منار الإسلام
موقع تربوي تعليمي أكاديمي

الإمام أبو الحسن القابسي

الإمام أبو الحسن القابسي/ ذ. ربيع حمو

0

الإمام أبو الحسن القابسي

بقلم: ذ. ربيع حمو

 

نشر بمجلة النــداء التربـوي، العدد 16-17، السنة العاشرة 1429 هـ-2008،

الصفحات من 132 إلى 140

لقد كانت عناية علماء الأمة الإسلامية – في شتى أنواع العلوم- بالغة بالفكر التربوي نظرا لما كانوا يستشعرون من مسؤولية تجاه أبناء الأمة وتجلى ذلك فيما خصوا به هذا الجانب من التأليف، فمنهم من عقد لآداب التعلم وأحكامه بابا في كتاب فقهي، ومنهم من اختصه بمصنف خاص، ومن أوائل من صنف في هذا الباب فقهاء الغرب الإسلامي المالكية الذين كانت لهم الريادة وسبق التأليف في هذا الباب فبعد ابن سحنون 1  (ت: 256هـ) نجد الإمام

القابسي من خلال رسالة له في التربية والتعليم سماها: الرسالة المفصلة لأحوال المتعلمين وأحكام المعلمين والمتعلمين، وسأحاول في هذا المقال أن أسلط الضوء على هذا المؤلف وصاحبه.

و تتجلى أهمية البحث في فكر الإمام القابسي التربوي في:

-استمرار التصور الفقهي للمسألة التربوية وثبات سلطته رغم ما عرفته المنطقة من تحولات وما شهدته من عوامل التغيير والتنوع. تتجلى بالأساس في قيام الدولة الفاطمية التي استجلبت معها المذهب الشيعي وحملت الناس على اتباعه واضطهدت المذهب المالكي، مما جعل فقهاء القيروان المالكية يتصدون لهذا الأمر بالتعليم والمناظرة وقوة الحجة.

– وعي الإمام القابسي بضرورة فقه للتربية والتعليم حتى يتواصل ارتباط الأمة بدينها صافيا نقيا.

– إن العادة قد جرت على أن يتمّ التصدي لمثل هذا الموضوع من لدن أهل الفكر والفلسفة لا من قبل الفقهاء ورجال الأحكام. مما يجعلنا إزاء مدرسة أو تيار خاص، نرى أنّه من المفيد أن ندرك طبـيعة منطلقاته وكيفــية تعامله مع هذا الجانب.

– استمرار التراتيب والعادات التربوية والبرامج التعليمية التي أقرّتها رسالة القابسي إلى زمن قريب في ما نعرف من العالم الإسلامي، خصوصا في معاهد التعليم العتيق.

أولا: التعريف بالإمام القابسي 2

– اسمه ونسبه وعلمه:

هو أبو الحسن علي بن محمد بن خلف المعافري من أهل القيروان ولد سنة 324هـ وكان واسع الرواية عالماً بالحديث وعلله ورجاله، فقيهاً أصولياً متكلماً مؤلفاً مجيداً. وكان أعمى لا يرى شيئاً وهو مع ذلك من أصح الناس كتباً وأجودها ضبطاً وتقييداً. وقد كان من الصالحين المتقين الزاهدين الخائفين، ورغم سعة علمه كان شديد الورع في الفتيا فقد ذكر ابن سعدون أن أبا الحسن لما جلس للناس وعزم عليه في الفتوى تأبّى وسدّ بابه دون الناس، فقال لهم أبو القاسم ابن شبلون اكسروا عليه بابه لأنه قد وجب عليه فرض الفتيا، هو أعلم من بقي بالقيروان، فلما رأى ذلك خرج إليهم ينشد:

لعمر أبيك ما نُسب المعلى … الى كرم وفي الدنيا كريم

ولكن البـلاد إذا اقشعــرّت … وصوّح نبتُـها رُعِـي الهشيـم

ثم أضاف قائلا: “أنا والله ذلك الهشيم أنا والله ذلك الهشيم فبكى وأبكى”.

