رد العامية المغربية إلى الأصل (1)
رشيد بن اعمر
تعد اللغة العامية ظاهرة لغوية إجتماعية لما لها من خصائصَ تميزها، يستعملها أفراد المجتمع في الحياة اليومية تعبيرا عن حاجاتهم ومتطلباتهم الحياتية، فهي تستعمل في الحل والترحال وفي البيت والمدرسة والسوق وغيرها… ما العامية إذن؟ وما علاقتها باللغة الفصحى؟
1.مدخل مصطلحي:
العامية لغة:
جاء في معجم العين ما يلي: ” العُميةُ : الضًلالة، وفي لغة عمية، والاعتماءُ: الاختيار، والمعامي : الأرض المجهولة[1] و في مقاييس اللغة :”عمًنا هذا الأمر يعُمنا عموما، إذا أصاب القوم أجمعين، والعامة ضد الخاصة، يقال فلان ذو عُمية : أي أنه يعمُ بنصره أصحابه لا يُخصَ، ويقال: عمم اللبنُ:أرغى”[2] .
العامية اصطلاحا:
يعرف الطناحي العامية بقوله :”هي التي يمارسها الحرفيون والصناع والباعة، ونلجأ إليها أحيانا حين نتعامل مع هذه الفئات، وهذه اللغة ينبغي أن تظل في دائرتها المحدودة لغة تعامل مع هذه الفئات وقضاء مصالح فقط، لا يحتفل بها ولا يلتفت إليها”[3] . وعرفها تعريفها أحمد رضا في قاموسه إذ يقول : “تلك اللغة التي نتخاطب بها في كل يوم عمًا يعرض لنا من شؤون حياتنا مهما اختلفت أقدارنا ومنازلنا، فهي لسان المتعلمين وغير المتعلمين، على اختلاف فئاتهم وحرفهم” [4] .
نستنتج من كل ما سبق أن العامية لغة تواصل يتشارك فيها المثقف والعامي.
2.علاقة اللهجة العربية بلغة الضاد:
ظلت اللهجات تعيش إلى جانب العربية، منذ زمن بعيد، فالعربية كانت لغة أدب وشعر وفصاحة بينما كانت اللهجات لغة محلية (لغة تميم، لغة ربيعة…) فوجود لهجات إلى جانب اللغة ظاهرة طبيعية، تعرفها الحياة في وجود لغة عليا للفكر والأدب والثقاقة ، ولهجات محليات التعامل[5] .ومهما يكن من اقتدار هذه اللغة العليا على تطويع ألسنة الشعوب، فقد خضعت لمؤثرات صوتية وعوامل إقليمية وميراث لغوي، يختلف من قطر لقطر، وعاشت هذه اللهجات زمنا لغة تعامل شعبي وتفاهم محلي، لم تجرُؤ على الفصحى التي بقيت لغة الأمة دينا ودولة، ومناط وحدتها الذوقية الوجدانية، واللغة العليا للتعليم والتأليف والثقافة والحضارة .
إذن ما سبب نشوب الخلاف بين الدارجة والعربية ؟
لقد استغل دعاة الاحتلال الغربي هذه الظاهرة ليحاربوا الفصحى ، ووجدوا اختلاف اللهجات الإقليمية ذريعة للقضاء على اللغة الواحدة المشتركة، التي تربط المشرق والمغرب بأواصر التفاهم والتجاوب، وتجعل من أقطار وطننا الكبير وحدة فكرية ومزاجية ، داعين إلى إحلال العاميات محل الفصحى، مشيدين بأهمية العاميات واللهجات المتفرقة عنها، وكانوا معها في غاية الكرم والسخاء والتشجيع، ضاربين المثل دائما بقصة اللاتينية وما جرى لها مع اللغات الرومانية المتفرعة ، فجاءت الأفكار تترى من قبيل: ” تدريس العلوم بالدراجة ،تدريج العلوم، العربية لغة لاتساير العصر، وإحلال العامية محل الفصحى في الكتابة والتأليف”.
