منار الإسلام
موقع تربوي تعليمي أكاديمي

لا النافية للجنس بين سلطة العامل وملمح التركيب الخاص

لخضر حيدة

0

لا النافية للجنس

بين سلطة العامل وملمح التركيب الخاص

بقلم: لخضر حيدة

ملخص

لقد حاولنا من خلال هذا المقال المختصر، أن نسلط الضوء على مبحث من مباحث النحو العربي، وهو عمل “لا النافية للجنس”. فهذا المبحث على صغر حجمه، إلا أنه قد شغل النحاة كثيرا، فتعددت آراءهم، وكثر جدالهم حوله. وإذا تفحصنا هذه الآراء، فهي لا تحيد في مجملها عن نظرية العامل، إذ كان تصورهم للتحليل النحوي محكوما بقانون العلة؛ التي تفسر العلاقات بين وحدات التركيب إعماليا؛ أي ترى أن هذه الوحدات يؤثر بعضها في بعض، فيظهر أثرها في أواخر بعض، على شكل علامات مختلفة، تتوزع بين البناء والإعراب.
في حين أن الواقع اللغوي يفرض بعض التراكيب ذات الطابع الخاص، لا تفسر دائما في ضوء نظرية العامل، وإنما هي تراكيب ذات ملامح خاصة. وبذلك كان تركيب ” لا النافية للجنس” أنموذجا يندرج ضمن هذا الباب. وسنحاول ـ إن شاء الله تعالى ـ في هذا المقال، أن نفصل القول في ذلك.

تمهيد

لقد نظر النحاة إلى التركيب النحوي العربي بمنظار الإحياء، حيث يرون أن هذه اللغة كائن لا يختلف عن منطق باقي الكائنات الحية، فهو كذلك كائن خاضع لقانون العلة، والتأثير والتأثر، وكل ما يلحق الكائن الحي من صفات النضج والتطور والاكتمال.
فهذا النظر المعرفي، جعلهم ينظرون إلى وحدات التركيب النحوي، على أنها عناصر حية متفاعلة، داخل نظام التركيب، يؤثر بعضها في بعض بوجه من الوجوه، الشيء الذي دفعهم إلى تأسيس نظر لغوي قائم على نظرية العامل. فهم يرون أن وجود هذه الحركات في أواخر وحدات التركيب (العلامة الإعرابية)، ناتجة عن مسبب ما (عامل)، وأن عناصر هذا التركيب، تتوزع بشكل خطي أفقي مرتب، خاضع لقانون القوة والضعف، والخفة والثقل، والأصل والفرع، والعمد والفضلات.

 ومن تم تكون صورة التركيب النحوي في أذهانهم قائمة على العناصر التالية: عامل + معمول =علامة. فالعامل هو المسبب والجالب للعمل، والمعمول مستقبل لهذا العمل، والعلامة منبئة عن طبيعة العمل حسب الوظيفة (الفاعلية، المفعولية…). فإذا كان هذا هو تصورهم للتركيب النحوي العربي، فهل ينضبط تركيب ” لا النافية للجنس ” لذلك؟

للإجابة على هذا السؤال، لابد من الجمع والنظر فيما قاله النحاة في باب ” لا النافية للجنس” وفق المحاور التالية:

  • لا النافية للجنس في ضوء نظرية العامل.
  • لا النافية للجنس في ضوء التركيب الخاص.

 1ـ 2 لا النافية للجنس في ضوء نظرية العامل:

لقد اتفق النحاة على عمل ” لا النافية للجنس” في النكرة المفردة بعدها، وإن اختلفوا كثيرا في قضية علة إعمالها، وهل هذا العمل من باب الإعراب أم البناء؟

 و “لا” في الحقيقة لا تعمل بشكل عام، لأنها من الحروف المهملة، كونها تدخل على الأفعال والأسماء على حد سواء، لكنها عملت لما اختصت بالدخول على المنكرات من الأسماء دون المعارف لعلة عارضة. وبذلك كان لها حكم خاص يميزها عن غيرها من الأبواب النحوية.[1]