قال حاتم الطرابلسي صاحبه: كان أبو الحسن فقيهاً عالماً محدثاً ورعاً متقللاً من الدنيا، لم أرَ أحداً ممن يشار إليه بالقيروان بعلم إلا وقد جاء اسمه عنده وأخذ عنه، يعترف الجميع بحقه ولا ينكر فضله، بل إن شيخه الإبياني تفرس فيه نبوغه فقال له: والله لتضربن إليك إباط الإبل من أقصى المغرب. وحقا تفقه عليه عدد كبير من أهل المغرب الأقصى والأندلس وكان أثره واضحا فيهم متحققا، فقد كان من بين تلاميذه أبو عمران الفاسي الذي رحل إليه من الجنوب المغربي ” وجاج بن زلو اللمطي” لطلب العلم، وبعد عودته من طلب العلم أسس مدرسة للفقه المالكي بسوس، وسيتخرج على يديه عبد الله بن ياسين الذي انتدبه للتوجه إلى الصحراء مع الأمير يحيى بن إبراهيم للدعوة ولإصلاح ما فسد من عقيدة الناس وأخلاقهم، فانتهت هذه الدعوة إلى تأسيس دولة المرابطين التي جمعت شمل المغرب تحت راية الإسلام من جديد.

– مؤلفاته رحمه الله:

لأبي الحسن تواليف بديعة مفيدة منها: المهذب في الفقه، وأحكام الديانة، وكتاب المنقذ من شبه التأويل، وكتابه المنبه للفطن من غوائل الفتن، والرسالة المعظمة لأحوال المتقين، والرسالة المفصلة لأحكام المتعلمين والمعلمين، وكتاب الاعتقادات، وكتاب مناسك الحج، وكتاب الذكر والدعاء، ورسالة كشف المقالة في التوبة، وكتاب ملخص الموطأ، وكتاب رتب العلم وأحوال أهله، وكتاب أحمية الحصون، ورسالة تزكية الشهود وتجريحهم، ورسالة في الورع.

– مواقفه:

كانت للإمام القابسي مواقف قوية كثيرة لا يتسع المجال لذكرها فقد كان لا يخاف في قول الحق لومة لائم، ومن بين تلك المواقف ما أورده القاضي عياض في ترتيب المدارك من أنه كان بالمهدية نصراني ابن أخ لخاصة باديس صاحب القيروان فافتض هذا النصراني صبية شريفة، فلما سمعت بذلك العامة رجعوا إليه فقتلوه، وبلغ ذلك باديس فعظم ذلك عليه، وأرسل قائداً بعسكر إلى المهدية، وقال لهم: اقتلوا من هو قد السيف الى فوق، وبلغ ذلك أبا الحسن، فدخل المحراب وأقبل على الدعاء في كشف هذا، فلما وصل القائد الى قصر مسور قرب المهدية بات فيه فقام بالليل وهو سكران يمشي على السطح فمشى في الهواء وسقط على رأسه وانتثر دماغه، وجاء الخبر إلى باديس بذلك، وأعلم بدعاء الشيخ أبي الحسن فرعب لذلك، وقال لابن أبي العرب وكبراء رجاله: تمشون للشيخ. فلما ضربوا عليه بابه وأعلم بهم، قال: تمضون للجامع حتى يأتيكم العلماء – ولم يدخلهم داره – ووجه إلى أصحابه أبي بكر ابن عبد الرحمن، وأبي عمران الفاسي، وأبي القاسم ابن الكاتب، وأبي محمد اللوبي، وأبي عمرو ابن العتاب، والخواص، وابن سفيان، وأبي عبد الله المالكي، ومكي الفارسي، وابن الأجدابي، والربعي، وابن سمحان، وغيرهم، وأملى عليهم رسالة فيها: بسم الله الرحمن الرحيم بالله أستعين، وعليه أتوكل. الغوث الغوث الغوث بما حلّ بالمسلمين من الافتئات عليهم، … كيف يحل لمن يعتقد الإسلام أن يقوم في دم كافر اغتصب صبية من سلالة المصطفى صلى الله عليه وسلم؟ لو انطبقت السماوات والأرض من أجل هذا الفعل كان قليلاً. وهي رسالة طويلة. وقال لأصحابه إذا وصلتم الى الجامع فليقرأها واحد منكم على المنبر ممن له صوت. ففعلوا ذلك فجعل القواد يقول بعضهم لبعض والله ما السلطان إلا هذا الشيخ.

– وفاته:

توفي أبو الحسن بالقيروان سنة 403 هـ- 1012 م، ودفن بباب تونس، وقد بلغ الثمانين أو نحوها بيسير، وقد رثاه الشعراء بنحو مائة مرثية.

