المسؤولية الفردية، وتحمل نتائجها في أوضح صورة وأقوى عبارة (خطبة)

المسؤولية الفردية، وتحمل نتائجها في أوضح صورة وأقوى عبارة (خطبة)

الشيخ بن سالم باهشام

أستاذ العلوم الشرعية

عباد الله، إن لله ميزانا يجب اكتشافه، واستحضاره قبل فوات الأوان، وذلك عن طريق تدبر القرآن الكريم، قصد الانتفاع من خيراته وفيوضاته النورانية، لنهتدي بها في دنيانا، ونجد ثمارها في آخرتنا، فهذا كتاب الله تعالى بين أيدينا وفي صدورنا، يرشدنا إلى ميزان علام الغيوب ، ويثبت لنا في آيات كثيرة أن سعي الإنسان في هذه الحياة الدنيا يرجع عليه إيجابا أو سلبا، يقول سبحانه في سورة النساء: (وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ) [الآية (111) ]، ويقول عز وجل: في سورة الأنعام:( فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ)  [الآية(104)]، ويقول سبحانه في سورة يونس:(فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ) [يونس: 108]، ويقول سبحانه في سورة العنكبوت: (وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ) [الآية ( 6 )]، ويقول عز وجل في سورة لقمان: (وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) [الآية (12) ] ويقول سبحانه في سورة فاطر: (وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ)  [الآية (18) ]، ،ويقول سبحانه في سورة الجاثية:( مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ)  [الآية(15)]، ويقول سبحانه في سورة محمد: (وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ) [الآية (38)] ، ويقول سبحانه في سورة الفتح: (فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ) [الآية (10) ] ،

عباد الله، هذه الآيات السابقة الذكر،  هي قانون كوني إلهي؛ لا يتخلف عبر العصور، فهي تتضمن ميزان علام الغيوب، إذ توضح لنا  المسؤولية الفردية، وتحمل نتائجها في أوضح صورة وأقوى عبارة في تأكيدها.

عباد الله، بالمثال يتضح المقال، وهذا نموذج نأخذ منه العبرة، والله عز وجل يقول في محكم التنزيل في سورة الحشر: (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ ) [الحشر: 2]، عباد الله،  نشرت جريدة (معلومة) الالكترونية قصة الملياردير “عدنان خاشُقجي”، وهي كالتالي  تحت هذا العنوان “قصه إفلاس المليادير عدنان خاشُقجي”، إنه رجل الأعمال الكبير، كان أغنى رجل عربي على الإطلاق ، وكان يلقب ب ( قارون العصر )؛ كان يسكن في قصر معلق؛ عبارة عن أربعة أدوار في ناطحة سحاب . أجرى معه الصحفي الكويتي ،الجار الله، مقابلة قبل 30 سنة، وكان الصحفي مذهولاً بما رآه في بيت خاشقجي من البذخ والتقنية الحديثة السابقة لعصرها وأوانها، والتي لم ير مثلها في قصور الأمراء والملوك والرؤساء الذين قابلهم من قبل ؛ فقد كان كل شيء في بيته يعمل بالريموت .

عباد الله، كان عدنان خاشقجي تاجراً في السلاح، وله عدة صفقات أسلحة بين الدول العربية وأمريكا، مع العلم أن يخت الوليد بن طلال الحالي كان يملكه عدنان خاشقجي عام 1980م .

فعدنان خاشقجي، ملياردير سعودي، من مواليد 1935م، والده . هو الدكتور محمد خاشقجي طبيب الملك عبد العزيز آل سعود، وأخوه هو الصحفي جمال محمد خاشقجي .

تزوج عدنان بزوجته الأولى، واسمها ثريا خاشقجي ؛ وطلقها مقابل تعويض 12 مليار جنيه مصري ما يقابل 6 مليار و 835.مليون درهم مغربي، كان لديه يخت أكبر من يخت أوناسيس ، وعلى سطحه مطار يتسع لهبوط 4 طائرات ، وعدد 610 ملّاح وخادم، ومن صور البذخ والتبذير الذي كان يعيشه، أن ابنته ذات يوم  اشتهت لآيسكريم من فرنسا ، وشوكولاته من جنيف ،فأقلعت طائرته الخاصة بكامل طاقمها في رحلة لمدة 7 ساعات لجلب الآيسكريم والشوكولاته، وكل هذه الثروة والأموال الطائلة كان يبذرها على نفسه وأهله فقط، ويرفض بكل استكبار مساعدة فقير أو مسكين أو مريض أو سجين ، بل ويبخل حتى على عُمّاله الفقراء، وخدمه المحتاجين، وكان يردد عبارته الشهيرة : ( أنا لست وكيل آدم على ذريته )، وفي الأخير أفلس إفلاساً عجيباً، وأصبح فقيراً كأي إنسان مغلوب على أمره .

