الخصائص كتاب في أصول النحو
الدكتورة رشيدة مصلاحي
يمكنكم الاطلاع على الكتاب أو تحميله من الرابط التالي:
المبحث الأوّل: موضوع الخصائص
إذا رجعنا إلى خطبة الخصائص؛ ألفينا ابن جني يقدّمه بقوله: هذا كتاب «من أشرف ما صنّف في علم العرب، وأذهبِه في طريق القياس والنظر (…) وأجمعِه للأدلّة على ما أودعته هذه اللغة الشريفة: من خصائص الحكمة، ونِيطت به من علائق الإتقان والصنعة، فكانت مسافر وجوهه، ومحاسر أدرعه وسوقه (…) تريني أن تعريد كل من الفريقين: البصريين والكوفيين عنه، وتحاميَهم طريق الإلمام به (…) إنما كان لامتناع جانبه، وانتشار شَعاعه[1]، وبادي تهاجر قوانينه وأوضاعه. وذلك أنّا لم نر أحداً من علماء البلدين تعرض لعمل أصول النحو، على مذهب أصول الكلام والفقه. فأما كتاب أصول أبي بكر[2] فلم يلملم فيه بما نحن عليه، إلا حرف أو حرفين في أوّله (…) على أن أبا الحسن قد كان صنّف في شيء من المقاييس كتيّبا، إذا أنت قرنته بكتابنا هذا علمت بذاك أنا نبنا عنه فيه، وكفيناه كُلْفة التعب به (…) ثم إن بعض من يعتادني، ويُلمّ لقراءة هذا العلم بي(…) سأل فأطال المسألة، وأكثر الحفاوة والملاينة، أن أمضِي الرأي في إنشاء هذا الكتاب، وأُوليه طرفا من العناية والانصباب. فجمعت بين ما أعتقده: من وجوب ذلك عليّ إلى ما أوثره من إجابة هذا السائل لي»[3].
يظهر من خلال النّظر في هذا النّص أنّ الخصائص من الكتب الرّائدة في علوم العربية إلى جانب أصول أبي بكر ابن السّرّاج محمد بن السّري (ت316هـ)[4]، وكتاب تلميذ سيبويه أبي الحسن الأخفش الأوسط سعيد بن مسعدة (ت210هـ)؛ إذ يؤكّد ابن جني أنّ كتابه الخصائص ناب عنه، وكفى كُلْفة التّعب به، وذلك لأنّه تجاوزه وشمل ما ورد فيه، وأغنى الباحث عن الرّجوع إليه.
وأوّل ما يتعيَّن مناقشته والبحث فيه هو: المجال المعرفي الذي صنّف في نطاقه ابن جني مؤلَّفه، وهو مجال «أصول النحو على مذهب أصول الكلام والفقه».
ومعنى أصول الفقه: «أدلّته كالكتاب والسنّة والإجماع والقياس وغيرها»[5]، يقول الإِمَام الفقِيهِ الأُصُولي أبي الوَليد سليمَان بن خلف البَاجي (ت474ه): «الفقه هو معرفة الأحكام الشرعية، وأصول الفقه: ما انبنت عليه معرفةُ الأحكام الشرعية»[6].
ويعرِّف الإمام أبو بكر الجصَّاص الدليل بقوله: «الدَّليلُ: هو الذي إذا تأمَّلَه النَّاظِرُ المُستدِلُّ أوصَلَه إلى العلْمِ بالمدْلولِ، وسُمِّيَ دليلا لأنَّه كالمُنَبِّه على النَّظَرِ المُؤَدِّي إلى المعرفة والمُشيرِ له إليه، وهو مُشَبَّهٌ بِهادي القوم ودليلهم الذي يُرشدُهم إلى الطَّريقِ، فإذا تأمَّلوه واتَّبعوه أوصَلَهم إلى الغرض المقصود من الموضع الذي يَؤُمُّونَه»[7].
أمّا الأصولي في مجال الفقه: فـ»هو العارف بقواعد الاستنباط، الواقف على طرق الاستدلال»[8]. «والاستِدْلالُ: هو طلبُ الدَّلالَة والنَّظَرُ فيها، للوُصولِ إلى العلم بالمدْلولِ»[9].
