﴿لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ – الجزء الثاني- (٩) سلسلة “نتغير لنغير”
د.فاطمة الزهراء دوقيه
﴿لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ – الجزء الثاني- (٩) سلسلة “نتغير لنغير”
د.فاطمة الزهراء دوقيه
إن الحديث هنا عن اللبنة الثانية في تشكيل العقل الأقوم، كأول محور في عملية تزكية الإنسان حسب المنهج القرآني الذي:﴿یَهۡدِی لِلَّتِی هِیَ أَقۡوَمُ﴾ الإسراء:٩، تتعلق بذلك التحول المعرفي الذي أحدثه الإسلام في العقل المسلم، وهو”عمل في صمیم العقل من أجل تشكیله بالصیغة التي تمكنه من التعامل مع الكون والعالم والوجود، بالحجم نفسه، والطموح نفسه، الذي جاء الإسلام لكي یمنحهما الإنسان”[1].
فمنذ الافتتاح الإسلامي والعقل يشكل على حب المعرفة والتشوق لها، وذلك حين بدأ النزول بالأمر بالقراءة، كأول فريضة في بدء مسار التغيير الإنساني؛ حيث قال سبحانه:﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ یَعْلَمْ﴾ العلق:1-5، والقراءة المقصودة التي تؤدي إلى المعرفة لیست “مطلق قراءة، إنما القراءة المسؤولة، التي لا تتحرك باسم الذین یحولون المعرفة إلى انحراف بالإنسان عن الخط المستقیم، بل تتحرك باسم الله الذي:﴿خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ﴾، حتى حوله إلى خلق سوي عاقل منفتح على الحیاة كلها، باسم الرب الأكرم الذي یمنح عباده بكرمه كل خیر وبركة، ویقودهم إلى المعرفة بواسطة القلم الذي یكتب كل الوحي الذي ینزل من الله على رسله لیتعلموه ولیحفظوه، ولتحفظ المعرفة مكتوبة للأجيال”[2].
والمدهش أن هذه الآيات الأولى نزولاً تضمنت الدعوة إلى القراءة مع تكرارها مرتین، لـ”تضع أمام الإنسان عنوان الرسالة، وهي القراءة باعتبارها دليلا للمعرفة، والكتابة التي هي سر خلود المعرفة وامتدادها في ما يخط بها القلم وما أنتجه الإنسان، وما حصل عليه بالوحي من علوم، ثم تحدد له الحقيقة الإيمانية، وهي أن الله هو الذي خلق الإنسان من علق، وطور هذه القطعة الجامدة من الدم لتتحول إلى إنسان سوي عاقل مفكر مريد ينفتح على المعرفة، من خلال الحواس الخمس، والعقل الذي يتحرك في دائرتها، وأن الله هو الذي علم الإنسان ما لم يعلم … معنى ذلك أن الله يريد من الإنسان أن يختزن في وعيه أن العلم يمثل القيمة العظيمة الكبيرة التي تدل على سر قدرته، كما تدل على نعمته في حياة الإنسان الذي لا بد له أن يشكر هذه النعمة، فيحول علمه إلى خدمة الله والحياة”[3] ..
ولم یقتصر النداء إلى المعرفة على مرحلة الافتتاح والبدء، بل تواصل طوال المسيرة التغييرية، في إشارة جلية إلى أنها من مطالب الحياة الدائمة المستمرة ما طالت الحياة البشرية على الأرض، ترسيخا لهذا التوجه العقلي، وتمكينا له كواقع معاش دائم.. واقع التشوق للمعرفة والفضول للبحث عبر القراءة.
ولذا تراه یتبع سیاسة الطرق المتواصل الذي لا ينقطع، للتأكيد على أهمية العلم والمعرفة، مع ذكر الأدوات اللازمة، كما يشید بالعلماء ويمدحهم، وينزلهم مكانة مرموقة:﴿قُلْ هَلْ یَسْتَوِي الَّذِینَ یَعْلَمُونَ وَالَّذِینَ لاَ یَعْلَمُونَ إِنَّمَا یَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ الزمر:٩،﴿إِن َّمَا یَخْشَى اللهَ مِّنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ فاطر:٢٨، ﴿وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ یَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا یَذَّكَّرُ إِلاَّأُولُو الْأَلْبَابِ﴾ آل عمران:٧[4]..