ثانيا: التعريف بالرسالة المفصلة لأحوال المتعلمين وأحكام المعلمين والمتعلمين 3

– فلسفة التربية والتعليم عند القابسي:

تستمد التربية في فكر القابسي أهميتها من أهمية وسمو مقاصدها، وقد افتتح رسالته بهذه المقاصد العلية وأجملها في مقصدين:

– التدرج في مراتب الدين: إذ يرى وجوب تدرج المتعلم من مقام الإسلام إلى مقام الإيمان سعيا نحو بلوغ مقام الإحسان حيث يحسن التعامل مع الخالق والخلق ولا يرى في الكون مؤثرا إلا الله ويعبد الله كأنه يراه. 4

– الاستقامة والصلاح: ويعرفها بقوله ” الاستقامة في الدين هي مداومة المقام فيه، على استوائه واعتداله، لا ينكب عنه يمينا ولا شمالا، ولا يلتزم منه  ما لا يطيقه ” 5

إن هذا النظر المقاصدي للمسألة التربوية عند القابسي الذي يعتبر تزكية نفس المتعلم والسمو بها في مراتب الدين غاية العملية التعليمية يفسر لنا شدة اهتمامه بالقرآن 6 تلاوة وكتابة وفهما وتدبرا، بل إن القابسي يطلب وضعا متقدّما في تعلّم القرآن هو وضع التمهّر إذ يقول معلّقا على حديث الرسول “مثل الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة”: والماهر بالقرآن يؤمر بترتيله … إن الترتيل في القراءة يحيي الفهم للعالم فيستعين على التدبّر الذي له أنزِل القرآن ” 7ولقد أدّى ارتباط التعليم بالقرآن إلى تقدير طلب العلم تقديرا خاصا. وهذا ما جعله يبلور تصورا أخلاقيا يرى إلزامية التعليم ويطالب بتعميمه بين أبناء المسلمين دون قصره على فئة دون أخرى أو طبقة بعينها يمكن لها أن تنفرد به عن سائر طبقات المجتمع، كما لا يرى إمكانية حرمان الطفل من هذا الحق وتركه عرضة للجهل أيا كان ظرفه الاجتماعي لذا جعل مسؤولية تعليمه تمتد من والده إلى أقربائه إلى الدولة. ولما سبق نجده يتعرض لجميع الأوضاع الاجتماعية التي قد تعرض لأولاد المسلمين، ليحدد مسؤولية تعليمه على من تقع، يقول القابسي: “وأمّا سؤالك عن رجل امتنع أن يجعل ولده في الكتّاب هل للإمام أن يجبره؟ وهل الذكر والأنثى في ذلك سواء، فإن قلت لا يجبره فهل يوعظ ويؤثم؟ وكيف إن لم يكن له والد وله وصي فهل يلزم ذلك الوصي بالجبْر؟ فإن لم يكن له وصي فهل ذلك للولي أم للإمام؟ فإن كان لا أحد لهذا الولد فهل للمسلمين أن يفعلوا ذلك من ماله؟ فإن لم يكن له مال فهل للمسلمين أن يؤدّوا عنه أو يكون في الكتّاب ولا يكلّفه المعلّم إجارة؟ وكيف إن كان له أب وله مال ولا يبالي ذلك فهل للإمام أن يسجنه أو يضربه على ذلك أم ليس ذلك عليه؟ وكيف إن كان هذا في بلد لا سلطان يكرههم على الواجبات وينهاهم عن المنكرات فهل نبيح لجماعة من المسلمين المرْضيين في دينهم أن يقوموا مقام السلطان أم ليس يجوز ذلك؟” 8

لا يترك الفقيه القيرواني في هذا النصّ إمكانا من إمكانات الدفع بالصبيان إلى التعليم دون ذكره أو التنبيه إليه ووضعه موضع البحث والتساؤل تمهيدا للإقرار وتوطئة للإنفاذ ثم يجيب مفصلا بما يلي:

أ – الوالد ملزم بتعليم ابنه ذكرا كان أو أنثى، وأن ترك الابن للجهل ليس من صفة الأب المؤمن المسلم، ويحذر من مآل وقوع التفريط في تعليم الأبناء فيقول: ” في حال تخلف الآباء عن هذا العمل وركنوا إلى غيرهم به، وهو عمل ليس بالأمر اليسير، لضاع كثير من الصبيان، ولما تعلم القرآن الكثير من الناس، فتكون هذه الضرورة القائدة إلى سقوط فقدان القرآن من الصدور، والداعية إلى تثبيت أطفال المسلمين على الجهالة ” 9، ولكنه في نفس الوقت يتخذ العذر للذي يفعل ذلك عن قلة ذات اليد 10.

