اعتناء بني مرين بالدور الاجتماعي للمدارس| المؤسسات التعليمية
الدكتور عبد اللطيف بن رحو
اعتناء بني مرين بالدور الاجتماعي للمدارس| المؤسسات التعليمية
بقلم: الدكتور عبد اللطيف بن رحو
يمكنكم تحميل كتاب العمل الاجتماعي في عهد الدولة المرينية (1244 – 1465م) من الرابط التالي
المبحث الثالث: الدور الاجتماعي للمدارس
قام بنو مرين بتنشيط المجال الثقافي العلمي، فاستطاعت بذلك الدولة المرينية أن تؤسس مدارس لتلقين أنواع المعرفة لتدعم بها المساجد ولتقوم بالدعاية لها، خاصة وأن المدارس الموحدية لم تستطع أن تقوم لها بهذه المهمة.
وانعكس بناء المدارس على البنية الاجتماعية، خاصة فئة الطلبة الذين كانوا يتقاضون فيها راتبا زيادة على الثياب والكسوة والمأوى.
كما كان الهدف الأساسي من وراء بناء المدارس، والذي تلح عليه النصوص التاريخية، هو إحياء العلم وتوفير الظروف المعيشية المواتية لطلاب العلم والمدرسين ليتفرغوا لطلب العلم، وهذا ما نجده ظاهرا جليا في أغلب وقفات التحبيس على المدارس.
المطلب الأول: مجانية التعليم في المدارس المرينية
لقد ساهمت المدارس بدون شك، نظرا لمجانية الدراسة بها، في نشر التعليم بين فئات اجتماعية واسعة حضرية وبدوية، وفي جعله في متناول أكبر عدد ممكن من الرعية، وخاصة الفقراء منهم، فخففت بذلك من استئثار وهيمنة الحكام والأعيان الدائرين في فلكهم بالقسط الأوفر من العلم والتعليم، وخففت متن حدة التفــاوت الثقــــافي والاجتمــــاعي بين المخــزن (الحكـــام) والرعية (المحكوميـن)، وأصبح الحكام لا يستنكفون من الذهاب للمدارس وحضور حلقات العلم بها بجانب الطلاب، كما فعل السلطان أبو عنان المريني الذي كان يحضر أحيانا دروس صحيح مسلم في الحديث بمدرسته التي أسسها بفاس.
والتعليم في العهد المريني كان مجانا بالنسبة لطلبة العلم، أما الأساتذة فكانوا يتقاضون من الدولة كل ما يحتاجونه خلال السنة على شكل أجور عينية من مواد غذائية، أما سكنهم فكان أيضا مجانا بشرط أن يسكن المدرس في العاصمة فاس.
المطلب الثاني: المدارس المرينية ودورها في دعم العلم الشرعي
اتسمت هذه المدارس بالإشراف الرسمي للدولة، فسجلت انتصارا كبيرا للسنة والعودة إلى المالكية مذهبا وانتشار الأشعرية اعتقادا، ولعل هذه المدارس الحكومية الرسمية التي أنشئت من أجل تعليم القوانين الشرعية والعلوم اللغوية، قد استعملت منهجين متعارضين في مظهرهما، وهما الاجتهاد والتقليد.
وقد خصصت السلطة الرواتب والأجور للمدرسين ولكل العاملين في المدارس، كما تكلفت بإعانة الطلبة ماديا وبتحمل جميع نفقاتهم ومصاريفهم.
وكان الهدف من نشر التعليم والثقافة في العهد المريني هو توجيه الرعية إلى الجهة التي تخدم المذهب المالكي والدولة، وبث الاستقرار والسكينة والهدوء والأمن بين الرعية، ولهذا كانوا يشرفون على المدارس إشرافا مباشرا، ويؤكدون على مواضيع الدراسة بها وإفهام الناس عامة، ومنهم مهيكلون في المدارس خاصة أصول الدين الصحيحة، ولما كان سلاطين بني مرين مالكيين فقد كانوا يؤكدون على تدريس الفقه والأصول المستمد من أفكار المذهب المالكي وآرائه، وإنشاء المدرسة في حد ذاته يعد تطورا في الحياة الثقافية والتعليمية، كما كان لها دور في تنشيط الدراسات الفقهية والأدبية والعلمية، وساهمت في توحيد الفكر الإسلامي في حاضرة الدولة المرينية.
ويذكر الونشريسي أن مدينة فاس-حاضرة بني مرين- كانت تشتمل على العديد من المدارس، وأنه قدم لتدريس الفقه بإحدى تلك المدارس في نهاية العصر المريني، ويضيف بأن للمدرس بالمدرسة المذكورة (مدرسة الحلفاويين) مرتبان أحدهما شهري والآخر سنوي.
