الرحمة (قصة قصيرة)
بقلم: الأستاذ مصطفى هدارين
كانت امرأة كافرة تعيش في فرنسا، و قد بلغت الثالثة والتسعين من عمرها، وكانت تخرج يوميا للتسوق، لقضاء وشراء أغراضها وحاجياتها اليومية، وكان لها إبنا عاقا، لا منفعة فيه يسبب لها المشاكل ولا يساعدها، فتعهدها رجل مسلم يقف لها يوميا ينتظرها بسيارته، ليصطحبها لخطورة الطريق، ويقضي لها أغراضها، وينتظرها حتى تنتهي من شراء كل شيء، ثم يرجعها إلى بيتها. فتعجبت من رحمة هذا الرجل المسلم لها، رغم أنها لا تعرفه ولا يعرفها، وليس بينهم أية قرابة او صداقة، ولم تعلم أنه مسلم لأن ملامحه تظهر عليه كأنه رجل فرنسي، حيث ترعرع في فرنسا و قضى حياته كلها في فرنسا، فسألته من أجبرك على فعل هذا العمل، ولماذا تقوم بخدمتي يوميا وتعرف وقت خروجي من المنزل، هل هناك من يدفع لك ثمنا مقابل هذه الخدمة فبدأت تسأله وتلح عليه لتعرف حقيقة هذا الرجل، ومن هو لأنه لم تراه قط في حياتها، ويعاملها بهذه الرحمة القلبية والرفق واللين والصبر عليها لأنها كبيرة السن، متغيرة المزاج، وحتى عائلتها لا يسألوا عنها خصوصا إبنها الكبير لأنه عاق، ولا يبالي بها رغم أنه ابنها الذي ربته وسهرت عليه، حتى أصبح رجلا فألحت السؤال على هذا الرجل المسلم، فأجابها فقال لها نعم أنا في خدمتك وهناك من يدفع لي يوميا ثمن خدمتك. فتعجبت فظنت أن ابنها استأجر لها شخصا، رغم أنها تتعجب كيف يمكن أن يفعل ابنها ذلك، لأنها تعرفه جيدا، فهو ابن عاق لا يفعل الخير، وجل تعامله قائم على العنف والقسوة والعقوق.
لكن ذات يوم أرادت ان تعرف الشخص الذي يدفع الثمن لذلك الرجل المسلم مقابل خدمتها، ففي يوم ممطر، استوقفت الرجل لأنه غطاها ببذلته من شدة المطر، فرفضت أن تذهب معه إن لم يخبرها من ذلك الرجل الذي استأجره لخدمته لها، حيث انتابها شعور أن هذا الرجل المسلم ليس بشرا بل ملك لشدة رحمته لها وأنه ليس إنسان عادي، و الحت عليه، لتعرف الحقيقة، فقال لها إنه الله، فقالت له أريد ان أذهب إليه و أراه. فذهب بها إلى أكبر المساجد في فرنسا، فبدأ يحدثها في الطريق عن الله الخالق الكبير الرحيم، ويشرح لها الإسلام، بعد صلاة العصر مباشرة وقفت أمام المسلمين فلقنها الإمام الشهادتين فنطقت بهما وأسلمت وبكت من شدة الفرح بدخولها لهذا الدين العظيم، واعتناقها الإسلام. وذكرت فضل هذا الرجل المسلم الذي رحمها وآوها وسهر على خدمتها، وأعلنت إسلامها وهي في الثلاتة والتسعين من عمرها،
وتذكرت حياتها وما كانت تفعله، خلال ثلاتة وتسعين سنة من عمرها، حيث كانت مهنتها التمريض أي ممرضة، كانت ترحم المرضى، وتسهر على خدمتهم، وترحم الناس. وبعد صلاة العشاء شعرت بآلام خفيفة، فأصابتها نوبة قلبية، فماتت. فذهبوا بها إلى مقبرة المسلمين بعد الصلاة عليها، فاعترض ابنها فأراد أن يأخد أمه إلى مقبرة النصارى، فقال لهم إذا أردتم جتثها و دفنها في مقبرة المسلمين، أريد مبلغ كبير 20000 يورو مقابل ذلك، فاجتمع جميع المسلمين في تلك البلدة الفرنسية فجمعوا لها المبلغ فسلموه له، مقابل ان يدفنوها في مقبرة المسلمين فتم لهم ذلك.
الرَّحْمَة رقَّة تقتضي الإحسان إلى الْمَرْحُومِ، ورِقَّة في النفس، تبعث على سوق الخير لمن تتعدى إليه،
وهي خلق عظيم من الأخلاق العظيمة، التي علمنا إياها رسول الله صلى عليه وسلم، قال تعالى: *وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ* والرحمة صفة من صفات الخالق عز وجل، واشتق الله من الرحمة اسم الرحمن، وورد ذكر الرحمة ومشتقاتها في القرآن الكريم في نحو ثمانية وستين ومائتي (268) موضع، وهذا دليل على أهميتها، وهي رقة في القلب، يلامسها الألم حينما تدرك بالحواس، أو يتصور الفكر وجود الألم عند شخص آخر، أو يلامسها السُّرور حينما تدرك الحواس أو تدرك بالحواس أو يتصور الفكر وجود المسرة عند الرحمة، وهي خلق عظيم من الأخلاق العظيمة التي علمنا إياها رسول الله صلى عليه وسلم ، وهي من الأخلاق التي يدعو لها ويحث عليها، قال الله تعالى : *وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ [الأعراف: 156 ـ 157]. وقال تعالى على لسان ملائكته الكرام: *رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ[غافر: 7]. وقال تعالى : *رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ* [الأنعام: 147]، ولقد قرر الله تعالى في كتابه الكريم أنّ الرحمةَ لا تزول عنه أبداً، كما قال سبحانه: *كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ** [الأنعام: 54 ]. وقد ظهرت اثارُ رحمته على خلقه، فما مِنْ أحدٍ مسلمٍ أو نصراني إلا وعليه من آثار رحمته في هذه الدنيا، ففيها يتعايشون، ويؤاخون، ويتراحمون، وفيها يتقلَّبون، لكنّها للمؤمنين خاصةً في الآخرة، لاحظّ لغير المسلمين أي الكافرين فيها.