  • أما إن كان مات أبوه وكان له وصي، فعليه أن يدخله الكتاب، ويؤاجر المعلم على تعليمه القرآن من ماله حسب ما يجب.

ج-  فإن لم يكن لليتيم وصي، نظر في أمره حاكم المسلمين وسار في تعليمه سيرة أبيه، أو وصيه.

د. وإن كان ببلد لا حاكم فيه، نظر له في مثل هذا، لو اجتمع صالحو ذلك البلد على النظر في مصالح أهله، فالنظر في هذا اليتيم من تلك المصالح.

هـ. وإن لم يكن لليتيم مال فأمه وأولياؤه الأقرب فالأقرب به، هم المرغبون في القيام به في تعليمه القرآن، فإن تطوع غيرهم بحمل ذلك عنهم فله أجره.

و. وإن لم يكن لليتيم من أهله من يعنى به في ذلك، فمن عني به من المسلمين فله أجره، وإن احتسب فيه المعلم، فعلمه لله عز وجل، وصبر على ذلك، فأجره إن شاء الله يضاعف في ذلك، إذ هي صنعته التي يقوم منها معاشه  11.

– المنهاج الدراسي:

يتنوع المنهاج الدراسي عند القابسي حسب المتعلمين ذكورا وإناثا وحسب المواد. فأما بالنسبة للمواد فيرى أن هناك موادا إجبارية على رأسها تعلم القرأن الكريم إذ يمثل المادة الأساسية التي تدور عليها العملية التربوية والتي تنشأ على ضوئها الدورة التعليمية والتكوينية للصبي، فأحقّ ما يؤخذ عليه أجرا عندهما هو كتاب الله، ثم تعلم الكتابة والخط والقراءة الحسنة بالترتيل، وأداء الصلاة، وإتقان الوضوء، وفقه الصلاة، والدعاء والورع.

أما المواد الاختيارية فهي منوطة برغبة الأهل وهي الحساب والنحو والشعر، واستثنى من ذلك شعر الحمية والغزل والهجاء.

ويتضمن المنهاج أيضا تنمية اتجاهات دينية كاحترام المسجد والتحذير من ممارسات قد تكسب الصبيان اتجاهات سلبية من ذلك تبادلهم المأكولات التي يحضرونها من بيوتهم كتبادل التفاح بالقثاء، والزبيب بالرمان لأن ذلك تعويد على الربا  12.

أما منهاج الإناث فيجب أن يخلو من الشعر والأدب والكتابة وفي ذلك يقول: ” فأما تعليم القرآن فهو حسن ومن مصالحها، فأما أن تعلم الترسل والشعر وأشبهه، فهو مخوف عليها، وإنما تعلم ما يرجى لها صلاحه، ويؤمن عليها من فتنته، وسلامتها من تعلم الخط أنجى لها” 13 . فمن هذا النص يتبين ان موقفه من تعلم الإناث الكتابة إنما هو موقف اجتهادي راعى فيه سد ذريعة فساد خلق الفتاة، غير أن سد الذرائع لا يكون اعتبارا لدفع مفسدة متوهمة أو ظنية كما هو الحال في هذه النازلة.

– التنظيم الدراسي:

 تمتد حدود المرحلة التعليمية من سنّ الصبا والقدرة على الحفظ إلى سنّ الاحتلام أو ما يقاربها كحدّ أقصى للاستمرار في الكتّاب. وتمثّل هذه المدّة المدى الزمني العام الممكن للدرس دون أن تعني الإلزام به سواء بالمواصلة أو بالتدرج أي أن الصبي غير مطالب بقضاء المدّة بأكملها في الكتّاب. ولا ينقطع النشاط التدريسي أو يتعطّل إلا بحسب ما تمّ إقراره من العطل التي جرى عليها العرف وهي العطلة الأسبوعية يوم الجمعة وعشية الخميس وعطلة عيد الفطر من يوم إلى ثلاثة أيّام وعطلة عيد الأضحى من ثلاثة أيام إلى خمسة أيام، ويمكن أن يتخذ يوم الختم يوم عطلة شريطة إذن الآباء.

