تمهيد:
عرف الصوم كعبادة قديمة عند اليونان والرومان والصينيين وقدماء المصريين، ويؤكد المؤرخون أن الصوم كان ركنًا من أركان عبادات هذه الأمم.
أما في الدين الإسلامي فإن الصوم نوعان: صوم فريضة وهو صوم شهر رمضان المبارك، ويتم فيه الإمساك عن شهوتي البطن والفرج من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وصوم تطوع في باقي أيام السنة عموما وفي أيام محددة على وجه الخصوص( صيام يوم عرفة ـ صيام الست من شوال…). ويحرم على المسلم الصوم فى يومين فقط فى السنة كلها، وهما: اليوم الأول من شوال والعاشر من ذى الحجة، أي في يومي عيدي الفطر والأضحى.
و الصوم من الشعائر المشتركة في الديانات السماوية وغيرها، لكنني سأقتصر الحديث فقط على الصوم في الديانتين اليهودي والمسيحية. فما طبيعة الصوم في الديانتين معا؟ وماهي نصوص الكتاب المقدس الدالة على ذلك؟
الصوم في الديانة اليهودية:
يعدّ الصوم من أقدم التشريعات اليهودية، وهو مفهوم يتسع كثيرًا لدى اليهود، “وسبب ذلك راجع إلى اجتهاداتهم في إيجاد أنواع منه، جُلّها مرتبط بالحدث التاريخي، وما أفرزته طبيعتهم العدائية للأمم التي عايشوها، أو عاصروها، والتي غلب عليها طابع الحزن؛ نتيجة تعرضهم للمحن” [1] وهو نوعان:
1- فردي (شخص):
ويُسَمى صوم الأسر، ويقع في حالات الحزن الفردي، أو عند التكفير عن خطيئة.
وقد وردت عدة نصوص في العهد القديم تشير إلى هذا النوع من الصوم، منها” أَذْلَلْتُ بِالصَّوْمِ نَفْسِي” [2]، ومنها أيضا “أليس هذَا صَوْمًا أَخْتَارُهُ: حَلَّ قُيُودِ الشَّرِّ. فَكَّ عُقَدِ النِّيرِ، وَإِطْلاَقَ الْمَسْحُوقِينَ أَحْرَارًا، وَقَطْعَ كُلِّ نِيرٍ. أَلَيْسَ أَنْ تَكْسِرَ لِلْجَائِعِ خُبْزَكَ، وَأَنْ تُدْخِلَ الْمَسَاكِينَ التَّائِهِينَ إِلَى بَيْتِكَ؟ إِذَا رَأَيْتَ عُرْيَانًا أَنْ تَكْسُوهُ، وَأَنْ لاَ تَتَغَاضَى عَنْ لَحْمِكَ. حِينَئِذٍ يَنْفَجِرُ مِثْلَ الصُّبْحِ نُورُكَ، وَتَنْبُتُ صِحَّتُكَ سَرِيعًا، وَيَسِيرُ بِرُّكَ أَمَامَكَ، وَمَجْدُ الرَّبِّ يَجْمَعُ سَاقَتَكَ. حِينَئِذٍ تَدْعُو فَيُجِيبُ الرَّبُّ. تَسْتَغِيثُ فَيَقُولُ: هأَنَذَا. إِنْ نَزَعْتَ مِنْ وَسَطِكَ النِّيرَ وَالإِيمَاءَ بِالأصْبُعِ وَكَلاَمَ الإِثْمِ، وَأَنْفَقْتَ نَفْسَكَ لِلْجَائِعِ، وَأَشْبَعْتَ النَّفْسَ الذَّلِيلَةَ، يُشْرِقُ فِي الظُّلْمَةِ نُورُكَ، وَيَكُونُ ظَلاَمُكَ الدَّامِسُ مِثْلَ الظُّهْرِ. وَيَقُودُكَ الرَّبُّ عَلَى الدَّوَامِ، وَيُشْبعُ فِي الْجَدُوبِ نَفْسَكَ، وَيُنَشِّطُ عِظَامَكَ فَتَصِيرُ كَجَنَّةٍ رَيَّا وَكَنَبْعِ مِيَاهٍ لاَ تَنْقَطِعُ مِيَاهُهُ. وَمِنْكَ تُبْنَى الْخِرَبُ الْقَدِيمَةُ. تُقِيمُ أَسَاسَاتِ دَوْرٍ فَدَوْرٍ، فَيُسَمُّونَكَ: مُرَمِّمَ الثُّغْرَةِ، مُرْجعَ الْمَسَالِكِ لِلسُّكْنَى”.[3]
2- جماعي:
وهو غير ثابت في نصوص العهد القديم، “وغالبًا ما يفعلونه عند حدوث حزن عام يقلقهم، كالصوم عند رداءة المحصول، أو غارات الجراد، أو الهزائم في الحروب”[4]
3ـ صوم الصمت:
وهو استغراق الصامت في صمته، من أجل التوبة من الخطايا والندم على ما اقترفه لسانه من بذيء الكلام وفاحشه. وهذا النوع من الصيام ليس له وقت محدد. وقد أشارت أسفار العهد القديم إلى هذا النوع من الصوم في سفر الملوك الأول(وَلَمَّا سَمِعَ أَخْآبُ هذَا الْكَلاَمَ، شَقَّ ثِيَابَهُ وَجَعَلَ مِسْحًا عَلَى جَسَدِهِ، وَصَامَ وَاضْطَجَعَ بِالْمِسْحِ وَمَشَى بِسُكُوتٍ) [5]، وأيضا في سفر مزمور(اِرْتَعِدُوا وَلاَ تُخْطِئُوا. تَكَلَّمُوا فِي قُلُوبِكُمْ عَلَى مَضَاجِعِكُمْ وَاسْكُتُوا. سِلاَهْ). وهذا النوع من الصوم أشار إليه القرآن الكريم على لسان مريم ابنة عمران في قوله تعالى﴿إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا﴾[6].