عباد الله، ما السبب في هذا الإفلاس، رغم هذه الثروة الخيالية؟ يقال: إنه دعا عليه رجل مغترب، كان يعمل خادماً عنده ، فاحتاج مبلغاً من المال ليرسله لأهله في بلاده لعلاج زوجته المريضة ؛ فذهب وطلب المبلغ من المليادير، كمساعدة أو سلف يتم تقسيطه من راتبه الشهري ، فوبّخهُ عدنان وأذلهُ في قصره، وطرده ليلاً شرّ طردة ؛ فقال له الخادم مقهوراً : “أسأل الله العلي العظيم أن لا يميتني حتى أراك ذليلاً تمدّ يدك للناس”، فغضب من هذه الدعوة، وقام بفصله وطرده من العمل ، ولما افتقر عدنان خاشقجي، قيّض الله له أحد رجال الأعمال الكبار في السعودية، اشترى له تذكرة سياحية من جدة للقاهرة، وأعطاه مبلغاً من المال لاستئجار شقة ، وقال له : يا عدنان؛ أنا لم أتفضل عليك، ولكن الله أمرني أن أدفع لك، وكل شهر سيأتيك مصروفك مني على بنك الراجحي . وذات يوم في القاهرة، سألته زوجته عن أسوأ لحظة مرّت به في حياته !

فحكى لها عدنان قصته مع خادمه الذي أذله وطرده فدعا عليه، كما حكى لها قصته مع رجل الأعمال الذي اشترى له تذكرة وساعده بالمال .. ثم قال : وقبل سفري للقاهرة، ذهبتُ إلى رجل الأعمال لاستلام المال الذي وعدني به ، فاتصل بأحد عامليه ليحضر لي المال ؛ فكانت أسوأ لحظة عشتها في حياتي، عندما دخل العامل الذي أعطاني المال ؛ فقد كان خادمي الذي طردته وفصلته من العمل ! ولقد نظر إليّ مذهولاً مفزوعاً، عندما رآني وكأنه لا يصدّق ما يرى ، ورأيته خرج مقهوراً وعيناه مبللة بالدموع ، هذا هو عدنان خاشقجي، أكبر أسطورة في العصر، فاعتبروا يا أولي الأبصار [بقلم عمرو أحمد، بتاريخ 26 – 7 – 2021 بتصرف].

فيا عباد الله، إن الله تعالى عندما يأمرنا بالإنفاق مما رزقنا، فإنه لا يريد منا الإحسان للآخرين فقط، وإنما يريد منا  في الأصل وبالأساس، الإحسان إلى أنفسنا، وتحصين أموالنا، وتذكيرنا بأن المال هو مال الله، وأن الرزاق هو الله، ومن كرم الله بعباده أنه يحفزهم بقرض الله قرضا حسنا في الدنيا فيقول في سورة البقرة: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً، وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [البقرة: 245].

فيا عبد الله، إذا كان المال مال الله، وأنه هو الرزاق ذو القوة المتين، فلماذا التكبر على خلق الله، وإذلالهم،  والبخل عليهم ، ألم تعلم أن نجاتك يوم القيامة مشروع شخصي، ولن تُعذر بتقصير الناس، وانحراف المشاهير والمغمورين، وخذلان الأقربين والأبعدين، فدنياك اختبار لك وحدك، فاعمل لنفسك، واجتهد لنجاتها . قصد الفوز برضا الله ودخول الجنة، بعد المثول بين يديه سبحانه  وتعالى في المحكمة الإلهية يوم القيامة، والتي عرفنا  الإسلام بقوانينها، فتعرَّف يا عبد الله عليها قبل أن تقف فيها مذلولا مخذولا:

أولا: ملفات الآخرة غير سرية: قال تعالى في سورة الإسراء🙁 وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ، وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا) [الإسراء: 13- 14]

ثانيا: يكون الحضور يوم القيامة تحت حراسة مشددة، قال تعالى في سورة ق: ( وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد) (الآية 21 سورة  ق)

ثالثا: الظلم مستحيل يوم القيامة: قال تعالى في سورة فصلت: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾.[فصلت: 46]

رابعا: ليس هناك محامٍ يدافع عنك، قال تعالى في سورة الإسراء: ﴿  وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾.[الإسراء: 13- 14]

خامسا: الرشوة والواسطة مستحيلة يوم القيامة، قال تعالى في سورة الشعراء: ﴿يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ﴾.

سادسا: لا يوجد حكم غيابي، قال تعالى في سورة يس: ﴿وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ﴾. [يس: 32]

سابعا: لا يوجد نقضٌ أو استئناف، قال تعالى في سورة ق: ﴿ قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ * مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾.[ق: 28، 29]

ثامنا: لا يوجد شهود زور، قال تعالى في سورة النور: (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ).(الآية 24 سورة النور).

تاسعا: لا توجد ملفات منسية، قال تعالى في سورة المجادلة: ( أحْصَاهُ الله ونسُوهُ ۚ ) (الآية 6 سورة المجادلة) .

عاشرا: ميزان الأعمال دقيق جدا، قال تعالى في سورة الأنبياء: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا ، وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَىٰ بِنَا حَاسبين ) (الآية 47 سورة الأنبياء).

وأخيرا  يكون استلام الحكم النهائي باليد شخصيا: قال تعالى في سورة الحاقة: ﴿ يوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ * فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ *هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ * إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ﴾.[الحاقة: 18 – 34].

عباد الله، هذه هي مواصفات المحكمة الإلهية يوم القيامة، فأعدوا للسؤال جوابا، وللفعل تبريرا، وحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واستعدوا لليوم العرض الأكبر على الله الذي لا تخفى عليه  سبحانه وتعالى خافية. أسال الله تعالى لي ولكم حسن الخاتمة والنجاة من النار. وعدم الأمن من مكر الله، آمين.