منار الإسلام
موقع تربوي تعليمي أكاديمي

﴿ثُمَّ ٱسۡتَقَـٰمُوا۟﴾ – الجزء الثاني عشر – (١٠) سلسلة “نتغير لنغير” 

﴿ثُمَّ ٱسۡتَقَـٰمُوا۟﴾ - الجزء الثاني عشر - (١٠) سلسلة "نتغير لنغير" /د. فاطمة الزهراء دوقيه

0

﴿ثُمَّ ٱسۡتَقَـٰمُوا۟﴾ – الجزء الثاني عشر – (١٠) سلسلة “نتغير لنغير” 

بقلم: د. فاطمة الزهراء دوقيه

ويستمر حديث الاستقامة وما يعين عليها حتى تتغير لتغير ..

وها أنت ذا في رحاب فرصتك الذهبية للتغيير ورفع إيمانك وتفعيله، من باب الوعي والامتلاء بالمعاني والقيم التغييرية..

إنها فرصة رمضان، أعظم مدرسة من مدارس الإسلام التغييرية، شعارها:“صمْ وعِ لم تصوم”. وأول درس لوعيه يمكن صوغه في هذه العبارة: “وأجمل ما في رمضان … أنك السلطان”!!

أيها الصائم ..

ومن أَشْرَسِ أَعْدائك عَادَاتُك السَّيِّئَه *** تُصَارِعُك بِدَوْرِهَا لِأَجْلِ الْبَقَاءِ وَهِيَ قَوِيَّه.

إن الحديث هنا عن أمر اختبرته وتختبره دومًا، عن “سلطان العادة”، التي تكون بطبيعتها متحكمة، ولها قوة ذاتية، وسلطان شديد عليك؛ تُصَعِّب عليك التأقلم أو الانتقال والتغيير، فيصعُب التحكُّم فيها، إلا إذا عوَّدت نفسك على غيرها؛ أي: لا يقهر العادةَ إلا عادةٌ أخرى.

لأجل ذلك شرع لك الله تعالى أعظم وسيلة، وأقوى أداة تعينك على قهر هذا السلطان؛ فنظم لك الدورة التدريبية السنوية “صيام رمضان”، لتعلمك أعظم درس في الحياة؛ فتغرس فيك الوعي بذاتك، وأن لك قدراتٍ عجيبةً على التحمل، وأنك السلطان على عاداتك، تستطيع أن تتحكم فيها وتغيرها إن أنت تريد.

وإن صناعة التقوى مقصد هذا الصيام:﴿یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ كُتِبَ عَلَیۡكُمُ ٱلصِّیَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ﴾ البقرة:١٨٣، إنما هي صناعة لتلك القوة القاهرة لصعاب الحياة، وقهر سلاطينها جميعاً..

إن الصوم -كما وصف غارودي- هو “إيقاف طوعي للايقاع الحياتي، وتوكيد حرية الإنسان بالنسبة للـ”أنا” ولرغباتهـا”[1]. إنه يظهر قوتك وحرية إرادتك ومعنى لحياتك، فحين تنوي صوم رمضان فإنك تتخذ بإرادتك وحريتك قراراً يظهر قوتك وعزمك؛ لأنك قررت الامتناع عن عاداتك التي ألفتها، وحاجاتك الكبرى الأساس المتعلقة بشهوتي بطنك وفرجك، فتتدرب كل يوم على أن تقول لها “لا”!! ..

فإن أنت قدرت على الامتناع عنها، فإنه من باب أولى تستطيع الامتناع عما كان أقل شأنا وضغطا منها.

ما يعني أنك أقوى من رغباتك، وأنك قادر على قهر سلطان عاداتك. وقوتك هذه تربي فيه الإباء ضد الضغوط والمواقف المخالفة لمبادئك، تجعلك أبياً لا تقبل أن يستذلك أي شيء من الأشياء، فتكون بحريتك واستقلالـك.

والإنســان بهذه الصفة وهذا الحال، هو الذي يفيد مجتمعه ويتقدم بأمته؛ لأنه لا يقبل الذل، ولا الضيم لا في وطنه، ولا في دينه، ولا في عرضه، فعنده الجوع مع الحرية خير من الطعام الشهي مع فقدان الإرادة”[2].