ويمكن أن نستنتج من خلال تعريف الأصول والأصولي في مجال الفقه؛ تعريفاً للأصولي في مجال النحو؛ فنقول: إنّه العالم بقواعد الاستنباط، والعارف بطرق الاستدلال. ولا نظنّ ما قام به ابن جني في كتابه الخصائص؛ يخالف ما يقوم به الأصوليون في باقي العلوم مثل الكلام والفقه وغيرهما.
ثمّ إنّ النّاظر في الخصائص لا يستغرب من استعارة صاحبه للعديد من المفاهيم والمصطلحات التي تنتمي إلى أصول الفقه؛ إلّا أنّه لا ينسى الإشارة إلى خصوصيّات استعمالها في مجال اشتغاله.
يقول فاضل السامرّائي: «كان لابن جني في أصول النحو باع طويل وجهد كبير، وهو أول من ألف فيه بهذه السعة وهذا الشمول (…) لقد استفاد ابن جني ومن بعده ممن ألّف في أصول النحو من علم الكلام والمنطق وأصول الفقه ومصطلح الحديث، واستفادوا من المنطلقات ومن طريقة البحث»[10].
ولهذا كلّه، لا نجد بدّاً من تبني الافتراض الذي مفاده: أنّ الخصائص كتاب في أصول النّحو تخصّص في استنباط المبادئ والتصورات العامّة التي بنى عليها النحاة العرب قواعدهم. وفي الخصائص نصوص عدّة يصرّح فيها ابن جني بالهدف المتوخّى من مؤلّفه:
يقول في أحدها: «إنّ هذا الكتاب ليس مبنيا على حديث وجوه الإعراب، وإنّما هو مقام القول على أوائل أصول هذا الكلام، وكيف بُدئ وإلام نُحي»[11].
ويقول في نص آخر: «هو كتاب يتساهم ذوو النظر: من المتكلّمين والفقهاء والمتفلسفين والنّحاة والكتّاب والمتأدّبين التأمّل له، والبحث عن مستودعه، فقد وجب أن يخاطب كل إنسان منهم بما يعتاده، ويأنس به، ليكون له سهم منه وحصّة فيه»[12].
المبحث الثاني: صلة عنوان الخصائص بموضوعه
ذكر ابن جني لفظ «الخصائص» في موضعين من كتابه:
الأول: في (خطبة الكتاب) إذ يقدّمه بقوله: هذا كتاب «من أشرف ما صُنّف في علم العرب (…) وأَجْمَعِه للأدلة على ما أُودِعَتْهُ هذه اللغة الشريفة: من خصائص الحكمة ونِيطَتْ به من علائق الإتقان والصنعة».
الثاني: في (باب تلاقي المعاني على اختلاف الأصول والمباني)[13] يقول ابن جني: «فهذا ونحوه من خصائص هذه اللغة الشريفة اللطيفة».
ولكن ما المقصود بلفظ «الخصائص» عند ابن جني؟
لقد ضلّ لفظ «الخصائص» في كتاب ابن جني يوحي بدلالات تتجاوز الأشياء المادّية الملموسة إلى ما تنطوي عليه العربية من أسرار خفيّة، وأغراض دقيقة ذات عُلْقة بقدرة الله؛ فهو حين يقدّم باب (تلاقي المعاني على اختلاف الأصول والمباني) بكونه: «ونحوه من خصائص هذه اللغة الشريفة اللطيفة» يستطرد قائلا: «وإنما يسمع الناس هذه الألفاظ فتكون الفائدة عندهم منها إنما هي علم معنيَّاتها. فأمَّا كيف ومن أين فهو ما نحن عليه».
ويمكن القول إنّ لفظ «الخصائص» –عند ابن جني- يحمل كثير من المعاني المتقاربة، ويتّسع لعدّة حمولات دلالية؛ تُفْضي في مجموعها إلى معنى واحد، ودلالة مُوحِّدة وهي: الحدود العامّة والمبادئ الكليّة؛ يدلّ على هذا قوله في (باب في أنّ العرب قد أرادت من العِلَل والأغراض ما نسبناه إليها، وحملناه عليها): «لو أحسَّتِ العَجَم بلطف صناعة العرب في هذه اللغة، وما فيها من الغموضِ والرّقة والدّقة لاعتذرت من اعترافها بلغتها (…) وذلك أنا نسأل علماء العربية ممن أصله عَجَميّ وقد تدرَّب بلغته قبل استِعرابه، عن حال اللغتين، فلا يجمع بينهما، بل لا يكاد يقبل السؤال عن ذلك؛ لبعده في نفسهِ، وتقدّم لطف العربيّة في رأيه وحِسّهِ (…) وأيضا فإن العَجَم العلماء بلغة العرب وإن لم يكونوا علماء بلغة العَجَم فإن قُوَاهم في العربيّة تؤيِّد معرفتهم بالعجميّة، وتؤنِسهم بها، وتزيد في تنبيههم على أحوالها؛ لاشتراك العلوم اللغويّة واشتباكها وتراميها إلى الغاية الجامعة لمعانيها».