وكل النحاة الذين أعملوا ” لا النافية للجنس” في معمولها النكرة بعدها مباشرة، حملوها إما على نقيضها “إن” المشددة، ومنهم من قال المخففة كذلك، أو على “ليس”، أو على تضمن معنى الحرف المحذوف، أو على معنى ” غير” بمعنى ليس، أو أنهم اكتفوا بها عوضا عن الفعل المحذوف.
حتى إذا اتفقوا على قضية الإعمال، تراهم اختلفوا من جديد حول طبيعة هذا العمل، أهو بناء ام إعراب؟ فالنحاة لا يخرجون عن هذه الأشياء في محاولة تعليل عمل ” لا النافية للجنس” في الاسم النكرة بعدها.

يرى أبو البقاء العكبري ـ رحمه الله ـ أن “لا النافية للجنس” عملت كونها قيست على “إنَّ” وذلك من وجوه عدة:[2]

  • أنها تدخل على المبتدأ والخبر كما تفعل “إنّ”.
  • أنها تكون في الصدر من الكلام.
  • أنها تكون لتوكيد النفي.
  • أنها نقيضة “إنّ”، ووجه التناقض في ذلك، هو أن “لا” تكون للنفي، في حين تكون “إنّ” للإثبات. وبالرغم من ذلك حملت عليها في العمل. وهذه سنة وعرف عند النحاة، فكثيرا ما نجدهم يحملون الشيء على نقيضه إذا أشبهه في بعض خصائصه. أما الذين حملوها على “إن” المخففة، فلأنها أشبهتها في عدد الحروف، أو قضية الإلغاء.[3]

ويرى أيضا: أن “لا” عملت كونها عوضا عن الفعل في العمل، فالتقدير في قولك: لا رجلَ في الدار، أي لا أجد رجلاً في الدار، فقد تم الاكتفاء بـ “لا” من الفعل العامل.[4]

كما أن “لا” عملت لأنها بمعنى “غير”، كقولك: زيد لا عاقلٌ ولا جاهلٌ، أي: غير عاقل وغير جاهل، و”غير” هنا ممكن أن تعوض ب “ليس”، لأن المعنى ليس عاقلا أو ليس جاهلا. فلما كانت بمعناها، نصبوا بها للخروج من معنى “غير” إلى معنى “ليس”.[5]

في حين أن ابن عبد الله الوراق ـ رحمه الله ـ نجده يتحدث عن هذا التركيب، دون أن يفرد “لا” بالعمل، وكأنه يرى أن هذا العمل في هذا النوع من التركيب، قد نتج بشكل تفاعلي بين عناصر هذه الوحدة ككل. إذ يقول ـ بعد أن ذكر وجوها متعددة لعلة عمل “لا”ـ:(وهو أن تكون (من) مقدرة بين (لا) وما تعمل فيه، فيكون الأصل: لا من رجل في الدار. فلما حذفت (من) تضمن الكلام معنى الحرف، والحروف مبنية، فوجب أن تبنى (لا) مع ما بعدها، لتضمنها الحروف).[6]

ولم يختلف النحاة في علة عمل “لا النافية للجنس” فحسب، بل تعددت آراؤهم في طبيعة هذا العمل أهو إعراب أم بناء. وسنعرض إن شاء الله ـ لهذه الآراء بشكل من التفصيل.