ومما يؤكد تشييد المدارس لتدريس العلم ما جاء بلوحة تحبيس مدرسة دار المخزن بفاس الجديد بأمر السلطان أبي سعيد سنة 721ه: «دخره من أفعال البر في أيامه الخالية وعلى قراءة القرآن الكريم وتدريس العلم بمدرسته بمدينته المباركة.»
المطلب الثالث: المدارس مأوى لطلبة العلم
عمل المرينيون على بناء المؤسسات التعليمية ومنها المدارس، لتعليم الطلبة القادمين حتى من بلدان العالم، على الرغم من وجود المساجد التي كانت مخصصة أيضا للتدريس. ومن المعتاد كانت هناك أماكن مخصصة لسكن الطلبة علماء أو معلمين.
يقول محمد المهدي الحجوي في سكنى الطلبة داخل المدارس: «كان الطلبة يقيمون في هذه المدارس سبعة أعوام سكنى وأكلا وكسوة. ولكن ليس لهم الآن إلا السكنى حيث أن حروب أبي سعيد المريني أتت على مداخل المدارس ولم يبقى منها إلا شيء قليل يصرف على الطلبة.»
وإلى جانب تقديم المدارس مهمة التعليم للطلبة فقد ساهمت إلى حد ما في الجانب الاجتماعي، بإيوائها للطلبة في غرف خاصة، تابعة للمدرسة التي يدرسون فيها. أي أن المدارس كانت تعتبر داخلية وتتوفر على مرافق خاصة بالحياة الداخلية على غرار الأحياء الجامعية المعاصرة.
ويصف لوتورنو في كتابه المهمة الاجتماعية للمدارس التي سادت في العهد المريني، فيقول: «كان الطلاب صنفين: أبناء فاس والغرباء عنها. فالأولون كانــوا يستمرون على العيش مع أهليـــهم، ولم تكـــن اعاشتهم مشكلة قط. أما الصنف الثاني فكان أفراده يأتون من مختلف المدن المغربية حتى تلمسان، إذ أن هذه المدينة كانت، لمدة عشرين سنة بدء من عام 738ه/1337م جزء من مملكة بني مرين، وكان ثمة عدد كبير من أهل الأرياف البعض من الشمال بين فاس والبحر المتوسط والبعض الآخر من السهول الأطلسي وآخرون من المناطق الصحراوية من تافلالت وغيرها من المواضع… وكان غالبية هؤلاء الطلبة الغرباء يقيمون في المدارس. وقد كانت هذه المدارس مبدئيا، تقدم غرفة لكل تلميذ، وقد كان في بعض هذه المدارس ما يزيد عن المائة من الغرف. وكانت الغرف الصغيرة ضيقة غالبا وجدرانها عارية، إلا أنها كانت بالنسبة إلى هؤلاء الطلاب الذين كانوا يعيشون في بيوت صغيرة في الريف، أو أحيانا في مضارب، تبدو كأنها أماكن فخمة. وقد يستنتج، كما أصبحت الحال فيما بعد، أنه بسبب تدفق الطلاب كانت الغرفة الواحدة تخصص لتلميذين أو حتى لثلاثة، ولكنهم لم يكونوا يتضايقون فيها.»
كما يشير الدكتور إبراهيم حركات إلى قضية إيواء الطلبة في المدارس فيقول: «وكان القصد من بناء هذه المدارس إيواء الطلبة، ولكن بعضها كان يستعمل للتدريس أيضا إلى جانب المساجد الكبرى كالقرويين مثلا.»
كما أن المدرسة العظمى بمراكش كانت معدة للدراسة وسكن الطلبة وقد تحدث عنها الحسن الوزان فقال: «وفي القصبة أيضا مدرسة في غاية الحسن، أو على الأصح مؤسسة معدة للدراسة وسكنى مختلف الطلبة، تحتوي على ثلاثين حجرة.»
ويمكن القول إن الوضع الاجتماعي كان محفزا للكثير من طلبة العلم حتى يلتحقوا بالمدارس. فمن المؤكد أنه استفاد عدد كبير من الطلبة الذين يسكنون البادية أو بلدان بعيدة، فتوفير السكن لهذه الفئة من الطلبة يعتبر شيئا مغريا لتفادي صعوبة التنقل وحتى يستطيع الطالب مواصلة تعليمه في ظروف جد ملائمة. وكان الكثير من البيوت يتوارثها الطلبة من نفس العائلة عن طريق العدول. وقد يبيع الطالب مفتاح البيت إلى زميله، وللطلبة مؤونة يومية ظلت تتناقص مع الأيام حتى انحصرت في خبزة.