والمُلاحظ أنّ ابن جني يطلق لفظ «الخصائص» ويعني به أمرين هامين:
– فهو يستعمله تارة ويعني به ما تنفرد به العربية عن غيرها من اللّغات الأخرى[14].
– ويطلقه أخرى ويعني به ما هو مشترك بين العربية وغيرها من اللّغات الأعجمية.
ويتّضح أنّ لفظ «الخصائص» أو «خصائص العربية» –عند ابن جني- يترادف مع ألفاظ أخرى تدلّ جميعها على مَعْنِيّات المفردات الآتية: الوجوه، والمعاني، والأحوال، والسّمات المميّزة، والأصول، والأسس، والدّلائل، والأسرار، والجواهر، وغيرها.
ويؤكّد أحد الدّارسين المعاصرين أنّ ابن جني قد نظر إلى اللّغة العربية باعتبارها إبداعاً؛ فهي تمتلك من الخصائص التعبيرية ما يجسد «صنعتها» و»دقّتها» و»غموضها». هذه النّعوت التي تثبت أنّ ابن جني يسعى -كذلك- إلى إظهار الخصائص الفنّية للعربية[15].
ويظهر للمتأمّل في مثل هذه الأقوال أنّ ابن جني عالم مجتهد يحاول دائماً الغوص في تفسير أسرار العربية، وشغف العرب بها وتعظيمهم لها واعتقادهم أجمل الجميل فيها[16]. ويمكن إرجاع هذا الشّغف الكامن في إحساسهم بلطف صناعتهم في هذه اللغة «وما فيها من الغموض والرقة والدقة»[17].
وتبقى اللّغة العربية التي اضطلع ابن جني باستقصاء خصائصها؛ تمتلك من الإمكانيات الجمالية ما يؤهّلها لأن تصبح ذات صفات إبداعية. يقول ابن جني في كتابه المحتسب: «وكلام العرب كثير الانحرافات ولطيف المقاصد والجهات، وأعذب ما فيه تلفته وتثنيه»[18].
وتجدر الإشارة إلى أنّ نظر ابن جني في اللّغة العربية وبحثه عن خصائصها لم يكن مجرّداً عن وصفه لها بالحكمة، «فقد اقترن تأويله لظواهر اللّغة بالكشف عن إعجابه بها.
ومن هنا كان النّزوع نحو إظهار خصائص الحكمة ووجوهها الغاية التي وجّهت ابن جني في معظم الأبواب التي عقدها في كتابه، وكان خلف جملة من المبادئ التي تنبّه لها في اللغة العربية، ومن ذلك على سبيل المثال، مبدأ الاشتقاق الأكبر، الذي يفسّر دواعي ذكره له قائلا: «فهذا أمر قدّمناه (…) ليرى منه غور هذه اللغة الشريفة، الكريمة اللّطيفة، ويعجب من وسيع مذاهبها، وبديع ما أمد به واضعها ومبتدئها»[19].
ولم يعترض ابن جني -وهو يسعى لإثبات حكمة العربية- إشكال أصل المواضعة، أهي توقيف من الله أم اصطلاح بشري، ما دام مؤمناً بحكمتها التي تُجسّد قدرة الله سبحانه وفضيلة البشر في الآن نفسه.
ولقد أدرك ابن جني أنّ هذه اللّغة التي يخوض في مسالكها تنطوي على خصائص الحكمة واللّطف والصّنعة؛ بحيث «لا يكاد يعلم بعدها ولا يحاط بقاصيها»؛ فكثير من خصائص اللغة العربية «غور (…) لا ينتصف منه ولا يكاد يحاط به»، ولذلك احتاج من يريد الغوص في بحر علمها «إلى فقاهة في النفس ونصاعة من الفكر ومساءلة خاصية»[20].
