتخمت بذكرها وسائل الإعلام على اختلاف أنواعها، تقام لها مهرجانات ومواسم، وتصنف في حقها مجلدات ومعاجم، ولا يخلو منها خطاب حاكم، حاضرة في كل المحافــــــــل والمؤتمرات، تعقد لأجلها الندوات والمناظرات، وتمدح بأجمل العبارات، يخطب ودها السيـــاسيون والأدباء، ويركد نحوها الضعفاء والأقوياء، مرفوعة الهامة بين الأقران، سارٍ ذكرها بكل الأوطان، إطراؤها مصان وذمها مدان، ليس لها شكل واحـــد يميزها ومع ذلك لا تقبل ضرة أو شريكا ينافسها. تلك هي الديمقراطية كما نراها، فكيف هي الديمقراطية كما نعيشها؟

مزايا الديمقراطية:

تعد الديمقراطية من بين أحدث الأشكال التي توصل إليها الغرب في مضمار معالجة الاختلاف السياسي وإدارته بشكل سلمي، وتحويل الاصطـــــدام العنيف بين مكونات الشعب حول السلطة إلى تنافس “شريف” في جذب قاعدة أوسع من الجماهير واستمالة الرأي العام للتصويت على هذا الشخص أو ذاك أو هذا البرنامج أو ذاك وتكريس وسائل الاختيار الحر عبر الانتخاب أو الاستفتاء، إضافة إلى إبداع أجهزة عديدة وتسعى إلى خلق توازن في المجتمع (فصل السلطات)، وتنوع المؤسسات بين رسمية(حكومة)و شعبية (برلمان ـ أحزاب ـ نقابات ـ جمعيات…)، وإنماء روح الحوار والتواصل على حساب الاصطدام والاقتتال، واحترام الآخر والقبول بالرأي المخالف وضمان الحريات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدفاع عن حقوق الإنسان والتصدي لانتهاكها…إلخ.

كل هذه الأشياء من الناحية النظرية مكاسب محمودة. فهل يعـــــــني هذا أن الديمقراطية خالية من العيوب ومنزهة عن الزلل؟ ما هي إذن حقيقة الديمقراطية؟

وماذا تنطوي عليه أحشاؤها؟

قداسة الديمقراطية:

لقد باتت الديمقراطية اليوم شريعة العصر وكل من انتصب قائما لدى مرور موكبها ولم ينحني تواضعا لسدنتها اتهم بالعصيان، وأما من أساء الأدب في حضرتها أو انتقص من شأنها وناقشها أو اعترض على عيوبها فيرمى بالكفر بملتها المعبر عنه بالتطرف والتزمت والإرهاب وسائر صكوك الاتهام الجاهزة من أجهزة ظلت تتكئ على الديمقراطية لنصب المشانق لكل مخالف في الرأي أو راغب في الاستقلال من عبودية الأسياد الرعاة ” آلهة الديمقراطية “.

إن التبجيل الذي تحظى به قديسة الحضارة الغربية العاتية بقوتها المادية اليوم لا يقل استبدادا عــن “الحق الإلهي” الذي تمتع الفراعنة والأكاسرة والقياصرة ويزيد عليهم بدعوى الكونية والعالمية التي لم تكن تدعيها إحدى هذه الحضارات لما كانت تعرف أن حدودها لا يمكن أن تتجاوز ما وصلت إليه حدة سيوفها وأنى للسيوف أن تخضع مشارق الأرض ومغاربها، لكن أمريكا الأقمار الاصطناعية وأمريكا الأنترنت وأمريكا البوارج وأمريكا أسلحة الدمار المفني لا تحدوها فقط رغبة إخضاع ما يدب على سطح اليابسة وإنما تشرأب أعناق “رعاة البقر” المتطاول بنيانهم بأقرانه لنطح السحاب وأنى لهم أن يخلقوا الذباب!! إلى استعمار الكواكب السيارة وترويض أجرام السماء.