والصوم بما هو رفض وإمساك وامتناع، هو تدريب لك على امتلاك المقدرة على إرجاء وتأخير إشباع بعض الرغائب، حتى تتفرغ لبعض المشاغل الأخرى التي تعتبرها أكثر إلحاحية في اللحظة القائمة.. إنك تتدرب على تحديد المهام المطروحة في كل لحظة، والقيام بها ولها، وإن أدى ذلك إلى تعطيل مهام أخرى …

وفي منطق الإرجاء هذا إصرار على أن تكون محكوماً بمقتضى الوعي لا بضغط الغريزة، محكوماً بسلطان الروح والعبادة، متحرراً من قيود العادة.

الصوم إذاً يتبدى مدرسةً كبيرةً لتعلم الكفاح والمقاومة والتحرر ضد الشهوات والنزوات، ومواجهة التحديات والضغوطات، وإثبات الذات والثقة فيها، والقدرة على الفكاك والتحرر من قيود وطوق العادات، وجعل زمام المبادرة الحرة الطليقة بيد الإنسان ..

فما أحوجك إلى هذه القوة وهذه التقوى، وأنت الآن تصنعها بصيامك!! فــ“صمْ وعِ لم تصوم”.

ولا تتوهمن أن اكتسابها يأتي بالتمني والأماني، أو بالغفلة والسهو، وإنما بالعمل وبذل الجهد والمكابدة والسعي، واليقظة والوعي، لأن المبدأ الرباني الأكبر في الحياة:﴿لَّیۡسَ بِأَمَانِیِّكُمۡ﴾ النساء:١٢٤، ويعدك سبحانه وتعالى بالتوفيق والسداد لما يقول:﴿وَٱلَّذِینَ جَـٰهَدُوا۟ فِینَا لَنَهۡدِیَنَّهُمۡ سُبُلَنَاۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَمَعَ ٱلۡمُحۡسِنِینَ﴾ العنكبوت:٦٩، ويقول:﴿وَٱذۡكُر رَّبَّكَ فِی نَفۡسِكَ تَضَرُّعࣰا وَخِیفَةࣰ وَدُونَ ٱلۡجَهۡرِ مِنَ ٱلۡقَوۡلِ بِٱلۡغُدُوِّ وَٱلۡـَٔاصَالِ وَلَا تَكُن مِّنَ ٱلۡغَـٰفِلِینَ﴾ الأعراف:٢٠٥.

ولا تظنن أن تحقيق ذلك متوقف على أمرك، وعلى علم وقوة من عندك … كلا!!! بل لا بد من الاستعانة بالله تعالى والإخلاص له والتوجه إليه بالدعاء بأن يعينك، وهو المعنى الذي تردده في قولك في كل صلواتك كل يوم:﴿إِیَّاكَ نَعۡبُدُ وَإِیَّاكَ نَسۡتَعِینُ﴾ الفاتحة:٥، وقد حذرك سبحانه أن تقول كما قال قارون:﴿قَالَ إِنَّمَاۤ أُوتِیتُهُۥ عَلَىٰ عِلۡمٍ عِندِیۤ أَوَلَمۡ یَعۡلَمۡ أَنَّ ٱللَّهَ قَدۡ أَهۡلَكَ مِن قَبۡلِهِۦ مِنَ ٱلۡقُرُونِ مَنۡ هُوَ أَشَدُّ مِنۡهُ قُوَّةࣰ وَأَكۡثَرُ جَمۡعࣰاۚ وَلَا یُسۡـَٔلُ عَن ذُنُوبِهِمُ ٱلۡمُجۡرِمُونَ﴾ القصص:٧٨.

وعليه .. أيها الصائم عِ..

صيامك يدربك في أيام معدودات على الاستغناء والامساك والامتناع والانقطاع، ويدربك على المقاومة والتحرر، لتكون قوياً قادراً على السيطرة عليها في سائر حياتك وزمانك …

أيها الصائم، أنت الأقوى، أنت الأقدر، أنت المتحكم، أنت السلطان على عاداتك، لاسلطان لها عليك.. فــ”أجمل ما في رمضان … أنك السلطان” !! ..

لكن استعن بالله وتوكل عليه، واسأله التوفيق والسداد والإصابة، بكل حرقة بكل إخلاص، وإذا استطعت بدمع سخي وقلب نقي ..


[1]– وعود الإسلام، روجيه غارودي، طبعة ١٩٨٥، دار الرقي، بيروت، ص ٣٥.

[2]– العبادة بناء للفرد وعطاء للمجتمع، أبو اليزيد العجمي، طبعة ٢٠١١، دار السلام، القاهرة، ص ٨٩-٩٠.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.