وخلاصة القول إنّ الحكمة القائمة في اللّغة لا تتجلّى إلّا للمتأمل الحاذق كما يرى ذلك ابن جني؛ فاللغة الموصوفة بالحكمة نظام ذو صنعة دقيقة يرتبط بوجود صانع مبدع يقف خلف هذا العالم الذي يواجه المتأمّل الحاذق والرّصين، ويبقى الكشف عن مظاهر الصّنعة والإبداع في اللّغة ليس إلّا وجهاً آخر لإثبات عظمة الله وحكمته في الموجودات.
وربّما أفضت مناقشة لفظي «الخصائص» و»الحكمة» على نحو ما تردّد في كتابات ابن جني، إلى نتائج تفيد في بناء تصوره لعلاقة الشّعر باللّغة، وهي القضية التي احتلّت حيّزاً مهمّاً في محاور التفكير الأسلوبي المعاصر[21].
ويظهر مما سبق تقديمه ومناقشته، أنّ غرض ابن جني الأساس هو إظهار وجوه حكمة اللغة العربية وشرفها، ويشعر قارئ الخصائص أن شغف صاحبه بالعربية ليس سوى ترجمة لإعجاب أصحاب اللّغة أنفسهم بلغتهم. يقول ابن جني: «والمروي عنهم في شغفهم بلغتهم وتعظيمهم لها واعتقادهم أجمل الجميل فيها أكثر من أن يورد أو جزءٌ من أجزاء كثيرة منه»[22].
لقد نصّب ابن جني نفسه عالماً مجتهداً، حمل على عاتقه مسؤولية تبيان مكامن هذا الشّغف وإظهار أسراره؛ فكان نتيجة ذلك أن قام ببلورة وتطوير كثير من المبادئ والأصول التي تعكس «الأدلة على ما أودعته هذه اللغة الشريفة: من خصائص الحكمة[23]، وما نيطت به من علائق الإتقان والصنعة»[24].
المبحث الثالث: أبواب الخصائص ومسائله
لعلّ نظرة متفحّصة في الخصائص تجعل الباحث يعتقد أنّه يكاد يكون مزيجاً من الأبواب النظرية والمعرفية، وأبواب أخرى عملية ومضمونية. ويمكن إجمال معظم أبواب الخصائص بالمسائل الآتية:
– مسائل عامة تتضمن البحث في ماهية اللغة ونشأتها وتفرعها وتطورها
– باب القول على اللغة وما هي (1/33-34)
– باب القول على أصل اللغة إلهام هي أم اصطلاح (1/40-48)
– باب في تركب اللغات [أي تداخلها] (1/374-391)
– باب في هذه اللغة، أفي وقت واحد وُضِعت أم تلاحق تابع منها بفارط (2/28-40)
– مسائل منهجية تتعلق بمنهج البحث في اللغة
– باب في الاحتجاج بقول المخالف (1/188-189)
– باب القول على إجماع أهل العربية متى يكون حجة (1/189-194)
– باب اختلاف اللغات وكلها حجة (2/10-12).
– باب في العربي يسمع لغة غيره، أيراعيها.. أم يلقيها.. (2/14-17)
– باب في اللغة المأخوذة قياسا (2/40-43)
– باب فيما يحكم به القياس مما لا يسوغ به النّطق (2/493-496)
– مسائل صوتية
– باب في المثلين كيف حالهما في الأصلية والزيادة (2/56-69)
– باب في الحرفين المتقاربين يستعمل أحدهما مكان صاحبه (2/82-88)
– باب في مضارعة الحروف للحركات والحركات للحروف (2/315-321)
– باب الساكن والمتحرك (2/328-342)
– باب تحريف الحرف (2/440-441)
– مسائل صرفية
– باب في قلب لفظ إلى لفظ، بالصّفة والتلطّف، لا بالإقدام والتعجرف (2/88-93)
– باب في الاشتقاق الأكبر (2/133-139)
– باب في الاشتقاق الأصغر (2/139-145)
– باب في زيادة الحرف عوضا من آخر محذوف (2/285-306)
– باب في الغرض في مسائل التصريف (2/487-488)
– مسائل نحوية
– باب القول على النحو (1/34-35)
– باب القول على الإعراب (1/35-37)
– باب القول على البناء (1/37-40)
– باب في تخصيص العلل (1/144-164)
– باب حذف الفعل (1/379-381)
– باب حذف الحرف (1/381)
– مسائل بلاغية ودلالية
– باب في بين الحقيقة والمجاز (2/338-442)
– باب في أنّ المجاز إذا كثر لحق بالحقيقة (447-457)
– باب في قوة اللفظ لقوة المعنى (2/264-269)
– باب في الدلالة اللفظية والصناعية والمعنوية (3/98-101)
ويتبيّن من خلال فهرست المادّة العلمية للخصائص تشعّب مواضيعه، وتعدّد مسالكه، فمن أبواب الكتاب ما يتّصل بالنحو واللغة، ومنها ما يتّصل بالبلاغة، ومنها ما يتّصل بالشعر ونقده، ومنها ما يتّصل بالأصوات إلى غير ذلك مما سأقف عليه عند دراستي لجوانب الكتاب.
