إن المسلم المتابع لحال المساجد في عصرنا يشعر بغصة عظيمة لا يستطيع أن يستسيغها مهما حاول. لأن المؤمن الصادق عندما تضيق به الدنيا، وتتجهم الحياة في وجهه بألوان الظلم والقهر والاستعباد ومصادرة الحقوق… يجد ملاذه وسكينته في بيت ربه، يطرق الباب بجبهته ويسأل بلسان حاله ومقاله، وهو يعلم يقينا أنه أمام ملك الملوك الذي يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء، لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه، بيده كل شيء ولا يعجزه شيء، فيجتهد ويلح في المسألة يقينا منه بأن مولاه يحب العبد الملحاح، ويستحي أن يرده خائبا[1].
لكن حسرته تشتد، ومرارته تتضاعف عندما يعلم أن تلك البيوت التي كان يفر إليها قد أغلقت وصد عنها ومنع من ارتيادها، وهي تشتكي إلى الله تعالى من ظلم الظالمين وإسراف المسرفين، ويزداد كمدا وهو يرى منابع النور التي تحتضن وتربي وتوجه وتوقظ الهمم وتشحذ العزائم، تهدم بالجرافات شبه الحربية أمام نظر الملايين من المسلمين ولسان حالهم يقول اللهم إنا مغلوبون فانتصر[2].
في غمرة هذه الوقائع يتذكر المسلم قول الله تعالى” وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ”[3].
اختلف العلماء في سبب نزول هذه الآية على ثلاثة أقوال:
الأول: قيل نزلت في ططوس الرومي وأصحابه من النصارى، وذلك أنهم غزوا بني إسرائيل، فقتلوا مقاتلتهم، وسبوا ذراريهم، وحرقوا التوراة، وخربوا بيت المقدس، وقذفوا فيه الجيف. وهذا قول ابن عباس في رواية الكلبي[4].
الثاني: قال قتادة: هو بختنصر وأصحابه، غزوا اليهود وخربوا بيت المقدس، وأعانتهم على ذلك النصارى من أهل الروم [5].
الثالث: قال ابن عباس في رواية عطاء : نزلت في مشركي أهل مكة ومنعهم المسلمين من ذكر الله تعالى في المسجد الحرام[6]، عام الحديبية.
وعلى أي حال “فالمراد مَنْ مَنَعَ مِنْ كل مسجد إلى يوم القيامة وهو الصحيح، لأن اللفظ عام ورد بصيغة الجمع، فتخصيصها(الآية) ببعض المساجد وبعض الأشخاص ضعيف…”[7]، لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما هو مقرر في الأصول. فالآية تتناول كل من منع من مسجد إلى يوم القيامة، أو خرب مدينة إسلام لأنها مساجد وإن لم تكن موقوفة إذ الأرض كلها مسجد لهذه الأمة[8]. وعليه فالآية تعم كل الأزمنة والأمكنة والأشخاص والمساجد مع بعض الاستثناءات المفصلة في كتب الفقه.
افتتح الله تعالى الآية باستفهام إنكاري، معناه النفي أي لا أحد أفحش ظلما ولا أجرأ على الله سبحانه وتعالى ومخالفة أمره، ممن منع عباد الله من ذكر الله وانتظار الصلاة وإقامتها وتلقي العلم النافع، والموعظة الحسنة، والاعتكاف، وتلاوة القرآن وتعليمه وتعلمه، وإظهار شعائر الإسلام وسائر أنواع الطاعات…في بيوت الله تعالى. ويكون ذلك إما بإغلاقها دون سبب مشروع أو بصد الناس عنها. وتعطيلها عن الطاعات التي وضعت لها، والمهمة التي أنيطت بها بأي وجه من الوجوه، وهذا من السعي المعنوي أو المجازي في خرابها.
أما السعي المادي أو الحسي في خرابها فيكون بهدمها ورفع بنيانها[9]، وتقويض أركانها كما يفعل الصهاينة في فلسطين وأعوانهم والمتواطئون معهم في بلاد المسلمين الأخرى وما يقع بمصر عنا ببعيد.