إنك تجد النداء إلى العلم والمعرفة مبثوثاً في القرآن حتى لا تكاد تخلو منه صفحة، لكأن آياته منسوجة به؛ فــتراه يدعوك المرة تلو المرة: اقرأ، اعلم، اعقل، تفكر، تدبر، تفقه، تبصر، تذكر، اعتبر وانظر، وسر في الأرض الخ .. كما ويحدثك عن الحكمة، وأولي الألباب والنهى والأبصار، بل إن النسیج القرآني نفسه، ومعطیاته المعجزة، من بدئها إلى منتهاها، في مجالات العقیدة، والتشریع، والسلوك، والحقائق “العلمیة” تمثل نسقاً من المعطیات المعرفیة، كانت كفیلةً بمجرد التعامل المخلص الذكي المتبصر معها، أن تهز عقل الإنسان، وأن تفجر ینابیعه وطاقاته، وأن تخلق في تركیبه خاصیة التشوق المعرفي لكل ما یحیط به من مظاهر ووقائع وأشیاء. إنه يلح على العقل، ويضعه أمام هذا الزخم من الحض والحث على المعرفة، ويغرس فيه الفضول المعرفي بمختلف الأساليب والطرق التعبيرية، حتى لا يجد نفسه إلا وقد تمثَّل هذا التوجه، واصطبغ وارتقى به ملتزماً في ذلك بمنطق الإيمان نفسه [5] ..
وعلیه، إذا كان القرآن يبني العقل الأقوم من خلال ذلك النسق الاعتقادي التصوري الكوني، فإنه أیضا يشكله عقلاً باحثاً عن المعرفة متشوقا لها، ومتحفزاً للتفكیر والتساؤل، منفتحاً على الاستزادة من العلوم والمعارف:﴿وَقُل رَّبِّ زِدۡنِی عِلۡمࣰا﴾ طه:١١٤؛ فليس فيه ولا منه ما یشل حركته، ولا ما يجمد طاقته، بل يجعل الدعوة إلى السير في الأرض، والنظر والتأمل في الخلق، من سبل تحقيق الإيمان:﴿إِنَّ فِی خَلقِ ٱلسَّمَـٰوَ تِ وَٱلأَرضِ وَٱختِلَـٰفِ ٱلَّیلِ وَٱلنَّهَارِ لَـَٔایَـٰت لِّأُولِی ٱلأَلبَـٰبِ* ٱلَّذِینَ یَذكُرُونَ ٱللَّهَ قِیَـٰما وَقُعُودا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِم وَیَتَفَكَّرُونَ فِی خَلقِ ٱلسَّمَـٰوَ تِ وَٱلأَرضِ رَبَّنَا مَا خَلَقتَ هَـٰذَا بَـٰطِلاً سُبحَـٰنَكَ فَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ﴾ آل عمران:١٩٠-١٩١،﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ﴾ الروم:٨،﴿أَفَلَمۡ یَسِیرُوا۟ فِی ٱلۡأَرۡضِ فَتَكُونَ لَهُمۡ قُلُوبࣱ یَعۡقِلُونَ بِهَاۤ أَوۡ ءَاذَانࣱ یَسۡمَعُونَ بِهَاۖ فَإِنَّهَا لَا تَعۡمَى ٱلۡأَبۡصَـٰرُ وَلَـٰكِن تَعۡمَى ٱلۡقُلُوبُ ٱلَّتِی فِی ٱلصُّدُورِ﴾ الحج:٤٦.
وهكذا فإن القرآن الكريم ليس فحسب مصدر الدين الإسلامي الأساس، بـل هـو كذلك منبع العلوم والمعارف الإسلامية التي تشيد الحضارة بنيانها عليها، سواءً منها العلوم الدينية، أو المعارف الطبيعية والإنسانية. ولذا تجد في آيات “اقرأ” التلميح إلى خصيصة الشمول في البناء المعرفي القويم؛ حين یأمر الله تعالى بفعل قراءتین:
–الأولى: قراءة الكتاب المسطور (القرآن)، هذا المنزّل المعجِز، المتعَبَّد بتلاوته، الميسَّر لتدبره، اهتداءً به في الحياة، يتمخض عنها إنتاج علوم ‘التيسير’ نتيجة “الوعي ببنائية القرآن المجيد، وتضمنه لسنن قابلة للتعقل والإدراك، بمقتضى المواءمة التي جعلها الله بين الإنسان والقرآن”[6].