أمّا الأبواب النظرية والمعرفية في الكتاب فهي أقرب إلى علم المناهج الذي يدرس التعريفات تعريفاً مستفيضاً، ويدرس قواعد الاستنباط وقوانين الأحكام وغيرها، وهذه الأبواب منتشرة في الكتاب، وهي الغالبة على ثلث القسم الأوّل منه.
المبحث الرابع: أسلوب ابن جني في عرض محتويات خصائصه
يمكن أن نسجّل في هذا المبحث أنّ ابن جني قد حاول قدر الإمكان إحكام عمله، فقد جاء كتابه الخصائص مركّزاً وممنهجاً في الغالب الأعمّ، ثمّ إنّه اعتمد الدقّة والضّبط والتوثيق في أسلوب كتابته؛ إذ نجده يعزو الآراء لأصحابها، ويعتمد الأسلوب التقريري.
وقد كان ابن جني ينوع من وسائل الإقناع فيجري -في أحيان كثيرة- حوارات افتراضية مُفْتعلَة مثل قوله: «وإن قال قائل»، «وإن قلت» «قيل…»، «وأما أنا فعندي…». وكأنّ ابن جني يفترض سائلاً فيجيبه، أو معترضاً فيردّ عليه، أو مجموعة من العلماء أجمعوا على فكرة ما؛ فيبارزهم هو بشخصيته العلمية المتفرّدة قائلاً: «وأما أنا فعندي..».
ويبين بعض الدّارسين المحدثين منهج ابن جني في الخصائص، وفي جميع كتبه وبحوثه بقوله: كان «يلمح الإشارة الخاطفة فيأخذها ويتبناها ويبني عليها حتى يتملكها وتعرف به، فرب عبارة أو إشارة لمحها فعقد عليها باباً أو أكثر، وأخرجها إلى الوجود فكرة واضحة محدودة المعالم، من مثل الاشتقاق الأكبر، والجوار، والتجريد… وغيرها»[25].
والمُلاحظ أنّ ابن جني يتناول مواضيع متقاربة في باب واحد، ولعلّ هذا ما جعل كتاب الخصائص ينصاع –ولو بشكل صعب- للفهم والتّحليل. وأظهر ما تميّز به ابن جني في هذا المؤلَّف هو القدرة على التّصور الشامل لموضوع بحثه، وضمّ ما تناثر من جزئياته في كليات جامعة، وقوانين ومبادئ عامة، ولعل هذا ما جعلنا نعزّز هذا المبحث بحديث عام لابن جني عن منهج الخصائص والخطوات المتّبعة فيه.
يقول ابن جني في باب (ذكر علل العربية العربيّة أكلاميّة هي أم فقهية؟): «وإنما أزيد في إيضاح هذه الفصول من هذا الكتاب لأنّه موضع الغرض: فيه تقرير الأصول، وإحكام معاقدها، والتنبيه على شرف هذه اللغة وسداد مصادرها ومواردها، وبه وبأمثاله تخرج أضغانها، وتبعج أحضانها، ولا سيما هذا السمت الذي نحن عليه، ومرزون إليه؛ فاعرفه؛ فإن أحدا لم يتكلف الكلام على علة إهمال ما أهمل، واستعمال ما استعمل. وجماع أمر القول فيه، والاستعانة على إصابة غروره ومطاويه، لزومك محجة القول بالاستثقال والاستخفاف، ولكن كيف، وعلام، ومن أين؟ باب يحتاج منك إلى تأن، وفضل بيانٍ وتأت. وقد دققت لك بابه، بل خرقت بك حجابه. ولا تستطل كلامي في هذا الفصل، أو ترين أن المقنع فيه كان دون هذا القدر؛ فإنك إذا راجعته وأنعمت تأمّله علمت أنه منبهة للحس، مشجعة للنفس»[26].
