المطلوب على الساحة الدعوية، أن يكون العلماء من الشعب، وللشعب، وفي وسط الشعب، وفي خدمة الشعب وتوجيههم، وإنارة الطريق لهم، مصداقا لقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا…﴾.[1]
كذلك كان المسلمون قبل مجيء هذا الدين الإسلامي السمح. وقبل أن ينفخ الإيمان في أرواحهم فيحييها، ويطلق فيها هذه الطاقة الضخمة من الحيوية والحركة والتطلع والاستشراف. (كانت قلوبهم مواتا. وكانت أرواحهم ظلاما. ثم إذا قلوبهم ينضح عليها الإيمان فتهتز، وإذا أرواحهم يشرق فيها النور فتضيء، ويفيض منها النور فتمشي به في الناس تهدي الضال، وتلتقط الشارد، وتطمئن الخائف، وتحرر المستعبد، وتكشف معالم الطريق للبشر، وتعلن في الأرض ميلاد الإنسان الجديد. الإنسان المتحرر المستنير؛ الذي خرج بعبوديته لله وحده من عبودية العبيد.)[2]
على العالم الحق الذي هو من الشعب وإلى الشعب، أن لا يقتصر في الظهور للناس من فوق المنبر فقط، وقد تكبّر عليهم بثلاث:
– باللغة العربية أولا: والتي يخاطبهم بها وهو يعلم أنهم لم يتلقوها حتى في المدارس فضلا عن غالبية الشعب الذي يعمر المساجد، وأكثر من نصفه أمّيا. كما أنه يعلم أن اللغة العربية التي هي لغة القرآن في بلده هي لغة التأليف والعلم، وليست لغة الحوار والتواصل، والله تعالى يقول في حق الرسل جميعا وعلى آثارهم ورثة الرسول صلى الله عليه وسلم من الدعاة إلى قيام الساعة: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾.[3]
– وبالمنبر ثانيا، بحيث لا يعرفونه في أوساطهم الاجتماعية ولا يشاركهم أفراحهم ولا همومهم وآلامهم.
– ويعلو عليهم ثالثا بنفسه عندما تجده يوبخهم ويسبهم ويؤنبهم ويحمّلهم مسؤولية الفساد المستشري في البلد، وهم مطأطئو الرؤوس يحوقلون، مستثن نفسه كأنه نبي معصوم ولا علاقة له بالفساد المستشري في البلد.
أو تجد العالم من مؤتمر لآخر، ومن اجتماع لآخر، ومن قناة لأخرى، والشعب في أمس الحاجة إلى من يتغلغل فيه، ليعلّمه المعلوم من الدين بالضرورة، وحتى إذا ظهر هذا العالم للناس، ظهر من وراء الشاشة؛ وعالج مواضع لا علاقة لها بواقع الشعب ومشاكله، والحقيقة أنه (… يجب أن نعاشر الشعب بصدق حاملي الرسالة، وأدب يعلمنا إياه الإسلام، لنتخذه عنوانا عما في قلوبنا من رحمة للعالمين وراثة نبوية).[4]
لهذا فإن من الضوابط المنهاجية الدعوية؛ التي يجب على الداعية إلى الله التحلي بها ليكون من علماء الشعب، التواضع ومخالطة الناس، (من موقِعهِ في المسجد وسَط حلقة العلم والذكرِ والوعظ يُسْمِعُ رجلُ الدعوة كلمة الله إلى الإنسان. لا مِن الأعالِي النخبويَّة المغرورة. في المسجد وفي مجالس الإيمان تُشِعُّ الكلمة الحقُّ على الأسرة فتحييها، وعلى العامَّة والخاصَّةِ. ويبلُغُ المدُّ الترْبويُّ مداهُ، ويسْقُط المتعفِّن، ويقْوَى الضعيفُ، ويجتمع القرآن والسلطان بعد افتراق).[5]
لا يعرف حقيقة الواقع المعيش إلا من يعيش فيه، ويعايش أهله، هؤلاء هم الذين يعرفون شرائح مجتمعهم وما (ينشأ بيننا، مما تنتجه مدارس الفتنة وأعلامها وشارعها وأوبئتها، من أجيال عنيفة تحمل الحقد وتغذي نيات البطش. البؤس الذي زرعه حكام الجبر في الشعب، والازدراء، والظلم، تثمر جحافل من الشباب العاطل، المتوحش، المخدر. شباب اغتصبت منه إنسانيته، لم يرب على مروءة ولا خلق ولا دين. وشائج العشرة بين أفراده وعصاباته تتكون من علاقات العنف، والبذاءة في السلوك والقول، وفي الاستبداد من جانب الأقوياء، يقابلها من جانب الأصغر سنا والأضعفين الاستكانة للقوة العضلية والسفاهة الخلقية والقولية، وعدم الاعتراف إلا بقانون العنف. وتسلسل هذه العلاقات بين الأجيال صورة لما هو عليه الأمر في المجتمع الكبير المفتون.