-الثانیة: قراءة الكتاب المنظور(الكون المخلوق)، -بدءا من قراءة الذات الإنسانية:﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ﴾-، وهو المتعَبَّد بالتفكر والسير فيه كشفاً لسننه وقوانينه تسخيراً لها واستثماراً لتحقيق عمارة الأرض، ومنها “النظر في الخلق، ومعرفة ما دونته البشریة من فهمٍ له، وتجارب فیه بأقلامها. فهذه القراءة – هي التي صاغ القرآن المجید بحسبها ‘دلیل الخلق ودلیل الإبداع، والتكلیف بالنظر العقليّ في الوجود، والنظر في آثار الأمم السابقة، ومعرفة ما حدث لها'”[7]. وتفيد الإنسان في إنتاج علوم ‘التسخير’ نتيجة “الوعي ببنائية الكون، وخضوعه لسنن قابلة للتعقل والإدراك، بمقتضى المواءمة التي بين الكون والإنسان”[8]، وهو الممكَّن بالقدرة على تسمية الأسماء:﴿وَعَلَّمَ ءَادَمَ ٱلۡأَسۡمَاۤءَ كُلَّهَا﴾ البقرة:٣١.
ولا تتم للعقل قراءةٌ من دون الأخرى؛ فكلاهما يدل على الآخر، ويرشد إلیه، ويفهمه ما فيه؛ إذ “الوحي ینبه إلى ما في الكون من عناصر ومؤثرات، وإلى ترابط الأسباب بالمسببات، وبین فعل الغیب في الواقع، وكیف یمكن رصد آثار هذا الفعل، وأین یبدأ الدور الإنساني، وأین ينتهي أو یتوقف، والكون یساعد على فهم الوحي والوعي علیه وعلى قضایاه، وحسن قراءته، وكیفیة استدعائه للحضور الدائم والشهود المستمر لترشید المسیرة الكونیة، وتحقیق أهداف وغایات الحق من الخلق”[9].
وبتعبیر آخر، فإن “القرآن یقود إلى الكون ویمارس دوره في الهداية فیه، ویوظفه بوجوه عدیدة، لتسخیر مكوناته، ولتوضیح قضایاه، وتأییدها، والكون أیضاً یقود إلى القرآن لیسقط أسئلته علیه، ویستعین به لإرشاد الإنسان إلى كیفیة التعامل معه، واستثمار تسخیره”[10].
تلك هي منهجية الهدي القرآني المعرفیة التي تربط عقلك بمصدرین للمعرفة، هما “الوحي والوجود، والعقل بينهما وسیلة وأداة معرفة واستنباط وحدس وإدراك، بل وتولید لأبعاد أخرى في الوقت ذاته”[11].
وهذا الجمع بما هو مسألة منهجية في المعرفة تقود إلى صياغة حضارة متميزة فريدة؛”فالذي یجمع بین القراءتین لا یستغني عن الله، لأنه یدرك دوماً افتقاره له سبحانه وتعالى، فلا يستبد ولا یبتغي علواً في الأرض ولا فساداً ولا یطغى، ولا یلحد ولا یدمر الحیاة والأحیاء، ولا یعیث في الأرض فساداً”[12].
[1]– مدخل إلى الحضارة الإسلامية، عماد الدين خليل، ص ٢٢.
[2]– من وحي القرآن، محمد حسين فضل الله، ٢٤/٣٢٧.
[3]– نفسه، ٢٤/٣٣٦.
[4]– العقل العربي وإعادة التشكيل، عبد الرحمن الطريري، كتاب الامة، العدد ٣٥، ص ٨٢.
[5]– انظر حول إعادة تشكيل العقل المسلم، عماد الدين خليل، كتاب الأمة، العدد ٤، ص ٢٢-٢٦.
[6]– الوحي والإنسان نحو استئناف التعامل المنهاجي مع الوحي، د.أحمد العبادي، ص 39.
[7]– الجمع بين القراءتين، طه جابر العلواني، ص ١٩.
[8]– الوحي والإنسان…، ص 39.
[9]– معالم المنهج القرآني، طه جابر العلواني، ص ٨٤.
[10]– الجمع بين القراءتين، ص ٢٩-٣٠.
[11]– التوحيد والتزكية والعمران، طه جابر العلواني، ص ٦٦.
[12]– الجمع بين القراءتين، ص ٣٥.