4ـ الصوم الأربعيني الموسوي:
وهو الصيام الوارد عند اليهود في التوراة، ورد في سفر الخروج: (وَكَانَ هُنَاكَ عِنْدَ الرَّبِّ أَرْبَعِينَ نَهَارًا وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً، لَمْ يَأْكُلْ خُبْزًا وَلَمْ يَشْرَبْ مَاءً. فَكَتَبَ عَلَى اللَّوْحَيْنِ كَلِمَاتِ الْعَهْدِ، الْكَلِمَاتِ الْعَشَرَ). [7] والمُتأمل في هذا النص التوراتي يستنتج أنه لم يُصرِّح بفرض هذا الصيام الأربعيني على العامة، بل هو خاص بسيدنا موسى عليه السلام.كما أن امتناع سيدنا موسى عليه السلام عن الطعام والشراب، لم يلتزم به اليهود والنصارى، بل لم ترد إليه إشارة في صيامهم على الإطلاق، ولم يتم أيضا تحديد الأربعين يوما في أيام السنة.
5ـ صوم يوم الغفران (يوم كبور):
وهذا هو الصوم الوحيد الذي تعترف به دائرة المعارف اليهودية وترى أنه لم يرد غيره في التشريع الموسوي.وقد أشار إليه سفر اللاويين(وَيَكُونُ لَكُمْ فَرِيضَةً دَهْرِيَّةً، أَنَّكُمْ فِي الشَّهْرِ السَّابعِ فِي عَاشِرِ الشَّهْرِ تُذَلِّلُونَ نُفُوسَكُمْ، وَكُلَّ عَمَل لاَ تَعْمَلُونَ: الْوَطَنِيُّ وَالْغَرِيبُ النَّازِلُ فِي وَسَطِكُمْ). [8]
ويبدأ اليهود صيامهم “قبل غروب الشمس بنحو ربع ساعة إلى ما بعد غروب الشمس في اليوم التالي بنحو ربع ساعة، فهو لا يزيد بحال عن خمس وعشرين ساعة متتالية، وهو عاشوراء اليهود، وما زال فيهم حتى اليوم”[9].
وقيل: “إن مدة يوم الغفران هوسبع وعشرون ساعة من قبل مغيب الشمس لليوم الأول إلى ما بعد غياب الشمس لليوم الثاني” [10]
6ـ صوم السبي البابلي:
وخلال السبي البابلي صام اليهود أربعة أيام هي: ـ صوم الشهر الرابع من تموز: في ذكرى تدمير أورشليم والهيكل 587 ق. م، لكنهم تركوا هذا الصوم بعد إعادة بناء الهيكل. ـ صوم الشهر الخامس من آب. ـ صوم الشهر السابع من شهر تشرى. ـ صوم الشهر الثامن من شهر تبيتو. وكان بعض الربيين “يعدُّون صوم هذه الأيام واجبًا عند الأزمات، وهناك أيام أخرى للصوم وضعوها لإحياء ذكرى بعض الأيام، خاصّة أيام النكبات، ولم يتقبلها عامة الناس”[11]
الصوم في الديانة المسيحية:
في العهد الجديد يختلف الصوم على ماهو عليه عند اليهود أو المسلمين، فهو أمر اختياري يلجأ إليه المسيحي عند الحاجة، ويقترن بالصلاة والتذلل، وليس في الكتاب المقدس ما يحظر التنادي إلى يوم صوم وصلاة في كنيسة من الكنائس ولأجل حاجة ما (انظر: اللاويين 16: 29، صموئيل الثاني 12: 16، 20، إشعياء 58: 3 – 5، يونان 3: 5). وبما أن الصوم عبادة نسكية وتوجه إلى الله تعالى، نجد أن المسيح عليه السلام يحثُّ أتباعه على الصوم، ويمدحه، لكنه كان يطلب من الصائمين عدم إظهار صومهم للآخرين، حتى لا يصبحوا مرائين به، كما كان يفعل اليهود آنذاك، (انظر: متى 6: 16 – 18. ويرى فريق من المسيحيين “أنّ المسيح عليه السلام لم يفرض عليهم صيامًا إلا الصوم الكبير (صوم يوم الكفارة) السابق لعيد الفصح “[12].