المطلب الرابع: حصول الطالب على عمل في وظائف الدولة
كان للطالب متى أتم دراسته، فرص متعددة للعمل، فقد يدخل في خدمة الدولة الأمر الذي يفتح أمامه أبوابا عديدة، أو ينضم إلى جماعة المدرسين والأساتذة إذا كانت لأسرته ارتباطات تيسر له ذلك، أو قد ينضم إلى الموثقين أو أهل الشرع، وهما مهنتان كان لهما مستقبل باهر في مدينة يغرم أهلها بالأمور الشرعية.
وثمة من كان يكتفي بما حصل عليه من ثقافة وعلم، فينكفئ إلى العمل الذي كان يمارسه والده أو أسرته ويعمد إلى الإشراف على أملاك والده. وكان أكثر الغرباء يعودون إلى مدنهم، أو قراهم، أو قبائلهم للقيام بأعمال التعليم، أو الاهتمام بالقضاء.
غير أن المصادر التاريخية لم تذكر لنا عدد هؤلاء الطلبة المتخرجين سنويا من مدارس فاس. ويبدو أن عددهم كان يتناسب وحاجات البلاد، إذ ليس هناك ما يشير إلى أن البلاد مرت بها فترة عرفت فيها تخمة في أهل العلم. والنتيجة المؤكدة لهذا النوع من التعليم هي أن النخبة المغربية، على الأقل النخبة من أهل العلم، كانت تتلقى نوعا واحدا من التدريب. فسواء كانت القضية تتعلق بالعمل التجاري أم الإدارة، أم التعليم، أم القضاء، فجميع العاملين في هذا الميدان كانوا قد دربوا في قالب واحد، وكانوا يعبرون عن أنفسهم بأسلوب فكري واحد.
المطلب الخامس: تخصيص المدارس رواتب لطلبة العلم
من مزايا المدارس المرينية أنها كانت تمتلك أوقافا مخصصة عائداتها لتسيير شؤونها، ويتقاضى الطالب فيها راتبا، أو يزود بالمؤن والثياب لمدة سبع سنين.
ولما أتم السلطان أبو سعيد المريني بناء المدرسة غربي جامع الأندلس وأسكنها بطلبة العلم أجرى عليهم الإنفاق والكسوة وحبس عليها رباعا كثيرة.
كما كتب الحسن الوزان أن المدارس كانت تنفق على الطلبة وتكسوهم مرة في السنة وهذا إن دل فإنما يدل على الاهتمام البالغ بالعلم وبطلبته.
وحين شيد أبو عنان مدرسة شالة أحدث لطلابها ومدرسيها النفقة والعطاء، يقول النميري: «ويهتم بالعلم والعلماء إذ أمر ببناء مدرسة عظيمة قرب شالة، وإعطاء الكساء الرفيعة والملابس الفخمة البديعة للطلاب والمدرسين.»
وجاء في المعيار المعرب بعض الفتاوى المتعلقة برواتب الطلبة وأحقيتهم في نفقات الأحباس التي كانت تصرف لهم شهريا أو فصليا أو سنويا، وقد أفتى الونشريسي أن الطالب يأخذ راتبه كاملا حتى ولو غاب حين تقسيم الرواتب لأنه يعتبر حقه بالكامل.
ولم تكن أرزاق الطلبة أو مرتباتهم مالية فقط بل كانت متنوعة كالمواد الغذائية من سمن وزيت ولحم وفحم وكل ما يحتاجونه من المؤونة.
وخصصت الجزية المفروضة على اليهود للطلبة والمقرئين بمدرسة الحلفاويين بفاس.
وبالإضافة إلى المساعدات التي يحصلون عليها من الدولة، كان هؤلاء الطلاب، وعلى الأقل الذين كانوا على شيء من اليسار، يتلقون بعض المآكل من ذويهم. أما الآخرون فقد كانوا يستطيعون أن يزيدوا ايرادهم بإسهامهم في الصلاة على الجنائز حيث كانوا يقرؤون آيات الذكر الحكيم أو يرددون الأدعية، أو بإعطاء دروس خاصة، على نحو ما يعرف عن الطلاب في كل زمان ومكان. وباختصار فإنه يبدو أنهم لم يكونوا يشكون العوز. فقد عمل المرينيون الكثير لهؤلاء الطلاب.
كما خصصت لهم الهدايا النقدية أو العينية، تدفعها لهم الحكومة في مناسبة الأعياد الدينية والمناسبات الهامة التي كان البلاط المريني يحتفي بها.