ماذا أعرف؟ (4) تبسيط المعرفة
إعداد: الأستاذ عبد الصمد الخزروني
المعرفة حاجة إنسانية (1) تبسيط المعرفة
تقديم
نلتقي مرة أخرى مع السادة القراء الأفاضل، ومع الحلقة الرابعة بعنوان: ماذا أعرف؟
هذا السؤال يبدو لي مهما جدا أن يطرحه الإنسان على نفسه أو على غيره. أما الجواب عنه فقد يختلف فيه الناس بحسب تحديدهم وتقديرهم للأولوية المعرفية عندهم. لأن المعرفة أنواع. هناك المعرفة النظرية، وهناك المعرفة العملية. هناك المعرفة الدنيوية، وهناك المعرفة الأخروية. هناك المعرفة الدينية، وهناك المعرفة الطبيعية. وعن هذه المعارف تتفرع فروع أخرى من المعرفة.
مثل: المعرفة الشرعية، المعرفة التربوية، السياسية، الاقتصادية، الفلسفية، الفنية، وغيرها. وكل معرفة نجد فيها تخصصات وأبحاثا ودراسات. فالمعرفة بحر لا شاطئ له.
بيد أن أهم ترتيب نجده عند بعض المفكرين في النظرية المعرفية لهذه المعارف أو الموضوعات، يتحدد على الشكل التالي:
1-المعرفة الإلهية.
2-فلسفة الطبيعة.
3-علم النفس.
4-علم المنطق.
5-علم الجمال.
6-علم الأخلاق.
7-فلسفة القانون.
8-علم الاجتماع.
9-فلسفة التاريخ.
حسبي في هذه الحلقة الرابعة إن شاء الله تعالى أن أجيب عن هذا السؤال: ماذا أعرف؟ انطلاقا من خلال ما أراه مناسبا من الأولوية المعرفية، التي لا يختلف فيها الكثير من الناس.
أولا: أن أعرف الله تعالى الذي خلقني. وهي المعرفة الإلهية.
ثانيا: أن أعرف الشرع الذي به أنظم حياتي. وهي المعرفة الشرعية.
ثالثا: أن أعرف الكون الذي أتحرك فيه. وهي المعرفة الكونية.
رأس المعرفة
إن معرفه الله تعالى هي رأس المعرفة كلِّها وأسماها وأفضلُها. فما دام أن الله تعالى هو الذي خلقني ورزقني وأوجدني في هذه الحياة، فمن المنطق جدا أن أحاول بكل الوسائل أن أعرفه. ثم إنه سبحانه تعالى مع هذا المنطق العقلي قد أمرني في كتابه العزيز بمعرفته. فقال سبحانه وتعالى: [وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون]. ليعبدون بمعنى ليعرفون، هكذا فسّر الكلمة سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما. وما شُرعت العبادة وهي الوسيلة الشرعية إلا لمعرفة الله تعالى. والكثير من الناس لا يعلم أن الله تعالى يُعرف، وأنه يُطلب، وأنه يُحِبّ ويُحَبّ.
كيف أعرف الله؟
يبقى السؤال الأهم هو: كيف أعرف الله تعالى من خلال مصادر المعرفة التي هي الحواس والعقل والخبر والقلب؟
أولا: الحواس: إن الله قد أكرمني بالبصر حتى أدرك به الآثار الدالة على الله تعالى وعلى عظمته وكماله وإبداعه في خلقه. وأكرمني وبالسمع حتى أسمع نداء الله تعالى للإنسان وهو يخاطبه تارة في عمومية إنسانيته بــــ “يا أيها الإنسان“. وتارة يخاطبه في خصوصية إيمانه بـــ “أيها الذين آمنوا“، وسط جماعة المؤمنين. يقول الله تعالى مؤكدا على تفعيل الحواس في العملية: [إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا].
ثانيا: العقل: فبالعقل ميّزني الله تعالى عن باقي المخلوقات، وبالعقل أفكر وأتأمل وأتدبر وأتفقه آيات الله في كونه وسننه في خلقه، أن لكل صنعة صانع، ولكل مخلوق خالق. ذات يوم جاء بعض الناس إلى الإمام الشافعي وطلبوا منه أن يذكر لهم دليلاً على وجود الله عز وجل، ففكر لحظة، ثم قال لهم: الدليل هو ورقة التوت. فتعجب الناس من هذه الإجابة وتساءلوا: كيف تكون ورقة التوت دليلاً على وجود الله؟! فقال الإمام الشافعي: “ورقة التوت طعمها واحد؛ لكن إذا أكلها دود القز أخرج حريرا، وإذا أكلها النحل أخرج عسلاً، وإذا أكلها الظبي أخرج المسك ذا الرائحة الطيبة. فمن الذي وحّد الأصل وعدد المخارج؟!”. إنه الله-سبحانه وتعالى-خالق الكون العظيم!
ثالثا: الخبر: فعن طريق الخبر أو الدليل السمعي وهو الوحي الإلهي الذي حمله إلينا الصادق المصدوق محمد صلى الله عليه وسلم (القرآن والسنه النبوية) فيه أجد ما يخبرني به الله تعالى عن نفسه من أسمائه الحسنى وصفاته العُلا التي تليق بجلاله وجماله وكماله سبحانه. ففي القرآن الكريم نجد سورا وآيات يخاطب فيه الله عز وجل نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ليقول للناس من هو الله تعالى، مثل سورة الإخلاص، يقول الله تعالى: [قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد].