ثم ختم الله تعالى الآية بجزاء من يتجاسر على بيوت الله تعالى “أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ” يقول صاحب الرحاب رحمة الله عليه” فإذا كان الله قد أوعد الذين يسعون في خرابها، فما بالك في الذين خربوها؟ هؤلاء حكم الله عليهم بأحكام جاءت جزاء وفاقا، لأنهم كانوا لا يرجون حسابا، حكم عليهم بالخوف إذا دخلوا المساجد، خوف رعب وفزع، لأن الملائكة غاضبة عليهم لغضب الله عليهم، كما حكم عليهم بالخزي في الدنيا “كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ”، لأنهم خوفوا الناس وأرهبوهم ومنعوهم من بيوت الله[10]. وافسدوا المجتمع المسلم “لأن المنع من ذكر الله – تعالى – ، وإبطال شعائر المعابد التي تذكر به، وتشعر القلوب عظمته، انتهاك لحرمة الدين يفضي إلى نسيان الناس الرقيب المهيمن عليهم، فيمسون كالهمل وتفشو فيهم المنكرات والفواحش، وانتهاك الحرمات، وهضم الحقوق، وسفك الدماء… وفساد العمران ، المفضي إلى الذل والهوان ، وناهيك بظلم يحل القيود ويهدم الحدود ، ويغري الناس بالفواحش والمنكرات ، ويسهل عليهم سبل الشرور والموبقات ، وهو ظلم إبطال العبادة من المساجد ، والسعي في خراب المعابد ، إذا وقع هذا الظلم كان الحاكم الظالم مخذولا في حكمه ، والفاتح الظالم غير أمين في فتحه ، وإذا أردت تطبيق ذلك على من نسب إليهم هذا الظلم فانظر ماذا حل بالرومانيين، وماذا كانت عاقبة العرب المشركين، وبماذا انتهى عدوان الصليبيين، وكيف انقرض حزب القرامطة المجرمين[11]. وهذه عاقبة كل من سعى في خراب بيوت الله لا بد أن يناله قسطه (من الخوف والخزي والعذاب العظيم) وهذا من الآيات العظيمة، أخبر بها الباري قبل وقوعها فوقعت كما أخبر[12]. “وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ”[13].
[1] – عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ” إِنَّ اللَّهَ حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِي إِذَا رَفَعَ الرَّجُلُ إِلَيْهِ يَدَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا خَائِبَتَيْنِ “قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ وَلَمْ يَرْفَعْهُ –سنن الترمذي، كتاب الدعوات، باب في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، حديث رقم 3556. والحديث أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الصلاة باب الدعاء، حديث رقم 1488، وابن ماجة في السنن ، كتاب الدعاء باب(13) رفع اليدين في الدعاء، الحديث رقم 3865، والحاكم في المستدرك على الصحيحين، كتاب الدعاء والتكبير والتهليل والتسبيح والذكر، حديث رقم 1896، وقال “هذا صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه”. وابن حبان في صحيحه، كتاب الرقائق ، باب الأدعية، حديث رقم 887.
[2] – إشارة إلى قوله تعالى “فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ” سورة القمر الآية10.
[3] -سورة البقرة الآية 114.
[4] -أبو الحسن علي بن أحمد الواحدي النيسابوري، أسباب النزول، دار الكتاب العربي بيروت، ط 6 – 1994 ،ص41.
[5] -نفسه ص42.
[6] -نفسه ص 42.
[7] – الجامع لأحكام القرآن، محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي، د-ت، ج2 ص77. – أحكام القرآن، أبو بكر محمد بن عبد الله المعروف بابن العربي، دار الكتب العلمية، د-ت ج1، ص50.
[8]-المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، أبو محمد بن عطية الأندلسي، مطبوعات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، قطر،ط2-2007 ج1 ص 326-البحر المحيط ، محمد بن يوسف الشهير بأبي حيان الأندلسي، دار الكتب العلمية، ط1-1993، ج1 ص526-527 -تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن، الإمام محمد الأمين بن عبد الله الأرمي العلوي الهرري الشافعي . دار طوق النجاة، ط 1، 2001، ج2 ص212.
[9] -فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير، محمد بن علي بن محمد الشوكاني، المكتبة العصرية، ط 2-1998 ، الجزء1،ص 168.
[10] -في رحاب التفسير، الشيخ المجاهد عبد الحميد كشك، المكتب المصري الحديث، د ت، ج1ص228
[11] -تفسير المنار، محمد رشيد رضا، دار المنار، ط2، ط 1948، ص432-433-434 بتصرف.
[12] -تيسير الكريم المنان في تفسير كلام المنان، عبد الرحمان بن ناصر السعدي، دار السلام للنشر والتوزيع، ط2- 2002، ص56.
[13] -سورة يوسف الآية 21.