ذهب الكوفيون إلى أن النكرة المفردة بعد “لا النافية للجنس”، نكرة معربة منصوبة. وفي هذا السياق يقول العكبري: `[وذهب أصحابنا إلى أنها نكرة معربة منصوبة ب (لا)…)، ثم يضيف متبنيا هذا الرأي، معددا وجوه النصب فيه:( فلما اكتفوا ب(لا) من الفعل العامل نصبوا النكرة به، وحذفوا التنوين بناء على الإضافة….. فلما جاءت هنا بمعنى ليس نصبوا بها، ليخرجوا من معنى(غير) إلى معنى (ليس)…. إنما عملوا النصب، لأنهم أولوها بالنكرة، ـ ومن شأن النكرة أن يكون خبرها قبلها ـ نصبوا بها من غير تنوين، لما حدث فيها من تغيير كما رفعوا المنادى بغير تنوين، لما حدث فيه من التغيير].[7]
وأما قياس النصب في النكرة بعد “لا” على النصب في اسم “إنّ”؛ فلأنها نقيضتها في المعنى، حيث تكون “إنّ” لمعنى التوكيد، أما “لا” فهي للنفي. وبالرغم من ذلك حملت عليها، لأن النحاة يحملون الشيء على نقيضه كما يحملونه على نظيره. وقد يقول قائل: كيف تحمل “لا” على “إن” وإنّ” تعمل النصب مع التنوين و”لا” تنصب بغير ذلك؟ كان الجواب على ذلك، أن “لا” لما قيست على “إنّ” في العمل، اكتسبت صفة الفرع، والفروع في قانون النحاة، يجب أن تنحط عن درجة الأصول.[8]

وفي قول هؤلاء نوع من الغموض، وهو الشيء الذي جعل نحاة البصرة لا يقبلون به، وسأعرض لبعض هذه الردود بشكل موجز، ومتصرف فيه:[9]

  • ما وجه المناسبة حتى يحمل المنصوب بعد “لا ” على النكرة المؤولة؟
  • حمل “لا النافية للجنس” على “ليس” موجب للرفع وليس النصب؟
  • القياس على حركة المنادى المفرد الناتج بفعل التغيير، وعقد المناسبة بينه وبين حركة ما بعد “لا” مجانب للصواب؛ لأن حركة المنادى المفرد، هي ضمة بناء، وليست حركة إعراب؟
  • لماذا لم تنون النكرة المفردة بعد “لا” إن كانت حركتها حركة إعراب؟ لماذا حملت حركة واحدة كالممنوع من الصرف وهي ليست كذلك؟
  • قولهم إن “لا” نصبت بغير تنوين؛ لأنها فرع عن “إنّ” التي تنصب بالتنوين أصالة، قول فاسد، لأن التنوين ليس من عمل “إنّ”، وإنما هو شيء تستحقه الأسماء في الأصل. إذن لا معنى لحذفه مع “لا”.

وحجة هؤلاء الذين قالوا بإعراب النكرة بعد “لا النافية للجنس” أربعة أوجه:[10]

  1. أن الاسم المعطوف على النكرة بعد “لا” يكون معربا كقولك: لا رجل وغلاما عندك، والواو نائبة عن “لا”.
  2. أن خبر “لا” يكون معربا، وهي تكون عاملة فيهما معا، فكيف يكون اسمها مبنيا وخبرها معربا؟
  3. أن “لا” عاملة، فلو حصل البناء لكان حاصلا بعامل، والبناء لا يكون بعامل. (ربما قصدوا البناء الأصلي وليس البناء العارض، وإلا كان البناء حاصلا بعامل، كما نجد ذلك في بناء الفعل المضارع لاتصاله بنون النسوة)
  4. أن اسم “لا” لوكان مبنيا لبني على حركة غير الفتح؛ لأن “لا” تعمل النصب؛ فإذا عرض البناء وجب أن تكون حركته غير حركة الإعراب كما كانت في: (قبلُ ـ بعدُ).

فحين أجمع البصريون على بناء النكرة المفردة بعد “لا النافية للجنس”، وقد تبعهم في هذا التصور مجموعة من النحاة بعدهم، وسنعرض لهذه الآراء بحول الله تعالى.

