حكم المرابحة للآمر بالشراء
د. محمد جعواني
من كتاب “الصيغ التمويلية في البنوك التشاركية، دراسة فقهية تأصيلية”،
اختلف المعاصرون في هذه الصورة المستحدثة للمرابحة على رأييـن:
الأول مجيز: ويمثله مجموعة من الفقهاء[1] أذكر منهم:
الشيخ القرضاوي[2] والدكتور أحمد السالوس[3] والدكتور سامي حمود[4] والدكتور الصديق محمد الأميـن الضريـر[5] والدكتور عبد الستار أبو غدة.[6]
واختار هذا الرأي مجمع الفقه الإسلامي في دورة مؤتمره الخامس بالكويت حيث قرر: «أن بيع المرابحة للآمر بالشراء إذا وقع على سلعة بعد دخولها في ملك المأمور وحصول القبض المطلوب شرعا، هو بيع جائز، طالما كانت تقع على المأمور مسؤولية التلف قبل التسليم، وتبعة الرد بالعيب الخفي ونحوه من موجبات الرد بعد التسليم وتوافرت شروط البيع وانتفت موانعه.[7]
واستدل المجيزون بجملة أدلة منها:[8]
– الأصل في المعاملات الإباحة: فتكون كل معاملة مباحة حتى يـرد المنع من الشارع، ولا تَحْرُم معاملة إلا إذا ثبت النص الصحيح الصريح على حظرها، أو ظهرت مخالفتها لكليات الشريعة وقواعدها المعتبـرة.
– عموم حلية البيع إلا ما استثني: فقد ورد في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم نصوص دالة على حل جميع أنواع البيع إلا ما استثناه الدليل الخاص. ومن ذلك قول الله تعالى: ﴿وأَحَل اللهُ البَيْعَ وحَرمَ الربَا﴾ [البقرة، 274] قال القرطبي: «هذا من عموم القرآن والألف واللام للجنس لا للعهد… وإذا ثبت أن البيع عام فهو مخصص بما ذكرنا من الربا وغيـر ذلك مما نهى عنه ومنع العقد عليه، كالخمر والميتة…»[9].
– فقه المعاملات مبني على مراعاة العلل والمصالح:
الأصل في المعاملات هو التعليل بالمصالح والمفاسد، وحيثما وجد شرع الله فثم مصلحة، وحيثما وجدت المصلحة فثم شرع الله، وأن أحكام المعاملات تدور مع حكمها وغاياتها وجودا وعدما.
– قياس «المرابحة للآمر بالشراء» على «الاستصناع» عند الحنفية.
– ما ورد عن الأئمة من نصوص:
فالإمام الشافعي يقول في «الأم»: «وإذا أرى الرجلُ الرجلَ السلعة فقال: اشتر هذه وأربحك فيها كذا، فاشتراها الرجل، فالشراء جائز. والذي قال أربحك فيها بالخيار، إن شاء أحدث فيها بيعا وإن شاء تركه. وهكذا إن قال اشتر لي متاعا ووصفه له، أو متاعا أي متاع شئت وأنا أربحك فيه فكل هذا سواء يجوز البيع الأول ويكون فيما أعطى من نفسه بالخيار. وسواء في هذا ما وصفت إن كان قال: أبتاعه واشتريه منك بنقد أو ديـن، يجوز البيع الأول ويكونان بالخيار في البيع الآخر، فإن جدداه جاز».[10]
– وقال محمد بن الحسن الشيباني: «قلت: أرأيتَ رجلا أمرَ رجلا أن يشتري دارا بألف درهم، وأخبره أنه إن فعل اشتراها الآمِر بألف درهم ومائة درهم فأراد المأمور شراء الدار، ثم خاف إن اشتراها أن يبدو للآمر فلا يأخذها… كيف الحيلة في ذلك؟ قال: يشتري المأمور فيقول له: قد أخذت منك هذه الدار بألف درهم ومائة درهم، فيقول له المأمور: هي لك بذلك، فيكون ذلك للآمر لازما، ويكون استيجابا من المأمور للمشتري».[11]
– وقال ابن القيم: «رجل قال لغيـره: اشتر هذه الدار، أو هذه السلعة من فلان بكذا وكذا وأنا أربحك فيها كذا وكذا، فخاف إن اشتراها أن يبدو للآمر فلا يـريدها ولا يتمكن من الرد، فالحيلة أن يشتريها على أنه بالخيار ثلاثة أيام أو أكثـر ثم يقول للآمر: قد اشتريتها بما ذكرت، فإن أخذها منه وإلا تمكن من ردها على البائع بالخيار. فإن لم يشترها الآمر إلا بالخيار فالحيلة أن يشترط له خيارا أنقص من مدة الخيار التي اشترطها هو على البائع، ليتسع له زمن الرد إن ردت عليه».[12]
الرأي الثاني: مال أصحابه إلى المنع، ومن القائليـن به:
الدكتور محمد سليمان الأشقر[13] والدكتور بكر أبو زيد[14] والدكتور رفيق المصري[15] وغيـرهم.