لائكية الديمقراطية:

هذا العنصر مستبطن لا يبوح به الكثير من الديمقراطيون إما عن قصد بغرض التمــويه أو عن غير قصد. لكن بالرجوع لمنشأ هذه الديمقراطية بالديار اليونانية نجدها انبثقت من بيئة وثنية/لادينية ثم عرجت على مخاض التغيير السياسي المتقمص للمفاهيم السياسية الجديدة بفرنــــسا والذي اصطدم بقوة مع الكنيسة الكاثوليكية، فاستغل فرصة الانتصار لامتطاء مركب اللائكية كخيار صريح في الحكم والتعليم. ولطالما حاول الديمقراطيون في البلدان الإسلامية طمأنة جمهور الناخبين بأنها لا تتعارض مع الدين، ولا غرو أن حقيقة اللائكية تظهر واضحة حينما يحضر الدين بشكل من الأشكال، والدليل صريح لا يحتمل التأويل في تجربة جبهة الإنقاذ بالجزائر سنة 1992 وحزب الرفاه بتركيا سنة 1996 ثم حماس بفلسطين سنة 2006.

الوجه الآخر للديمقراطية:

لا أريد هنا أن أناقش الأسس النظرية التي يستند إليها دعاة الديمقراطية ولا تتجاوز مخيلتهم الثقافية، ولكن سأركز بقوة على الفصام الواضح بين ما توحي به المبادئ والشعارات النظرية وبين الواقع المر الذي تختلف درجاته، زمانا ومكانا، لكن يثبت بما لا يدع مجالا للشك بأن وراء الممارسة الديمقراطية لوبيات تدير بشكل جيد مقود هذه الأداة في الاتجاه الذي ترسمه ويخدم مصالح الفئات الاجتماعية الكبرى والدول الكبرى دون نكران المزايا التي أشرنا إلى بعضها، وهي دون شك، أخف ضررا من الاستبداد المطلق والمباشر. أعتقد، وليس لأحد الحق في إكراهي على اعتقاد عكس ذلك، أن الديمقراطية لم تكن في يوم من الأيام أداة للتحرر من العبودية والاستغلال أو سلّما للمساواة بين الشرائح الاجتماعية أو منبرا للتعبير عن حقيقة ما يجري، والأخطر من هذا كله أنها لم تكن في يوم من الأيام في مصلحة القاعدة العريضة من الشعوب التي وظفت للأسف كحطب لإقرار مبادئ انتحلت اسم الديمقراطية وادعت قيما لم تكن تسعى لتطبيقها وإنما فرضتها الأحداث واقتضتها الضرورة لاستخدام ذلك الكم العريض من الفئات المحرومة كوقود لتحقيق آمال من يقف وراء مآسيهم ومعاناتهم وحرمانهم. فمتى يعي جمهور الشعوب أنهم يوظفون بأبخس الأثمان لخدمة أغراض ومصالح خصومهم وخدمة قضايا ومبادئ لو خبروا جوهرها لعلموا أن قبولها ينفي مقومات وجودهم. لا أتكلم من فراغ، يكفي أن أذكر هنا أن الديمقراطية اليونانية (أم الديمقراطيات المعاصرة) لم تشمل سوى 10% من سكان مدينة آثينا باعتبارهم الأسياد، واستبعدت القاعدة العريضة من الشرائح الاجتماعية الأخرى، كما لا يخفى تحويل التيار البورجوازي لمجرى الثورة الفرنسية لصالحه، ناقلا بذلك استغلال الأغلبية المقهورة من أراضي النبلاء إلى معامل البورجوازية. نتذكر أيضا أن الحقوق السياسية لأول دستور صدر عقب الثورة الأمريكية لم تشمل سوى السكان البيض الذين لم يتجاوزوا على الأرجح 20% من ساكنة الولايات المتحدة الأمريكية الحاصلة على الاستقلال آنذاك. نتذكر أيضا أن إعلان حقوق الإنسان الصادر عن هيأة الأمم المتحدة سنة 1948 تم في وقت كانت ما تزال فيه معظم القارة الإفريقية والعديد من شعوب العالم مكبلة بقيود الاستعمار الأروبي “الديمقراطي” الداعي إلى حقوق الإنسان والمؤسس لمجالسها. وتظل لائحة عريضة من التناقضات مفتوحة إلى يومنا هذا على مستوى العلاقات الدولية أو على مستوى كل دولة بمفردها.

إن التهريج السياسي من خلال تبني قضايا تبدو ” شعبية ” لم يكن في تاريخ الديمقراطية يهدف إلى حل تلك القضايا بقدر ما كان دائما ومازال يستعملها أداة لتخذ ير الجمهور الانتخابي الواسع واختصار حق الكم المهمل من الشعوب في التنافس حول اختيار أحد ” السادة “.