جاء على لسان ابن يعيش ـ رحمه الله ـ في شرح المفصل:( اعلم أن “لا” من الحروف الداخلة على الأسماء والأفعال فحكمها أن لا تعمل في واحد منهما، غبر أنها عملت في المنكرات خاصة لعلة عارضة وهي مضارعتها (إنّ) كما أعملت “ما” في لغة أهل الحجاز لمضارعتها “ليس”. والأصل أن “لا” تعمل وقد تقدم الكلام عليها وبيان مضارعتها لـ “إنّ” وذلك أن حكم النكرة المفردة بعد “لا” البناء على الفتح نحو: لا رجلَ عندك ولا غلامَ لك. وهي حركة بناء نائبة عن حركة الإعراب).[11] وفي قول ابن يعيش:(وهي حركة بناء نائبة عن حركة الإعراب)، إشارة واضحة إلى قضية الموقع في النحو العربي، كأني به يرى أن هذا البناء في (لا النافية للجنس، والنكرة بعدها)، هو بناء عارض يفرضه طابع هذا التركيب الخاص، وإلا فهو في الأصل مفسر بموقع ابتداء، والابتداء لا يكون إلا مرفوعا. وسنقف عند هذه الملامح التركيبة الخاصة في المحور الثاني بشكل من التفصيل عند أوانه.

ولا يتخلف صاحب الإيضاح العضدي عن هذا التصور إذ يقول:( الأسماء النكرة التي تنفى بلا هي الأسماء الشائعة التي يراد بنفيها نفي الجنس. والبناء على الفتح مطرد فيها إذا كانت مفردة، كما كان البناء على الضم مطردا في الأسماء المناداة المفردة المعرفة وذلك نحو: لا رجل في الدار، ولا غلامَ عند زيد).[12]

وهؤلاء النحاة وإن كانت تجمعهم قضية بناء النكرة المفردة بعد “لا النفية للجنس” إلا أنهم تباينت أقوالهم حول علة هذا البناء، كما يتضح من خلال النصوص التالية:

يقول أبو البركات بن الأنباري في “الإنصاف”:( وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه مبني على الفتح لأن الأصل في قولك (لا رجلَ في الدار) لا من رجل في الدار؛ لأنه جواب من قال (هل من رجل في الدار؟) فلما حذفت (من) من اللفظ، وركبت مع (لا) تضمنت معنى الحرف، فوجب أن تبنى، وإنما بنيت على حركة؛ لأن لها حالة تمكن قبل البناء، وبنيت على الفتح؛ لأنه أخف الحركات).[13]

أما عبد الله بن الوراق، فقد أضاف على قول ابن الأنباري علة تركب “لا” مع النكرة المفردة بعدها، ووجه الشبه بين “لا” والفعل في قضية البناء إذ يقول:(إنما بنيت الأسماء من (لا) لوجوه:

  • أحدها: أنه جواب لقولك: هل من رجل في الدار، والجار والمجرور بمنزلة الشيء ما هو جوابه، إذا كان المنصوب لا يكون كالشيء الواحد.
  • ووجه آخر: وخو أن تكون(من) مقدرة بين (لا) وما تعمل فيه، فيكون الأصل: لا من رجل في الدار. فلما حذفت (من) تضمن الكلام معنى الحرف، والحروف مبنية فوجب أن تبنى (لا) مع ما بعدها، لتضمنها الحروف.
  • ووجه ثالث: أنها لما كانت مشبهة بالحروف في العمل، وكانت الحروف مشبهة بالفعل وصارت فرعا للفرع، فجعل البناء فيها دليلا على ضعفها).[14]

واعتماد النحاة على تضمن الكلام معنى حرف الجر كدليل على بناء النكرة بعد “لا” النافية للجنس، يشوبه نوع من الغموض لدى القارئ. فالحرف يعمل لشبهه بالفعل. إذن فعمل الحرف فرع عن الفعل، والنحاة يضعون شروطا مقيدة للفروع كونها منحطة عن الأصول في العمل وهي مذكورة في التركيب، فكيف تبنى النكرة بعد “لا” لتضمنها معنى الحرف وهو محذوف من التركيب، وينسب إليه العمل وهو فرع غائب؟

ويسقط هذا البناء إذا ركبت “لا النافية للجنس” مع تركيب المضاف والشبيه بالمضاف، والعلة في ذلك، أن كل من المضاف والشبيه به قد ركبا من كلمتين، فصارا بذلك بمنزلة الشيء الواحد، فإذا ركبا مع “لا” مرة ثانية، أصبحا ثلاثة أشياء، ولا يوجد لهذا نظير في كلام العرب. وفي هذا السياق يقول صاحب أسرار العربية🙁 لم يجز أن تبنى، مع المضاف، لأن المضاف والمضاف إليه بمنزلة شيء واحد فلو بنيا مع “لا” لكان يؤدي إلى أن تجعل ثلاث كلمات بمنزلة واحدة، وهذا لا نظير له في كلامهم، والمشبه للمضاف في امتناعه من التركيب، حكمه حكم المضاف إليه).[15]