والمُلاحظ أنّ ابن جني يحاول أن يبرز –من خلال هذا النص الجامع- أهمية ما توصّل إليه من منهجية متميّزة، وما تميّز به من معرفة متفوّقة على جميع المستويات، وخاصّة ريّادته البارزة في مسألة تعليل الظّواهر اللّغوية والنّحوية والصّرفية وغيرها؛ ممّا جعله إماماً لسابقيه ومعاصريه، وحتّى لاحقيه من النّحويين واللّغويين.
ولعلّ هذا ما أكّده من احتذى حَذْوه ممّن جاء بعده أمثال: أبي البركات بن الأنباري (ت577هـ)، وجلال الدّين السيوطي (ت911هـ) اللّذان يعترفان بفضل ابن جني ويصرّحان بتقدُّمه في نطاق علم أصول النحو موضوعًا ومنهجًا ومفاهيم. يقول صاحب كتاب الإقتراح: «واعلم أنّي قد استمدْدتُ هذا الكتاب كثيراً من كتاب «الخصائص» لابن جني فإنه وضعهُ في هذا المعنى، وسمّاه أصول النحو (…) فلخّصتُ منه جميع ما يتعلق بهذا المعنى..»[27].
[1] – شعاعه: متفرقه.
[2] – الأصول عند أبي بكر بن السرّاج تعني القواعد النحوية، لا الأدلّة التي تنبني عليها القواعد.
[3] – انظر خطبة الخصائص: 1/1-3.
[4] – يقول الحسين الفتلي مبينا أهمية كتاب ابن السراج: «كانت لكتاب الأصول في النحو منزلة خاصة في نفوس النحاة وفي تاريخ النحو العربي، ولآرائه أهمية كبرى كتب لها من الذيوع والانتشار بين الدارسين ما لم يكتب إلا لقلة نادرة من المصنفات النحوية، مثل كتاب سيبويه والمقتضب لإبي العباس المبرد والتصريف لإبي عثمان المازني (…- فقد جمع ابن السراج أصول العربية وأخذ مسائل سيبويه ورتبها أحسن ترتيب (…- فقد اختصر فيه أصول العربية، وجمع مقاييسها، ونظر في دقائق سيبويه، وعول على مسائل الأخفش (…- حتى قيل: ما زال النحو مجنونا حتى عقله ابن السراج بأصوله. ولقد نسب كثير من الباحثين إلى ابن السراج أنه أول من وضع كتابا في أصول العربية». أنظر مقدمة تحقيق الحسين الفتلي لكتاب «الأصول في النحو» لأبي بكر محمد بن سهل بن السراج، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى: 1985م، ص: 21- 22.
[5] – وهبة الزحيلي: أصول الفقه الإسلامي، دار الفكر المعاصر- بيروت، الطبعة الأولى: 1986م، الجزء الأول، ص: 16-17.
[6] – انظر كتاب «إِحْكَامُ الفُصُول في أَحْكَامِ الأُصُول»، تحقيق ودراسة: الدكتور عبد الله محمد الجبُّوري، مؤسسة الرسالة-بيروت، الطبعة الأولى: 1409ه/1989م، الجزء الأول، ص: 47.
[7] – انظر كتاب أصول الجصَّاص المُسمَّى «الفُصُولُ في الأُصُولِ» للإمام أبو بكر أحمد بن علي الجصَّاص الرَّازي (ت370ه-، ضبط نصوصه وخرّج أحاديثه وعلّق عليه: الدكتور محمّد تامر، دار الكتب العلمية: بيروت- لبنان، الطبعة الأولى: 2000م، 2/198.
[8] – انظر أصول الفقه الإسلامي لوهبة الزحيلي، مرجع سابق: 1/502.
[9] – انظر الفُصُولُ في الأُصُول للجصَّاص، مرجع سابق: 2/200.
[10] – انظر ابن جني النحوي للدكتور فاضل صالح السّامرائي، مدرس في كلية التربية-جامعة بغداد، ومحاضر بكلية الدراسات الإسلامية، دار النذير للطباعة والنشر والتوزيع، ساعدت جامعة بغداد على نشره: 1389ه/1969م، ص: 141- 142.