أما طول اليوم الدراسي فيمتد من الضحى إلى المساء على أن ينصرفوا للصلاة والغذاء، أما تنظيم اليوم الدراسي في الكتاب فيكون كما بتعليم المعلم للصبيان في ساعة معينة، ثم يتركهم يتذاكرون ويسمح لهم بتعليم بعضهم بعضا، ويخصص وقتا لعرض القرآن الكريم أمامه مثل عشية الأربعاء ويوم الخميس  14.

– آداب المعلم:

لقد اهتم القابسي اهتماما بالغا بالمسؤولية الأخلاقية والديمية والاجتماعية والمهنية للمعلم، وفصل فيما يجب له له من حقوق وما يلزمه من واجبات بناء على ما تحدد من شروط بين المعلم وأهل الصبيان.

فتعرض لموضوع الأجر وهو من المسائل المعقدة التي شغلت تفكير الفقهاء استنادا على حديث عبادة ابن الصامت قال: (علمت ناسا من أهل الصفة الكتاب والقرآن، فأهدى إلي رجل منهم قوسا، فقلت: ليست بمال، وأرمي عليها في سبيل الله، لآتين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلأسألنه. فأتيته…فقال: إن كنت تحب أن تكون طوقا من النار فاقبلها ) 15. أما القابسي فقد علق على سند الحديث بدءا فقال: ” هذه الأسانيد ليس بمثلها تضيق ما دلت الأحاديث الصحيحة 16 على جوازه وسَعَته ” 17، ثم وجه معنى الحديث بأمرين:

أ- إن هذا المعلم- أي عبادة بن الصامت – إنما كان يعلمه لوجه الله لا يرجو على ذلك من المتعلم أخذ شيء من الدنيا.

  • إن ذلك كان في مبتدأ الإسلام، وحين كان القرآن قليلا في صدور الرجال.
  • أن المعلم الذي يحتبس نفسه لتعليم الصبيان لا يأخذ معاوضة عن القرآن بل عن العناية بالصبيان والقيام على تأديبهم.

بعد معالجة مسألة الأجر الذي يتقاضاه المعلم وجهه إلى ما يلزمه تجاه المتعلمين من أخلاقيات أوردها إجمالا 18:

1- أن يكون رحيما بهم رحيما رفيقا غير عبوس ولا مفرط في التبسط خشية ضياع هيبته، ولا يجوز له معاقبتهم إلا بقصد التأديب لا بقصد الانتقام لنفسه. والعقاب يكون بالتدرج وحسب فعل المتعلم ومصلحته، فالضرب ينبغي أن يكون غير مبرح لا يجاوز ثلاث ضربات مع التدرج في ذلك والابتعاد عن الشتم والكلام الفاحش، حتى يكون العقاب في مصلحة المتعلم. أما الثواب فلا ينبغي أن يتعدى الاستحسان والاستئناس في حدود التشجيع والتحريك للهمم.

  • أن يكون معهم عادلا: فلا يتأثر بالهدايا ولا ما يتقاضاه من بعضهم من عطاءات زائدة على الأجر المشروط باستثناء ما يكون منه خارج أوقات العمل أو إذا كان قد تراضى مع أولياء المتعلمين أنه سيفاضل بينهم على قدر ما يصله من العطاء. ولا يخفى ما لقاعدة العدل في ظاهرها من أبعاد تربوية وتعليمية.

3- مراقبة النواحي السلوكية والأخلاقية لدى المتعلمين، فعليه إذا رأى اعوجاجا أو سوء خلق قومه بما يلزم. وأن يعلمهم الأدب مع كلام الله أثناء محو ألواحهم.

  • السهر على إقامة العلاقات الحسنة فيما بينهـم القائمـة على الصدق والأمانة والمحبة.

5- المحافظة على أوقات المتعلمين والاعتناء بتعليمهم بمراعاة ما سبق بيانه من تنظيم دراسي وألا يتغيب عنهم، وإذا اضطر لذلك عوض لهم ما ضاع من دروس.

6- الاجتهاد في تعليمهم ودوام تفقدهم والسعي بهم لبلوغ درجة التمهر في الكتابة والقراءة وغيرها من المواد الدراسية.