إنه فعلا أسلوب جديد لإدارة الاختلاف بين الأسياد وذوي الامتيازات الاجتماعية لأنهم دائما من يتنافس لشغل مواقع التقرير والتنفيذ والتشريع في الدول، فلكي لا تكون الحرب مباشرة بين هؤلاء تم تحويلها إلى مجال التنافس في جلب أكبر نسبة من الولاء ـ بتعبير أدق أكبر نسبة من المصوتين ـ وبهذه الطريقة أصبحت الديمقراطية وسيلة لإدارة الاختلاف والتداول على المراكز بين ذوي النفوذ. وطبعا لا ننسى أن الاستقرار الاجتماعي والرخاء الاقتصادي الذي تنعم به جل الشعوب الغربية لا يرجع إلى مزايا الديمقراطية بما تدعيه من حريات وحقوق وإنما يرجع بالأساس إلى القدر الذي تملكه هذه الديمقراطية من استعباد الشعوب المستضعفة ونهب خيراتها، وهذا ما يفسر الاستقرار في الشق الغربي من أروبا الذي ظل يلف دائرة عريضة من المستعمرات خرجت منها الجيوش لتكلفتها المادية وحرجها المعنوي ومكث بها وكلاء الاقتصاد وموجهو الاختيارات السياسية، في حين كانت غنائم الجزء الشرقي من أروبا أضعف لما تمسك بمبادئ نظرية مغرية رغم عدم خلوه هو الآخر من دائرة نفوذ استعماري كانت أقل حجما من نظيرتها الغربية.

زيف الشعارات الديمقراطية:

إن ازدواجية المعايير لدى صناديد الديمقراطية بأوربا والغرب بين حقوق محمية لمواطنيهم ولا تنسحب على باقي الشعوب في الضفة الجنوبية من جهة وبين مثل نظرية ترتكز على إغراء الزبائن وتلميع واجهة البضاعة الديمقراطية مقابل ممارسة يومية تشهد بعكس الادعاء من جهة ثانية، يضع مبادئ الديمقراطية ومرتكزاتها أمام أكثر من سؤال. فيحق للمرء أن يتساءل بمرارة حول الفرق بين ممارسات أمريكا وذراريها الأوربيين اليوم وممارسات الإمبراطوريات الوحشية في غابر الأزمان من تثار ورومان وغيرهم.

لن أجيب عن السؤال ولكن أشير إلى الفارق البسيط بين الجانبين وهو السعي الحثيث الذي تسلكه الدول راعية الديمقراطية اليوم، مسخرة الإعلام وكل الوسائل التي تتيحها الإمكانيات المادية والتقنية الحديثة، من أجل تبرير تلك الممارسات وتقديم مسوغات تعلم يقينا أنها لا تقنع الأطفال والبسطاء بله المثقفين والنبهاء لكن سلطة الإكراه ومضاء السلاح، يجعل هذه الحجج أمرا واقعا ولا يجد الضعفاء من حل أقرب من التسليم للقدر والضراعة في السر بالفرج، وما تلبث بعض المناسبات أن تكشف أن زور التبرير وسلطة التوجيه الإعلامي للرأي العام لا تفلح في استئصال يقظته ورفضه التام لما يجري.

إن جرح فلسطين، وهو تركة ثقيلة وورم خبيث لنبات الديمقراطية الأوربية الزعاق، شاهد أيضا على زيف الشعارات وحقيقة المرامي الديمقراطية التي تقسم بني البشر إلى رعاة وقطيع: أسياد لا يسألون عن جرائم تصل الليل بالنهار وعبيد يحاسبون عن جريرة عدم الامتثال للأوامر ودق الرقاب تحت أقدام من يصدرها. ولذلك ظلت الديمقراطية الدين في أرقى أشكالها وأسمى مظاهرها عبر هيأة زعموا أنها للأمم ويأبى الواقع إلا أن يثبت أنها لسان حال حفنة من الدول تتصرف فيها بمشيئتها والعبرة بالأفعال لا بالأقوال نموذجا حيا لتفنيد مزاعم نزاهة مفتقدة لشئ اسمه “الديمقراطية”. هذه الهيأة يشهد أزيد من نصف قرن من التاريخ أنها كانت سندا للجلاد في فلسطين وأداة نهر ونحر للضحية، تضرب صفحا عن مآسي شعب بأكمله وتبرر جرائم تعجز وحوش الغاب وتستحيي القيام بمثلها يقترفها الأنذال من بني صهيون، فضلا عن دماء المسلمين المسترخصة في العراق وأفغانستان ولبنان وغيرها، فما محل هذه الأفعال من الإعراب ضمن قواعد الديمقراطية؟