إن الملاحظ من خلال ما أوردناه في هذا الباب، أن النحاة قد اختلفوا كثيرا في مبحث” لا” النافية للجنس، فحتى الذين اتفقوا على قضية البناء، لما عرضت لهم مسألة تركيب “لا” مع تركيب المضاف والشبيه به، قالوا يجب أن يعرب نظرا لطول التركيب. وهذا ما يجعلنا نحس بأن تركيب “لا النافية للجنس” له ملامح تركيبية خاصة.
وعلى العموم فإن النحاة لم يخرجوا على اعتبار النكرة المفرد بعد “لا النافية للجنس” إما نكرة معربة، أو مبنية. هذا بالنظر إلى سطح التركيب الموجود بالقوة لفظا، وإلا كان تأويل هذا التركيب ككل، بموقع الابتداء تفسيرا للمرفوع بعد النكرة المفردة، وحملا على عمل “إنّ” في معموليها، كون “لا” فرعا عن “إنّ” في العمل، إن سلمنا بهذا التصور طبعا.

2ـ 2 “لا” النافية للجنس في ضوء التركيب الخاص:

إن وجود الأثر الإعرابي في التركيب العربي بدون عامل، يعد ظاهرة لغوية بارزة واجهها النحاة في أكثر من باب. وبذلك يعد تكلف النحاة لإيجاد مسوغ إعمالي لكل أثر في تركيب ما، عن طرق التقدير والتأويل، حفاظا على الصنعة وأصول الإعمال. وهذا الفعل في الحقيقة، قد يكون تكهنا بعيدا عن مقصد المتكلم، وتهميشا لسلطة النظم والاقتضاء بين أجزاء التركيب، الذي يكون له وجه خاص، بعيدا عن سلطة العمل ومقتضياته.[16]

وحتى لا نعمم ونكون من المنصفين، فقد وجد من بين النحاة العرب من تفطن إلى هذه الدواعي التركيبية المتنكبة عن سلطة العامل، والتي فرضها الواقع اللغوي في أبعاده التعبيرية المختلفة. فقد كان أبو زكريا الفراء ـ رحمه الله ـ من حذاق النحاة الذين تفطنوا لهذه الدواعي التركيبية الخاصة، فهو يرى النصب مثلا في كلمة “بعوضة” في قوله تعالى:( إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضةً فما فوقها)،[17] قائما على أسلوب عربي خاص؛ لأن التقدير يكون ما بين بعوضة إلى ما فوقها. فإن صح هذا التقدير في التركيب، نصبت العرب على فتح الجزأين، فتقول: مطرنا ما زبالةَ فالثعلبةَ، وله عشرون ما ناقةً فجملاً. فيكون النصب في مثل هذا التركيب، دالا على الاتصال بين المنصوبين، وليس راجعا إلى عامل نصب ما، كما قد يتوهم كل من يرتكن إلى سلطة العامل في تفسير كل أثر إعرابي كيفما كان.[18]

 فالفراء رحمه الله يؤكد من خلال هذا التحليل، أن النصب كان بفعل الاختزال المراد في التركيب، وليس حركة إعرابية تفسر بعامل.[19]

إن وجود مثل هذا النموذج التركيبي الذي ذكره الفراء رحمه الله في باب النصب، يجعلنا نستحضر نماذج أخرى نراها لا تبتعد عن هذا النمط من التحليل، وإن كانت تندرج تحت باب غير باب النصب. فالمهم عندنا هو وجود علامة في تركيب ما، غير خاضعة لسطلة عامل من العوامل النحوية المتعارف عليها.