ولذلك يمكن القول أن الصوم المسيحي في غالبه تشريع كنسي وضعه القساوسة والرهبان وصادقت عليه مجامعهم الكنسية التي عدت قراراتها ذات قدسية ملزمة لكل مسيحي “ومع ظهور البواكير الأولى للتشريع الكنسي تحددت بعض معالم الصيام، وما يجب تناوله من طعام، وما لا يجب عندما عرف الصيام بأنه شريعة كنسية تكيفها الكنيسة حسب مقتضيات الزمان والمكان”[13]. وعلى هذا الأساس يمكن تقسيم الصوم حسب الطائف المسيحية إلى ثلاثة أقسام:
1- الكنيسة الكاثوليكية:
“يبدأ الصوم عندهم في منتصف الليل إلى نصف النهار، ويلتزم به مَنْ بلغ السابعة من العمر، وينتهي بالستين للرجال، والخمسين للنساء. والصيام اللازم في الكاثوليكية: هو الصيام الكبير، ويمتنعون عن أكل اللحم والألبان والبياض (البيض، والجبن، والحليب، والزبد) يومي الأربعاء والجمعة، لكنهم يلتزمون -اليوم- صيام يوم واحد” [14].
كما أعطت الكنيسة الكاثوليكية السلطة في تحديد الصوم أو الإعفاء منه لرجال كنيستها “مما مكنها من فرض أصوام متفاوتة بجانب فرائض أخرى على المتهمين بجرائم متفاوتة، يمارسونها عدة سنوات لا شهورًا وأيامًّا، وهكذا بقي في قانون الكنيسة العالمي (الكاثوليكي) الصيام في جميع أيام الأحد ويوم القديس (مرقس) وأسبوع الفصح وأيام الطلبات (البركات) وجميع أيام السبت والجمعة”[15].
2ـ في الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية:
تتفق الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية مع نظيرتها الكاثوليكية في الصوم الكبير باعتباره أهم وأعمّ أنواع الصيام ومدته خمسون يومًا أو خمسة وخمسون يومًا ولديهم طريقة فلكية لضبط وقته من عام إلى عام، حيث إن النسيء يحول دون وضع تاريخ ثابت له، وينبغي أن يبدأ بيوم الإثنين. ولها أصوام أخرى أهمها: أ- صوم الأربعين يومًا؛ ويصومون قبلها أسبوعًا سموه أسبوع الاستعداد وبعده أسبوعًا آخر سموه أسبوع الآلام. ب- صوم الميلاد؛ ومدته أربعون يومًا من 25 من نوفمبر إلى 6 من يناير. ج- صوم العنصرة (الرسل)؛ وتمارسه الكنيسة منذ عصر الرسل ليس عدد محدد من الأيام، ويترك أمره بيوم “أحد العنصرة”. فإذا زادت أيام الصوم، وإذا تأخر انقضت وتنتهي تقريبًا في 11 أيلول. د- صوم العذراء؛ ومدته خمسون يومًا. هـ – صوم نينوى؛ ومدته ثلاثة أيام، ويعتقدون أن يونس عليه السلام قد بدأ هذا الصيام ببطن الحوت (يونان 1: 17). و- وللكنيسة صيام آخر متفاوت بين اليوم والثلاثة: ويُسمّى صيام البراموت (الاستعداد) [16] ـ
3- في الكنيسة البروتستانتية:
مسألة الصوم في هذه الكنيسة مسألة شخصية يقرر فيه الصائم نفسه، وَفْقَ رغبته الشخصية النابعة من إحساسه الذاتي، “فإذا ما صام وأفطر يحلّ له أكل ما يشتهيه من المأكولات، فهو عندهم مستحب وليس بواجب. وتختلف الكنيسة البروتستانتية عن الأرثوذكسية القبطية؛ بأن الأولى تنكر الصيام والثانية تتمسك به”[17]
4- عند الأرمن والأقباط:
فالصوم عند الأرمن والأقباط من أشدّ أنواع الصوم عند المسيحيين، “إذ يصومون الأربعاء والجمعة من كل أسبوع إلا ما وقع منها بين الفصح والصعود، ويصومون عشرة أسابيع من كل سنة، وهي: – بعد الأحد الأول من عيد الثالوث. – بعد عيد التجلي. – بعد عيد الصليب في أيلول. – بعد الأحد الثالث عشر من عيد الثالوث. – بعد الواحد والعشرين من عيد الثالوث. – الصوم السابق لعيد الميلاد. – صوم الميلاد. – صوم المر. – صوم الفصح”[18].