وفي غشية النقع المثار، تتعذر الرؤية على كثير منا فيغيب عنه أن حياتنا اللغوية عرفت هذه الظاهرة منذ القدم، ويعرفها عصرنا في لغات الشرق والغرب. وتتعقد بهذا أزمتنا اللغوية، فيميل بعضنا إلى التخفيف من قيود الفصحى ويجد العامية حرية وانطلاقا، ويشتد الآخرون فينبذون في كتابهم كل ما يجري على ألسنة العوام بدعوى الابتذال، ويرصدون للأقلام يحصون أخطاء قد يكون لها وجه من الصواب [6]،من حيث لايمكن، أو لا نملك ، أن نتخلى عن لساننا القومي أو أن نفرط في فصحانا والتي بها نعبد ربنا ونقرأ وجودنا ونسعى إلى رقينا الثقافي والفكري، لانستطيع أن نلغي العامية المحلية التي يفرضها الواقع التاريخي وسنن حتمية لامفر منها. بل نسعى إلى رد ما يملك وجها من وجوه العربية إلى أصله و حظيرته العربية .
3. رد العاميّ المغربي إلى أصله:
أُحْ: صوت الساعل أو المتوجع. وأصلها : الأَحُّ :، جاء في اللغة :” الأحُّ: الزَّحِيرُ فِي التَّنَفُّسِ. قال رؤبة بن العجّاج[7] :
قَدْ كَادَ مِنْ نَحْنَحَةٍ وَأَحِّ يَحْكِي سُعَالَ الشَّرِقِ الأَبَحِّ
كما يقولون: قحّ “بالقاف” وهي من القحقحة التي هي صوت القرد قيلت لتردد الصوت في الحلق.
اِخْخ(بنطق الخاء ساكنة): وهي التأفف والتوجع من شيء مؤذ كالروائح الكريهة ونحوها، قال الخليل (رحمه الله تعالى): أخ ـ بشد الخاءـ يُتوجع بها عند التوجع من شيء، وأصلها فارسية[8].
أرا: يقولون: أرا هذا : ناولني هذا، وفي الحديث النبوي:”يابنية، أرِيْني وضوءا” [9] .
أًس: تقال للفرس الذي لم يألف بعد الركوب والاقتراب منه فيخضع ويلين، ومثل ذلك في اللغة[10].
إييه: هذه اللفظة تستعمل عند العوام المغاربة بمعنى: نعم، وكذلك لطلب الاستزادة والاسترسال في الحديث، وهي لفظة فصيحة غيرتها العامة فأصلها إيهٍ التي تعني كلمة استزادة واستنطاق[11] .
البالة: الحزمة التي يوضع فيها متاع البيت من أغطية أو الحزمة من التبن. وتسمى كذلك “الصاكة” ترجمة للكلمة الفرنسية ” sac” والتي تقابلها كلمة “كيس”ثم قاموا بتأنيثها، جاء في اللسان: البالة: الجراب ضخما كان أم صغيرا ، وفي كتاب العشرات في غريب اللغة لأبي عمر الزاهد (ت 345 ه)” والبال جمع بالة، وهو الجراب الضخمة” وذكر الأستاذ عبد العزيز بن عبد الله في: تطور الفكر واللغة أن الجاحظ قد استعمل الكلمة في البيان والتبين.
البْحِيرَةُ: يطلق المغاربة “لبْحيرة “على مزرعة الخضر والفواكه، و تجدر الإشارة إلى أن هذه اللفظة تطلق منذ عهد المرابطين (ق 5ه) ، فقد ذكرها صاحب الكامل حين تحدث عن الواقعة التي كانت بين الموحدين والمرابطين سنة (524ه) وفيها كانت نهاية المرابطين، يقول: “فلما رأى المصامدةُ كثرة المرابطين وقوتهم أسندوا ظهورهم إلى بستان كبير هناك، والبستان يسمى عندهم: البحيرة ، فلهذا قيل: وقعة البحيرة، وعام البحيرة” . وفي اللغة: “البَحيرة: الناقة أو الشاة التي كان العرب يشقون آذانها، ويتركونها لاتركب ولاتذبح، ولا تمنع من ماء أو مرعى. وهي المذكورة في سورة المائدة الآية 103 من قوله تعالى: “مَا جَعَلَ اللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ” ، فقد استُعملت مجازا ، فوفرة اللبن والشحم والولد تقابله وفرة الثمار والظلال.