 ختم ابن السراج ـ رحمه الله ـ الجزء الأول من كتابه الأصول، بمبحث موسوم بـ: ذكر الضرب الثاني من المبنيات وهو الكلم المركب. حيث يرى أن هذا الضرب من الأسماء، بني بفعل التركيب أو الحذف على نية الإضافة، كما حدث في قبلُ وبعدُ، إذ الأصل: قبلَ كذا، وبعدَ كذا.[20] فلما حذف المضاف إليه، بنيت إنباء على الجزء المحذوف.
ثم يفرع عن كل مثال نماذج كثيرة، لا نرى لذكرها مسوغا في هذا الباب. فالذي يهمنا منها في هذا السياق، التركيب الواقع بين اسمين أو حرف واسم. فأما الأول قولهم: خمسة َعشرةَ ـ حيصَ بيصَ ـ شغرَ بغرَ. أما الثاني فمثاله: لا رجلَ في الدار. فكل ما جاء على هذا النمط بني على الفتح. وبذلك تكون (خمسة عشرة) مبني على الفتح بسبب حذف الواو، فالأصل: خمسة وعشرة.[21] فلما حذف حرف العطف تم البناء على فتح الجزأين، وهو عمل لا يفسر في نظرنا بسلطة العامل، وذلك لوجوه عدة:

  • لا نرى مسوغا للشبه هنا بين الفعل والحرف؟
  • الحرف يعمل بشروط مقيدة وهو مذكور، فكيف يعمل وقد اجتمع فيه الحذف والفرعية؟
  • لم يعمل حرف العطف في (خمسة وعشرة) وهو حاضر، فكيف تسبب في العمل وهو غائب؟

وتركيب “لا” النافية للجنس في قولك: لا رجلَ في الدار، لا يخرج عن هذه الأشياء التي أشرنا إليها في تركيب (خمسة عشرة)، فهي كذلك حملها النحاة على وجوه عدة كما بينا في المحور السابق. ويلتقي تركيب (خمسة عشرة) و(لا رجل في الدار) في إمكانية تأويل الحرف المحذوف (الواو ومن)، إلا أننا لا نرى أي مجال للمقارنة رغم إمكانية التأويل، لأن حرف الجر(من) كان عاملا في تركيب (لا من رجلٍ) قبل الحذف. أما حرف العطف (الواو) فلا عمل له قبل التأويل وبعده. فقولك: خمسة وعشرة أو خمسة عشرة، سواء من الناحية الإعمالية. وهذا يؤكد أن لكل تركيب خصوصيته مهما حاولنا ان نقرب المسافات بين التعابير اللغوية المختلفة.

والشيء الذي لا يمكن أن نغفله في هذا الباب هو قضية المعنى المستخلص من التركيب، فربما كان المعنى يفرض طابعا خاصا من التعبير، فإن تكلفت تفسيره إعماليا دائما، تكون قد حملت التركيب وقائله ما لم يطيقا على حد سواء.[22]

كنا قد أشرنا من قبل إلى قضية التباين الحاصل بين “لا” و “إن” وإن كانت محمولة عليها في العمل، إن سلمنا بهذا التصور طبعا.

 وقد بينا أن النحاة حاولوا حمل “لا” عن “إن” رغم هذا التناقض الحاصل بينهما في كثير من المسائل المختلفة. والذي جعلهم يفعلون ذلك في نظرنا، هو ذلك التشابه الملحوظ في العلامة الإعرابية في المعمولين بعد كل من “لا” و “إن”. وهذا ملمح شكلي خالص في مقابل ذلك الاختلاف الشاسع في الأمور الدلالية بين “لا” و “إنّ”. الشيء الذي يجعلنا نفكر في النظر من زاوية أخرى إلى هذا التشابه الحاص بين “لا” و “إنّ”، وهو نظر التركيب العميق، وملمح التركيب الخاص.