وعموما فإن الطوائف المسيحية تعتبر الصوم عبادة اختيارية يُلْجَأ إليه عند الحاجة أو لتكفير الذنوب وذلك بصيام ليوم (الصوم الكبير) الذي يسبق يوم عيد الفصح. كما أنها لم تر بأسًا بالاتصال الجنسي بين الزوجين فهذا لا شأن له بالصوم ولا يفسده من قريب أو بعيد. لكن الاختلاف وقع بينها حول: التكليف بالصوم، فلا اتفاق بينها على أن يكون فرضًا، وبداية أو نهاية مدة الصيام، فلا اتفاق بينها، وأمر ذلك متروك للصائم ينهيه متى شاء ما دام لا يطيق الاستمرار في ذلك، بالإضافة إلى صوم الصمت الذي يقبل عليه الكاثوليك أكثر من غيرهم، وله شأن في برامجهم الدينية. أما صوم السبت “فقد أقرته الكنيسة الكاثوليكية، ومنعه الأرثوذكس إلا في سبت واحد يقع قبل عيد القيامة مباشرة” [19]
خاتمة:
إذا كان الصوم في الديانة اليهودية قد ارتبط بالأحداث التاريخية التي عاشها اليهود، وابتعد كثيرا عن تشريع سيدنا موسى عليه السلام، وظل محصورا في صوم يوم الغفران الذي تلجأ إليه دائرة ضيقة من المتدينين اليهود المتعصبين، وإذا كان الصوم في الديانة المسيحية أمر اختياري لم يعد له أثر في الإيمان المسيحي، وأصبح تشريعا كنسيا تتحكم فيه الكنيسة وقساوستها، فإن الصوم في الإسلام عموما وصوم رمضان على وجه الخصوص لازال له الأثر البالغ على المسلم، فهو يتجاوز كونه شريعة ربانية إلى اعتباره عبادة روحية تربوية تهذيبيّة ليس المراد منها صيام البطون عن الطعام، وإن كان للجسد نصيبه من فوائد الصوم، وإنما المراد منه صوم الجوارح عن الحرام.
الهوامش
[1] أ. ناصر الدين الكاملي: الصوم في القديم والحديث، د. ت. مطبعة الكونكورد، ص:21.
[2] سفر المزامير 35: 13
[3]سفر إشعياء 58: 6-12
[4]عبد الرزاق رحيم صلال: العبادات في الأديان السماويّة، ص:102.
[5]سفر الملوك الأول 21: 27
[6]مريم:26.
[7]الخروج 34: 28.
[8]اللاويين 16: 29
[9]موسوعة الكتاب المقدس لمجموعة من الباحثين، ط 1993م. دار منهل الحياةـ لبنان، ص:33
[10] أ. عبد الرزاق رحيم صلال: العبادات في الأديان السماويّة، ص:103.
[11] (قاموس الكتاب المقدس (أنا الألف والياء) لمجموعة من علماء اللاهوت، ط 1989م، دار المشرق بيروت، ص:17-20.
[12] أ. عبد الرزاق رحيم صلال: العبادات في الأديان السماويّة، ص:182.
[13] د. علي الخطيب: الصيام من البداية حتى الإسلام، ط 1، 1980م. المكتبة العصرية ـ بيروت، ص:151.
[14] المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
[15] د. علي الخطيب: الصيام من البداية حتى الإسلام، ص:152.
[16] انظر:القس شنودة يوحنا: الصوم في كنيستنا القبطية الأرثوذوكسية، ط 1963م، مطبعة الإسكندرية ص:25.
[17] د. علي الخطيب: الصيام من البداية حتى الإسلام، ص:161ـ 162
[18] بطرس البستانى: دائرة المعارف، جـ 11، ص:70.
[19] – د. علي الخطيب: الصيام من البداية حتى الإسلام، ص:162-163.