انتحال الديمقراطية:

إن نقد الديمقراطية مهمة شاقة، ليس تجاه دهاقنتها الذين يدركون جيدا فيما يوظفونها، ولكن تجاه شيعتهم ممن خدرت قوة الخطاب الديمقراطي عقولهم وجمدت حسهم فلم يعد لهم من حبل يتعلقون به ولا منقذ ينشدونه غير انتحال شرعتها والعكوف على تعاليمها، إن لم يكن الدافع أصلا هو تسخيرها لما توظف له هناك. ولا غرو، فأعتى الديكتاتوريات في العالم العربي والإسلامي وغيرها تتبنى الديمقراطية تماما كما تتبناها أكثر المذاهب الفكرية والتيارات السياسية استئصالا للرأي المزاحم أو الفكر الآخر، ولا حاجة لنا هنا بضرب المثال فالواقع أفصح حالا وأوضح من كل تعبير وبيان.

وحسبي هنا أن أخاطب جمهور المستضعفين عماد المجتمع الذين يعتبرهم الديمقراطي خطابا المستبد قصدا وممارسة حطب الثورة أو كتلة التصويت لتعديل الكفة لصالح هذا الطرف أو ذاك، لعل خطابي يوقظ وسنان النائم وينفض غبار الغفلة عن التائه الحالم ويثير الاهتمام لكون الواقع لن يرتفع بغير عقد العزم وشحذ الهمم والسواعد وقبل ذلك تطهير النفوس وتصحيح القصد والنية.

إن نقد الديمقراطية لا يعني عدم التقاطع معها في بعض القواسم، في حين تبقى جل مبادئها أفكار مجردة ذات طابع فئوي يفتضح أكثر عبر السلوك الديمقراطي. هذا الالتقاء لا ينبغي أن يصبح مطية لتجرع المشروب الديمقراطي حلوه ومره ولا سيفا للإجبار اللاديمقراطي على اعتناق نحلة الديمقراطية وارتداء قميص رهبانها.

وظائف الديمقراطية:

إن النفعية هي موجه السياسة الغربية وحافزها في الماضي والحاضر وما تبريرات الغطرسة الأمريكية والصهيونية لحفظ ماء وجه الديمقراطية سوى تعبير عن مبدأ “الغاية تبرر الوسيلة”. فهل يستطيع الغرب في يوم من الأيام التخلص من عقدة ” العظمة” وأسلوب العنف في معاملة الآخر؟

إن في التاريخ عبرة لمن يعتبر وإن عقدة العظمة كانت سببا في تدمير العديد من الحضارات لنفسها فلقيت حتفها وحاق بها مكرها، ورغم أن عمر أمريكا ليس طويلا في ميزان أعمار الحضارات التي منها ما دام ثلاثون قرنا وانتهى مآله إلى زوال فإن غرور اللحظة ونشوة الاستكبار تعمي الأنفس ويقال في المثل المغربي الدارج إن الله إذا أراد أن يعذب النملة يخلق لها أجنحة.

بناء على ما سبق أتقدم ببعض الأوصاف استقيتها من الواقع وأراها تناسب الاستعمالات المختلفة التي توظف لأجلها الديمقراطية رغم أن هناك من سيعتبرها تطاولا على حرمتها:

الديمقراطية عصا!:

إن الديمقراطية عصا يتكئ عليها المستبدون لتنميق ممارساتهم السياسية ويستعملونها للهش على شعوبهم، كما هي عصا تهدد بها الدول الكبرى الأنظمة التي لا تنساق لتعليماتها فكلما استنفدوا غرضهم من أحد سدنتهم تألبوا عليه بعد اتهامه بالمروق عن الديمقراطية. لكنها تبقى عصا السحرة التي تنكشف يوم الزينة وتظهر نتوءاتها بارزة حينما يخدش في لاييكية تستبطنها وتحاول إخفاءها على الأنظار فتستخدم للانقلاب على نتائج الرهان الذي لم يأت بمن ترغب فيهم. نتذكر هنا مهزلة الديمقراطية بالجزائر التي صارت جحيما على فائز غير مرغوب فيه يسمى الجبهة الإسلامية للإنقاذ ومهزلة الديمقراطية الأتاتوركية التي لم يدم معها صبر الحكام الحقيقيين من العسكر اللايكيين إلى منتهاه فنفذ وانقلبوا على حزب الرفــــــــــــاه، والتأليب المنظم ضد حركة المقاومة الإسلامية حماس بعدما منحـــــها الشعب الفلسطيني ثقته وفوض إليها أمره.

· الديمقراطية غطاء:

تصبح الديمقراطية غطاء لما يتستر وراءها كل مستبد فض، يسدلها على أفعاله فتحال إلى أعمال ملائكية. نستمع إلى تلفزيونات العرب ووسائل إعلامهم الرسمية ـ استثني بعض المنابر الحرة إلى حد ما ـ فلا نكاد نجد ثلمة في المسؤولين والحكام بل نعيش في جنة وأحلام لا تفيقنا منها سوى صفعات التقارير الدولية حول التعذيب والاعتقال السياسي ومصادرة الصحف ومنع الأنشطة والمظاهرات… ولحسن حظ المستضعفين أن هذا الغطاء لا يمسكه سوى خيط دقيق ينقطع عند أول نسمة ريح تهب للمطالبة بالحرية فينكشف الغطاء وتبرز المخالب والأنياب وتعجز الدواوين على إحصاء المظالم ويعترف الجميع أن ما اعتقدوه بالأمس مسلسلا ديمقراطيا إنما هو مسلسل للتزييف…

الديمقراطية أيضا غطاء الاستكبار العالمي على شنيع فعاله ووحشيته تجاه الشعوب المستضعفة.

. الديمقراطية مرهم:

الديمقراطية عجوز شمطاء تنتحل وقار العروس العذراء، فإذا كثر حولها العشاق وصار لكل ولهان بها غزل ونشدان وصل اكتفت منه بالولاء، وإذا قل من حولها الطلب رمت عنها جلباب الحياء واصطبغت بالطلاء فتعرض مفاتنها للإغراء، فمن أقبل نال وسام الرضا ومن أدبر أو تثاقل صبت عليها غضبها وأطلقت عليه نيرانها، فيأتي خاضعا ذليلا.. لكن متى تنتبه العجائز أن المراهم التي يعتقدنها مصـــدر جمال واجتذاب تحيلهن أشباحا مفزعة؟

 * الديمقراطية أفيون الطغاة:

لا نجد في أعتى طغاة عالمنا الحديث من يتنكر للديمقراطية! ينصب أحدهم نفسه فوق كل السلط ويتصرف بمشيئته طولا وعرضا في الأموال والأعراض، يأمر وينهى، يبيح ويمنع، يعاقب ويقتل… يبيد من يشاء ويعفو عمن شاء… يفعل أي شيء، ويكفيه في النهاية أن يصفه إعلاميا بأنه عمل ديمقراطي ليحصل على صك غفران من رعاة الديمقراطية، ولا ينسى أن يوطد العلاقات معهم ويمتثل أمرهم حتى يتأبد في الحكم، وحتى لو أخرجته الانقلابات أو الثورات من النافذة فإن القوى الخارجية الراضية ستدخله من الباب. وأعجب من العجب أن بعض الديمقراطيات الحديثة تستبطن الملكية في صفة جمهورية وتعمل حسب الطلب وفي الوقت المناسب بتفصيل الدستور على مقاس الحاكم وفق إرادته في أقل مما استقدم فيه الذي أوتي علما من الكتاب عرش بلقيس إلى النبي سليمان عليه السلام.

إن هذه الامتيازات كفيلة بأن تجعل المستبدين يدمنون على الديمقراطية ويتخذونها غذاءهم الروحي ودواءهم الشافي وأفيونا ينشقون ريحه عله ينسيهم حقيقة واقع شعوبهم.