وفي أواخر سورة الحشر يخبر الله تعالى عن نفسه فيقول: [هو الله الذي لا إله إلا هو، الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر، سبحان الله عما يشركون. هو الله الذي لا إله إلا هو، عالم الغيب والشهادة، هو الرحمن الرحيم. هو الله الخالق البارئ المصور، له الأسماء الحسنى، يسبح له ما في السماوات والأرض، وهو العزيز الحكيم].
أما في خبر السنة النبوية فنجد الحديث الذي ورد في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إن لله تسعة وتسعون اسما، مئة إلا واحدا. من أحصاها دخل الجنة“. يقول الله تعالى: [ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها].
المعرفة القلبية
إذا نظرنا إلى هذه المعرفة من خلال المصادر الثلاثة نجدها أنها لا تعدو أن تكون معرفة عقلية نظرية مجردة. ويبقى مصدر مهم من هذه المصادر الأربعة الذي يغفل عنه الكثير من الناس وهو القلب. وهو مصدر لا يكتفي بمعرفه الآثار فقط، ولا يكتفي بمعرفة الصفات والاسماء فقط، بل يطلب المعرفة المباشرة عن طريق نور البصيرة.
قيل لسيدنا علي كرم الله وجهه هل رأيت ربك؟ فقال: “وكيف أعبد من لا أرى”. قيل له: وكيف رأيته؟ فقال: “إن لم أره بحقيقة العيان فقد رأيته بحقيقة الإيمان”. والإيمان محله في القلب. وقيل لسيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه: هل عرفت ربك؟ فقال: “نعم! عرفت ربي بربي ولولا ربي ما عرفت ربي. العجز عن الإدراك إدراك، والبحث في ذات الله إشراك”. وعندما يأمرنا الله تعالى بالتقرب إليه وبالسير إليه وبسلوك الطريق إليه، وباقتحام العقبة إليه، فإنما ذلك يكون بالقلب. لأن الله تعالى ليس موجودا في مكان نقصده بأجسامنا. يقول الله تعالى: [يوم لا ينفع مال ولا بنون الا من اتى الله بقلب سليم]. أين أجد الله حتى آتيه؟
مواطن اللقاء
إذا بحثنا فسنجد أن هناك مواطن كثيرة أخبرنا الله تعالى بها في القرآن وأخبرنا بها رسوله في السنة لمن يريد أن يلتقي بربه وخالقه. وهي مواطن يغفل عنها الكثير من الناس تحتاج إلى المعرفة. في الأصل، الله موجود في كل مكان. لكن هذه المواطن التي نقصدها هي التي يوجد فيها الله تعالى برحمته ومغفرته ومحبته ورضاه.
أولها: مجالس الذكر: يقول الله تعالى في الحديث القدسي: “أنا جليس من ذكرني“. فإذن أُذكر الله تعالى فإذا بالله تعالى معك جليسك ومؤنسك.
ثانيها: صحبة المحسنين: يقول الله تعالى: [إن رحمة الله قريب من المحسنين]. ويقول كذلك: [إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون]. فالله تعالى مع المتقين المؤمنين المحسنين، فبمجرد أن تكون معهم وفي صحبتهم فأنت مع الله تعالى.
ثالثها: عيادة المريض: يقول الله تعالى في الحديث القدسي: “عبدي مرضت فلم تعدني؟ فيقول العبد: وكيف أعودك وأنت رب العالمين؟ فيقول له الله تعالى: مرض عبدي فلان فلم تعده، ولو عدته لو وجدتني عنده“. فإذا عُدتَ مريضا فأنت مع الله تعالى. فهو يأخذ عن عبده نعمة الصحة ليكون معه. وهو المنعم سبحانه. ولذلك دعوة المريض مستجابة.
رابعها: المساجد: يقول الله تعالى في الحديث القدسي: “من تطهّر في بيته ثم زارني في بيتي فحقّ على المزور أن يكرم زائره“. الله تعالى الكريم في بيته فمن أراده فليَزرْه في بيته الذي هو المسجد.
خامسها: الثلث الأخير من الليل: عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل: “ينزلُ ربُّنا إلى السَّماءِ الدُّنيا كلَّ لَيلةٍ فيقولُ: هَل مِن سائلٍ فأُعطيَهُ، هَل مِن مُستَغفرٍ فأغفرَ لَهُ“. فإذا قُم من الليل وكن في الموعد للقاء الله تعالى.
فإذن من خلال ما سبق نفهم أن معرفة الله هي على رأس قائمة ماذا أعرف؟ ولا يمكن لهذه المعرفة الإلهية أن تكون كاملة إلا إن تحققت بمصادر المعرفة الأربعة. وإلا بقيت معرفة مصلحية بالطلب (أعبدك لتعطيني)، وسطحية بالوراثة (إنا وجدنا آباءنا)، ومجردة بالعقل والنقل (معلومات).
إلى هنا ننهي هذه الحلقة الرابعة على أمل أن يتجدد اللقاء معكم في حلقة أخرى إن شاء الله حتى نستكمل الحديث عن “ماذا أعرف؟”.
والسلام عليكم ورحمه الله تعالى وبركاته.