خاتمة:

تعكس رسالة القابسي في التربية والتعليم وضعية التعليم وانتشاره الواسع في ذلك العصر، كما انها أعطت إجابات لعدة إشكالات كانت مطروحة بقوة آنذاك مثل مسألة الأجرة، والهدية، ومسؤولية تعليم الصبيان على من تقع…

ولكنها تجلي أيضا عمق الفكر التربوي الذي تبلور عند الفقهاء لا سيما وأنهم كانوا يستصحبون الضوابط الشرعية والتوجيهات الربانية أثناء مزاولتهم مهنة التعليم والتنظير لها، كما عالجت الرسالة أيضا مواضيع تربوية لا زالت لحد الآن تشغل اهتمام المختصين في مجال التربية والتعليم مثل مسألة الثواب والعقاب، والعقد التعليمي، والتنظيم الدراسي، وإلزامية التعليم، ووجوب تعليم الإناث…وهذا ما يعطي للرسالة قيمتها إذا نظرنا إليها في سياقها الزماني، وإذا نظرنا إلى قدر صاحبها الذي دلت عليه سيرته الخالدة ومواقفه القوية وآثاره في مجال التعليم والإصلاح التي لم تنحصر في القيروان فحسب بل امتدت إلى كافة أقطار الغرب الإسلامي عبر تلاميذه.

كما يبينت الرسالة أهمية دراسة تراثنا التربوي والتأسي بأسلافنا في اقتباس منهجهم الاجتهادي حيث استطاعوا أن يجيبوا عن أسئلة عصرهم في حقل التعليم حتى صاروا روادا وبزوا أمما وخلفوا حضارة وعلما وتراثا لا زال الفكر الإنساني عالة عليه في كثير من المجالات والعلوم.


الهوامش

1/-  له كتاب ” آداب المعلمين “، انظر مقال من أعلام التربية: ابن سحنون، ربيع حمو،1 العدد 14-15 من مجلة النداء التربوي، ص: 143-149.

2/- سير أعلام النبلاء،لأبي عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، ت: 748هـ، تحقيق: شعيب الأرناؤوط ومحمد نعيم العرقسوسي، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1413، الطبعة التاسعة، 17/158-161 – ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك ، القاضي عياض بن موسى بن عياض السبتي (1083-1149) ؛ تحقيق محمد بن تاويت الطنجي، عبد القادر الصحراوي، محمد بن شريفة… [وآخرون]، ط. 2،الرباط، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، 1982ـ1983،1/494-495-496 – الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب، لإبراهيم بن نور الدين المعروف بابن فرحون المالكي، دار الكتب العلمية، بيروت، 199-201 – الأعلام، قاموس تراجم لأشهر الرجال والنساء من العرب والمستعربين والمستشرقين، لخير الدين الزركلي، دار العلم للملايين، بيروت، لبنان، 4/ 326.

3/-  سأعتمد على نص الرسالة الوارد في كتاب: الفكر التربوي عند ابن سحنون والقابسي لعبد الأمير شمس الدين، دار اقرأ، الطبعة الأولي، من الصفحة 101 إلى الصفحة 190.

4/- الرسالة المفصلة لأحوال المتعلمين وأحكام المعلمين والمتعلمين، ص: 104-110.

5/- للمزيد من التفصيل انظر نص الرسالة ص: 110-115

6/- لقد خصص القابسي بابا من رسالته للحديث عن فضل القرآن وتعلمه وآداب تعلمه وتلاوته وتعليمه مستشهدا بنصوص من القرآن الكريم وصحيح الحديث وأقوال الأئمة انظر نص الرسالة المفصلة ص: 115-125.

7/- نفسه،ص:  120 .

8/- الرسالة المفصلة،ص: 124-125.

9/-  نفسه، ص: 132-133.

10/ 11- نفسه، ص: 129.

12/- الرسالة المفصلة ص: 154 .

13/- نفسه، ص: 129.

14/- نفسه،ص: 156-157 .

15/- سنن أبي داود، كتاب البيوع، باب: في كسب المعلم، رقم: 2964 .

16/- يشير هنا القابسي إلى الأحاديث الصحيحة الواردة في جواز أخذ الأجر على تعليم القرآن ومنها ما رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما.

17/-  الرسالة المفصلة، ص: 128 .

18/- نفسه، ص: 150-157

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.