 * الديمقراطية أداة للتوازن الداخلي وسيف للترهيب الخارجي:

هذه الصفة تنطبق على الشعوب الغربية خاصة، ففي أرضها أزهرت الديمقراطية، لكن المطلع على حيثيات هذا الإزهار سواء في مهدها الأول لدى اليونان أو في انبعاثها الحديث مع الثورتين الفرنسية والأمريكية أو في مسارها الطويل في التعديل والتكيف يدرك أن لها وجهان وأن ما تعلنه من مزايا يظل حكرا على فئة محدودة إن بشكل مباشر قديما أو بشكل غير مباشر وأكثر تعقيدا حاليا، ومع ذلك كانت الأداة الأقل كلفة على المستوى الداخلي للدول والأكثر جاذبية لقاعدة واسعة من السكان، والأنجع في تهدئة الأوضاع، إلا أن هدوء هذه الدول الحالي رغم تاريخها الحافل بالاقتتال الدموي والصراع الداخلي لا يتوقف على آثار الديمقراطية، بل قبل ذلك على نهب خيرات الشعوب الضعيفة التي تؤمن لها فائضا من الرخاء لو توقفت لحظة واحدة عن استغلالها لاشتعلت النار من تحت أقدامها.

ومن جهة أخرى مازالت الديمقراطية أمضى سلاح تستخدمه القوى الاستعمارية لترويض محمياتها من دول التبعية حتى لا يفكر حاكم منها في التحرر من دائرة النفوذ المرسومة له ليطوف في فلكها.

عموما فالديمقراطية تحتمل أكثر من الأوصاف السابقة فقد تعتبر مكبــــــــسا للأحلام ووعاء مثقوبا للآمال وحجابا لحقيقة الأوضاع وقناعا يرتديه الساسة أثناء ممارستهم لأعمالهم ولعبة أطفال لتلهية من تغريه اللعب وتميمة تتطلع المقلدة لاتخاذها وقاء من عين الحســـــــاد أو تهمة الاستبداد… إلخ، وتبقى ثمرة الديمقراطية سراب بقيعة يحسبه المظلوم نورا حتى إذا اقترب منه التهب.

وأخيرا…:

ليس المهم عندي أن يتسمى النظام ديمقراطيا أو(x) قراطيا، ولكن الأهم أن اشتم رائحة الحرية وتحفظ مني الكرامة وأجد طريق المساواة ممهدا على المستوى الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، وفي غياب ذلك يبقى نقد الديمقراطية مشروعا، لا لتكون الفوضى والصراع أو الظلم والاستبداد بديلا عنها أو لتسويغ العنف والعنف المضاد لأن العنف لا يأتي بخير عن أية جهة صدر سواء عن الدول فيما بينها أو عن السلطة الحاكمة تجاه مواطنيها أو عن المنظمات أو عن الأفراد، ولكن لأننا حضارة لها عمق وهوية ولها خصوصية لا تلغي الاستفادة من الآخر وإنما ترفض أن نلهث وراء الأشكال وننسى اللب والمحتوى. وفي الأخير أتمنى صادقا ألا يكون مقتضى البوح بما جاد به الخاطر وفضح ما يتلظى به الواقع من خبث الضمائر دافعا لإصدار تهم الظلامية والتطرف ورفض الحداثة وأية حداثة؟ أرجو أن يتسع صدر الديمقراطية وحماتها الديمقراطيين إلى هذه المشاكسة علها تنبئ الجاهل وتوقظ الغافل وإن سببت لذوي المصالح بعض المشاكل فلا داعي للقلق فإن في مزايا الشورى التي أمر بها المسلمون شرعا ما يتسع لأكثر مما يتعلق به المبهورون بالدعاية الديمقراطية، وليست الشورى بهذا المعنى طيفا سحريا، فقد تتقاطع في كثير من أدواتها مع الديمقراطية لكنها تختلف عنها في الجوهر، تختلف عنها في كونها قبل كل شيء عبادة نتقيد بها امتثالا للخالق لمصلحة الخلائق ثم في كونها تنسجم مع نظرة الإسلام الكلية للحياة والكون والإنسان، تخدم وظيفة الإنسان في الدنيا بضمان كرامته كما تبحث في تأمين مقامه في الآخرة ونجاته من سوء العاقبة وهي تشمل مجال اختيار الحاكم ومجال التدبير والتقرير في أعماله.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.