[11] – الخصائص: 1/67.
[12] – المصدر نفسه، الصفحة نفسها.
[13] – قدّم ابن جني هذا الباب المتميّز من كتابه كالآتي: «هذا فصل من العربيَّة حَسَن كثير المنفعة قويّ الدلالة على شرف هذه اللغة. وذلك أن تجد للمعنى الواحد أسماء كثيرة، فتبحثَ عن أصل كلّ اسم منها، فتجده مُفْضِيَ المعنى إلى معنى صاحبه (…- والنَجْر، والنحت، والحتّ، والضرب، والدقّ، والنَحْز، والطبع، والخَلْق، والغَرْز، والسلق، كله التمرين على الشيء، وتلييين القوِىّ ليُصْحِب وينجذب. فأعجَبْ للطف صنع الباري سبحانه في أن طَبَع الناس على هذا، وأمكنهم من ترتيبه وتنزيله، وهداهم للتواضع عليه وتقريره (…- فهذا ونحوه من خصائص هذه اللغة الشريفة اللطيفة. وإنما يسمع الناس هذه الألفاظ فتكونُ الفائدة عندهم منها إنما هي علم معنيَّاتها. فأمَّا كيف، ومن أين فهو ما نحن عليه. وأَحْجِ به أن يكون عند كثير منهم نيّفاً لا يحتاج إليه، وفضلا غيرُه أولى منه (…- وهو باب واسع؛ وقد كتبنا منه في هذا الكتاب ما ستراه بإذن الله تعالى. وأهل اللغة يسمعون هذا فيرونه ساذجا غُفْلا، ولا يحسنون لما نحن فيه من حديثه فرعاً ولا أصلاً (…- فالتأتّي والتلطّف في جميع هذه الأشياء وضمُّها، وملائمةُ ذات بينها هو (خاصّ اللغة- وسرّها، وطلاوتها الرائقة وجوهرها. فأمّا حِفظها ساذجةً، وقمشها محطوبة هِرجة فنعوذ بالله منه، ونرغب بما أتاناه سبحانه عنه». انظر الخصائص: 2/113-125.
[14] – وإذا تساءلنا حول ما هي بعض خصائص اللغة العربية –عند ابن جني- وجدنا مسألة الرّتبة في مقدّمة هذه الخصائص؛ فالعربية كلسان تتمتّع بنوع من الحريّة في مسألة الرّتبة لأنّها تمتلك عنصر الإعراب. وتبقى هذه الحريّة في مسألة الرّتبة نسبية ومشروطة، والشّرط أو القيد الموجود هو: لكي يعمل عامل في معموله لا يجب أن يفصل بينه وبين معموله فاصل..
[15] – محمد مشبال: البلاغة والأصول، دراسة في أسس التفكير البلاغي العربي، نموذج ابن جني، أفريقيا الشرق- المغرب: 2007م، ص: 49.
[16] – الخصائص: 1/242
[17] – الخصائص: 1/242.
[18] – انظر المحتسب: 2/86. (نقلا عن البلاغة والأصول، مرجع سابق، ص: 51-
[19] – البلاغة والأصول، مرجع سابق، ص: 48.
[20] – الخصائص: 3/319. نقلا عن محمد مشبال: البلاغة والأصول، مرجع سابق، ص: 48- 49.
[21] – محمد مشبال: البلاغة والأصول، ص: 48.
[22] – الخصائص: 1/242.
[23] – وفي نفس المعنى يقول محمد مشبال:»من هنا كان النزوع نحو إظهار وجوه الحكمة، الغاية التي وجهت ابن جني في معظم الأبواب التي عقدها في كتابه «الخصائص» وكان خلف جملة من المبادئ التي تنبه لها في اللغة العربية». البلاغة والأصول، ص: 48.
[24] – انظر خطبة الخصائص: 1/1.
[25] – نقلا عن فاضل صالح السامرائي: ابن جني النحوي، دار النذير للطباعة والنشر والتوزيع- بغداد، 1969م، ص: 281. فابن جني يقول في إحدى صفحات الخصائص: «ربّ إشارة أبلغ من عبارة».
[26] – الخصائص: 1/77.
[27] – انظر الاقتراح في علم أصول النحو لجلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، تحقيق: محمد حسن إسماعيل الشافعي، دار الكتب العلمية- بيروت، الطبعة الأولى: 1998م، ص: 11.