إذا نظرنا إلى جملتي كل من “لا” و “إنّ”، نجد ذلك التشابه التام بين التركيبين على الشكل التالي:

لا + منصوب + مرفوع

إن + منصوب + مرفوع

والذي يهمنا هنا هو النظر إلى تلك الجملة الاسمية التي تأسس عليها عمل كل من “لا” و “إنّ”. فالعلاقة بين المبتدأ والخبر ظلت قائمة في التركيبين معا. وهذا نظر في عمق التركيب لا يقوم على الشكل كما فعل النحاة. وهذا النظر يخرجنا من التناقض بين “لا” و “إنّ”، الذي أتعب النحاة في البحث عن أوجه تشابه له. فنقول إن كل من “لا” و “إنّ” دخلا على نفس الجملة، فشغلت كل من “لا” و “إنّ” وما ركبت معه، موقع ابتداء فغيرت علامته الإعرابية.

لكن هذا التغيير الحاصل في “لا” ليس نفسه في “إنّ”، إذ لكل تركيب خصوصيته التركيبية والدلالية. إذ النسخ الواقع في الجملة الاسمية بسبب “إنّ” ليس نفسه في “لا” من الناحية الدلالية والشكلية معا. فدخول “لا” على النكرة بعدها، يفيد المبالغة في النفي، ووقد غير العلامة من النصب إلى البناء. وهذا العمل في نظرنا قد اكتفى بموقع الابتداء كأساس له. فحين يفيد دخول “إنّ”، المبالغة في الاثبات، هو يغير علامة الابتداء من الرفع إلى النصب، ويتخطاها إلى علامة الخبر في نظر النحاة.

 وهذا هو الذي أتعب النحاة في محاولة التفسير وربط “لا” بـ “إنّ” في العمل؛ لأنهم اعتمدوا على ما هو شكلي فقط، وأهملوا العمق، وتلك الخصوصيات التركيبية المتباينة بين “لا” و “إنّ”. ولما دخلت “لا” على النكرة بعدها، صارتا بمنزلة الشيء الواحد. وبما أن “لا” ركبت مع كلمة كانت تشغل موقعا نحويا هو الابتداء، وجب أن تغير علامته من الإعراب إلى البناء على الفتح، إعلانا عن هذا التركيب الجديد. وهو في الحقيقة ليس مجرد الجمع بين ضميمتين مستقلتين كما يحدث في التركيب عادة، وإنما هو تركيب يحول الضميمتين إلى ضميمة واحدة، وهذا هو الذي أوجب علامة البناء.

كما أن هذا التصور يجعلنا نقول إن “لا” غيرت علامة المبتدأ فقط، ولم تمس علامة الخبر. وهذا تصور يوافق طبيعة “لا”، كونها حرفا لا يقوى على طلب المبتدأ والخبر معا.

خاتمة

من خلال ما سبق ذكره، يمكن القول إن النحاة قد ارتبكوا حول تفسير العمل في تركيب “لا” النافية للجنس، وما جرى مجراها من التراكيب العربية ذات الطابع الخاص.

 ومرد هذا الارتباك، راجع إلى أن النحاة قد وضعوا مقتضيات الإعمال نصب أعينهم، وهم يحاولون تعليل ما توافر لهم من تراكيب لغوية مختلفة. وهذا التباين في التعليل أمر طبيعي جدا في قضية البحث العلمي قديما وحديثا، فلكل مذهب أو مدرسة أو فريق بحث، وجهة نظر خاصة يجب أن تحترم، مادام يحافظ على أساسيات وشروط البحث العلمي الموضوعي.

وقد حاولنا من خلال هذا المقال المتواضع، أن نسهم في نشاط البحث العلمي الخاص بلغتنا العربية السمحاء. وبذلك نكون قد سلطنا الضوء على مبحث من مباحثها، وهو “لا” النافية للجنس، وذلك بوضعه في ميزان نظرية العامل، وملمح التركيب الخاص على حد سواء. لنخلص من خلال ذلك إلى النتائج التالية:

  • تركيب “لا” النافية للجنس، تركيب ذو ملمح خاص، لا ينضبط لمقتضيات نظرية العامل.
  • تعليل التركيب العربي بنظرية العامل فقط، وتهميش أي معيار آخر، هو تضييق لرؤية البحث اللغوي، واقصاء لبعض خصائص هذه اللغة الزاخرة بالنماذج التعبيرية المختلفة.
  • أخذ معيار المعنى، ومقام التعبير خلال محاولة بحث التراكيب اللغوية، أمر واجب. وإلا كان نظرنا اللغوي، نظرا قاصرا لا يستوعب الخصائص الشاملة لهذه اللغة المعجزة.
  • الاعتماد على النظر الشكل اللفظي فقط، قد يوقعنا في متاهات لا مخرج منها، وتفسيرات بعيدة كل البعد عن طبيعة التركيب، ومقصد المتكلم على حد سواء.
  • وجوب الاحتراز عندما يتعلق الأمر بتفسير العلامة الإعرابية لتركيب، قام أساسه على تركيب قبله. وهو ما حدث مع عمل “لا” لما غيرت علامة الابتداء من الرفع إلى البناء على الفتح. فنكون بذلك أمام تركيب سطحي يقوم على تركيب عميق قبله.

قائمة المصادر والمراجع

  1. أسرار العربية: أبو البركات بن الأنباري. ت: محمد بهجة البيطار. مطبوعات المجمع العلمي العربي بدمشق.
  2. الأصول في النحو: ابن السراج. ت: محمد عثمان. ج1.
  3. الإنصاف في مسائل الخلاف: أبو البركات بن الأنباري. ت: محمد مبروك. مكتبة: الخانجي بالقاهرة.
  4. الايضاح العضدي: أحمد عبد الغفار الفارسي.
  5. شرح المفصل: ابن يعيش. ج 2.
  6. علل النحو: محمد بن عبد الله الوراق. ت: محمد الدرويش. مكتبة الرشد.الرياض
  7. القرآن الكريم: رواية ورش.
  8. اللباب في علل البناء والإعراب: أبو البقاء العكبري. ت: محمد عثمان. مكتبة الثقافة الدينية.
  9. مسائل خلافية في النحو: أبو البقاء العكبري. ت: عبد الفتاح سليم. مكتبة الأدب.
  10. نظرية العامل في النحو العربي: مصطفى ابن حمزة. ط: 2004.

 [1] شرح المفصل: ابن يعيش. ج 2. ص100

[2] اللباب في علل البناء والإعراب: أبو البقاء العكبري. ت: محمد عثمان. مكتبة الثقافة الدينية. ص164

[3] المرجع نفسه.

[4] مسائل خلافية في النحو: أبو البقاء العكبري. ت: عبد الفتاح سليم. مكتبة الأدب. ص105

[5] المرجع نفسه: ص105

[6] علل النحو: محمد بن عبد الله الوراق. ت: محمد الدرويش. مكتبة الرشد: الرياض. ص406

[7] مسائل خلافية في النحو: أبو البقاء العكبري. ص105

[8] الإنصاف في مسائل الخلاف: أبو البركات بن الأنباري. ت: محمد مبروك. مكتبة: الخانجي بالقاهرة. ص311

 [9] المرجع نفسه.ص311 ـ 312 ـ 313

[10] اللباب في علل البناء والإعراب: أبو البقاء العكبري. ص165ـ166

 [11] شرح المفصل: ابن يعيش. ج:2. ص100

[12] الايضاح العضدي: أحمد عبد الغفار الفارسي. ص239

[13] الإنصاف في مسائل الخلاف: أبو البركات بن الأنباري. ص311

[14] علل النحو: محمد بن عبد الله الوراق. ص406

[15] أسرار العربية: أبو البركات بن الأنباري. ت: محمد بهجة البيطار. مطبوعات المجمع العلمي العربي بدمشق. ص283

[16] نظرية العامل في النحو العربي: مصطفى ابن حمزة. ط: 2004. ص385

[17] القرآن الكريم. رواية ورش. البقرة: 25

[18] نظرية العامل: مصطفى بن حمزة. ص386

[19] المرجع نفسه: ص387

[20] الأصول في النحو: ابن السراج. ت: محمد عثمان. ج1.ص517 ـ 518.

[21]  المرجع نفسه: ص518

[22] نظرية العامل: مصطفى بن حمزة. ص389

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.