واستدل المانعون بجملة أدلة، أبرزها:[16]
– أنه من باب البيع المعلق المنهي عنه.
– أنه من باب بيع الإنسان ما لا يملك، أو بيع الإنسان ما ليس عنده.
– أنه من باب الحيلة على الإقراض بالربا.
– أنه من باب العيـنة المنهي عنها.
– أنه من باب بيع الكالئ بالكالئ المنهي عنه.
– أنه يدخل في بيعتيـن في بيعة.
وناقش المجيزون أدلة المانعيـن وحججهم وأجابوا عنها بِكون بعضها ضعيفا لا يـرقى للاحتجاج به، وبعضها الآخر بعيدا عن صورة وحقيقة بيع المرابحة للآمر بالشراء ولا يـنطبق عليها.
وقد استقر الأمر على العمل بعقد المرابحة في البنوك الإسلامية، بل أصبحت المرابحة تستحوذ على جل تعاملاتها، نظرا لقلة المخاطرة في هذا العقد.
ومع هذا تتعالى كثيـر من الأصوات من داخل حقل المصرفية الإسلامية منادية بالتقليل من المرابحة، والإكثار من الصيغ التمويلية الأخرى كالسلم والمشاركات والمضاربة، لما تحققه تلك الصيغ من إضافات نوعية في النشاط الاقتصادي على الأفراد والمؤسسات والمجتمع والدولة.
من كتاب “الصيغ التمويلية في البنوك التشاركية، دراسة فقهية تأصيلية”،
[1]– انظر: مجلة مجمع الفقه الإسلامي، العدد الخامس، الجزء الثاني.
[2]– انظر: بيع المرابحة للآمر بالشراء كما تجريه المصارف الإسلامية، يوسف القرضاوي.
[3]– انظر: علي السالوس، المرابحة للآمر بالشراء، مجلة مجمع الفقه الإسلامي.ع5 الجزء 2.
[4]– في كتابه «تطويـر الأعمال المصرفية» ص430
[5]– الصديق الأميـن، المرابحة للآمر بالشراء، مجلة مجمع الفقه الإسلامي.ع 5 الجزء 2.
[6]– عبد الستار أبو غدة، أسلوب المرابحة والجوانب الشرعية، المصدر نفسه.ع5 الجزء 2.
[7]– مجلة مجمع الفقه الإسلامي، العدد الخامس، الجزء 2 ص 753 و ص965
[8]– انظر: بيع المرابحة للقرضاوي ص13- 18
[9]– القرطبي، الجامع لأحكام القرآن 3/356 دار إحياء التراث العربي، بيـروت1405ه
[10]– محمد بن إدريس الشافعي، الأم 3/39، دار المعرفة – بيـروت، ط 2، 1393هـ
[11]– محمد بن الحسن الشيباني، المخارج في الحيل ص40، مكتبة الثقافة الديـنية، 1419هـ
[12]– إعلام الموقعيـن 4/29
[13]– في كتابه «بيع المرابحة كما تجريه المصارف الإسلامية».
[14]– في بحثه «المرابحة للآمر بالشراء»، منشور بمجلة مجمع الفقه الإسلامي، عدد5 ج2
[15]– في بحثه «بيع المرابحة» منشور بمجلة مجمع الفقه الإسلامي عدد5 ج2
[16]– بيع المرابحة للأشقر ص 7- 8