…. سوء أدب الناس وجفاؤهم وكراهيتهم لبعضهم، ظواهر لأمراض نفسية واجتماعية وسياسية واقتصادية….. أطفالنا وشبابنا قطيع مهمل، ضاقت مدارس الفتنة عنه، أو لفظته وفشلت في تربيته وتعليمه، أو طردته. إنسانية طرحناها مع قطعان القطط فتوحشت. مستضعفون ضحية كانوا يكونون زهرة الأمة لو وجدوا عناية وكرامة يستحقها شباب كل أمة تريد الحياة والعزة. المدارس والمعاهد والكليات معتقلات في النهار تعج بالنشء المهمل في البيت لشغل الأبوين- إن لم يكن الأبناء يتامى النكبات ولقطاء الإجرام…).[6]
مع هذه الأصناف من أبناء جلدتنا الضحايا، ينبغي لعلمائنا الاهتمام بهم وصحبتهم والإجابة على تساؤلاتهم، وإذا لم يتيسر مجالستهم في المساجد المؤممة، فلا أقل من أن يفتحوا لهم قلوبهم، وبيوتهم لاحتضانهم كما احتضن الرسول صلى الله عليه وسلم شباب بلده الذين وجدوا فيه الأخ والأب والمعلم والمربي الحنون، فعزروه ونصروه وفدوه بمهجهم ومتاعهم وأهليهم.
علماء الشعب لا يحصرون الدعوة في مكان معين وزمان محدد، فالدعوة إلى الله لا زمان ولا مكان لها، علماء الشعب ساروا على هدي الرسول صلى الله عليه وسلم، فغشوا الأسواق والنوادي والمنتزهات والبيوت في المناسبات، كما غشيها سيد الدعاة عليه الصلاة والسلام. روى ربيعة بن عباد الديلي رضي الله عنه وكان جاهلياً فأسلم، قال: ( رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بصر عيني بسوق ذي المجاز يقول: يا أيها الناس قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا، ويدخل في فجاجها، والناس متقصفون عليه، فما رأيت أحداً يقول شيئاً، وهو لا يسكت، يقول: أيها الناس قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا).[7] لم تثن عزيمته صلى الله عليه وسلم محاصرة الكفار له في المسجد الحرام، بل علم أن الفضاء أرحب وأوسع فاستثمره لقول كلمة الحق والجهر بها.
علماء الشعب إذا ألفوا كتبا راعوا احتياجات الناس، وراعوا مستواهم الديني، فاختاروا لكل مقام مقال، وبسطوا خطابهم لكل الشرائح، علماء الشعب ينبغي أن يجعلوا لأنفسهم وجودا وصيتا في وسط الناس أكثر من الفنان والممثل والفكاهي والرياضي، فمن ضاق به الحال وسُدت في وجهه السبل كانوا له أطباء، يعلمون الناس دينهم، ويفرجون عنهم همومهم، وينصحونهم بالحسنى، ويبعثوا فيهم الأمل، ويبحثوا لهم عن الحلول المشروعة، فيكونوا ملاذا للشاب الشارد، والمرأة التائهة، والرجل الضال، والأسرة المفككة، علماء الشعب كلمتهم مسموعة في وسط الناس، واقتراحهم محترم، ومكانتهم مقدرة عند الكبير والشاب والصغير.
هذا الصنف من العلماء هو الذي يقمع شياطين الإنس والجن، ويدحض وساوسهم وشبهاتهم عن الناس، فالشيطان ما أشد عليه من وجود العالم، فالعالم الواحد أشد على الشيطان من ألف عابد؛ لأن العابد لنفسه، وليس عنده علم، إنما عنده عبادة فقط، وقد ترد عليه شبهات من الشيطان ولا يستطيع أن يدفعها أو يرد عليها، ولذلك فُضّل العالم على العابد كما قال – صَلىَّ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلِّمْ-: « فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ». فعالم الشعب خيره متعد، أما العابد فخيره لازم، وعالم الشعب صالح ومصلح، أما العابد فصالح فقط. رُوي عن الرسول صلى الله عليه وسلم: (فقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد)[8]
الهوامش
[1] سورة الأنعام، الآية 122. [2] سيد قطب، إبراهيم حسين الشاربي، في ظلال القرآن (المتوفى : 1385هـ)، (3/ 139). [3] سورة إبراهيم، الآية 4. [4] ياسين، الإمام عبد السلام، المنهاج النبوي تربية و تنظيما وزحفا، ص: 277. [5] ياسين، عبد السلام، حوار الماضي والمستقبل، ص: 144. [6] ياسين، عبد السلام، المنهاج النبوي تربية و تنظيما وزحفا، ص: 278. [7] أخرجه الإمام أحمد في مسنده برقم (15448)، وأخرجه ابن حبان في صحيحه، وصححه الألباني في “إرواء الغليل” برقم: ( 834 ). [8] أخرجه ابن ماجه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وفي إسناده روح بن جناح وهو ضعيف كما في التقريب، رسالة التحفة الكريمة في بيان بعض الأحاديث الموضوعة والسقيمة، مجموع فتاوى ومقالات ابن باز 26/380.