بْحَالْ: مثل، فالكلمة تتكوّن من الباء و “حال”، وأصلها: بِحَالِ. جاء في القاموس:”الحال: صفة الشيء وهيأته” [12].
بَحْلَقَ: تطلق الدارجة المغربية هذا الفعل على: من فتح عينيه ووسعهما. فأصل الكلمة: حملق ، فقد قلبت الكلمة فقدمت الميم فصارت محلق ثم أبدلت الميم باء فصارت بَحْلَقَ. وأمثال هذا القلب معروف في اللغة فمثلا قولهم: “غبار ساطل وطالس؛أي مرتفع “[13]
ابْدَعْ(بتسكين الباء): بدعَ الطفلُ قرص الخبز، إذا كان أول من أخذ منه شيئا. والأصل: بَدَعَ، جاء في اللغة:” بَدَعَ الشيءَ يبدَعُه، وابْتَدَعَهُ : أنشأه أول مرة”[14].
بَعَجْه (بتسكين الجيم): شقه، ومنه شق البطن ، جاء في قولهم ” بعج الذئب بطن الشاة “بقرهُ، وفي اللغة: “بعج البطن بعجا: شقه فبرزت أحشاؤه” . وذكر ابن سلام الجمحي في طبقات فحول شعرائه ، أن أبا إسحاق الحضرمي:”كان أول من بَعَجَ النَّحوَ ومَدَّ القياس والعلل”.
لبَرَدْعَةُ (بتسكين اللام، فالعامية تبدأ بساكن عكس العربية): مَا يُوضَعُ على ظَهْر الدَّابَّةِ لِتُرْكبَ، كَالسَّرْجِ لِلْفَرَسِ، والأصل : البَرْدَعَة ، قَالَ لِلنَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام وَهُوَ يَرُدُّ كُبَّةً مِنْ شَعَرٍ أَخَذَهَا مِنَ الغَنِيمَةِ يَوْمَ حُنَيْنٍ: “إِنِّي أَخَذْتُ هَذِهِ أُصْلِحُ بِهَا بَرْدَعَةَ بَعِيرٍ لِي دَبِر[15].
وفي الختام أؤكد ضرورة العودة إلى العامية ـ لا حبا فيهاـ بل اعتمادها وسيلة لفهم العربية ، والتقرب أكثر من لغة القرآن الكريم ، بعد إقامة أوَدِها وإرجاعها إلى المنبع الصافي.
[1] العين للخليل بن أحمد الفراهيدي، تحقيق: عبد الحميد الهنداوي، دار الكتب العلمية، بيروت لبنان، ط1، (1424ه، 2002م )، مادة (ع م ي).
[2] المقاييس اللغة، ابن فارس ، تح: عبد السلام محمد هارون ( ت390ه)، دار الفكر العربي للطباعة والنشر والتوزيع، الجزء 4، دط، دت، ص18.
[3] في سبيل العربية، محمود محمد الطناحي، تحرير وتع: أحمد عبد الرحيم، تقديم: حسن الشافعي، أروقة للدراسات والنشر( 1355-1419ه)
( 1935- 1999 م ) ص318-319.
[4] رد العامي إلى الفصيح، أحمد رضا، دار الرائد العربي، بيروت، ط2، 1981م، ص5.
[5] لغتنا والحياة ، عائشة عبد الرحمان، دار المعارف. ط2،1971 ص 95.
[6] لغتنا والحياة ، ص 126.
[7] شرح ديوان رؤبة بن العجاج بن العجاج : عالم لُغوي قديم، تح: ضاحي عبد الباقي وآخرين، 2008-2011م، 3/ 274 .
[8] العين، الخليل بن أحمد الفراهيدي، مادة (أ خ خ)
[9] مسند الإمام أحمد ، أحمد بن حنبل ، تح: شعيب الأرنؤوط وآخرين، الرسالة، بيروت، 1995م ، 4/ 486، رقم الحديث: 2762.
[10] العين ، مادة (أ س س)
[11] لسان العرب، مادة (أ.ي.ه)
[12] القاموس المحيط، الفيروزأبادي، مادة (ح.و.ل)
[13] قاموس رد العامي إلى الفصيح، ص 30.
[14] اللسان العرب ، لابن منظور، مادة (ب.د.ع).
[15] مسند الإمام أحمد 11/ 43 رقم الحديث: 6729.