﴿ثُمَّ ٱسۡتَقَـٰمُوا۟﴾ – الجزء الثالث عشر – (١٠)سلسلة “نتغير لنغير”
د.فاطمة الزهراء دوقيه
﴿ثُمَّ ٱسۡتَقَـٰمُوا۟﴾ – الجزء الثالث عشر – (١٠)سلسلة “نتغير لنغير”
بقلم: د.فاطمة الزهراء دوقيه
لعل أكثر ما تفتقده مجتمعاتنا الضمير الحي المتصل، والوازع الذاتي اليقظ الحاضر في كل حال، الحاكمُ في كل مقام ومقال، فكثيراً ما يُردد القول مع شدة الأسف: فلان أو علان منعدم الضمير، بمعنى أنه لا يراعي رقابة الله له ولا يتقيه ولا يخافه، كأنه يحسب الله غافلاً عنه، لا يراه ولا ينظر إليه ولا يقدر عليه!!
وحاشاه سبحانه وتعالى الذي أخبر عن هذا النوع من البشر لما قال:﴿لَقَدۡ خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَـٰنَ فِی كَبَدٍ * أَیَحۡسَبُ أَن لَّن یَقۡدِرَ عَلَیۡهِ أَحَدࣱ * یَقُولُ أَهۡلَكۡتُ مَالࣰا لُّبَدًا * أَیَحۡسَبُ أَن لَّمۡ یَرَهُۥۤ أَحَدٌ﴾ البلد:٥-٧. ويحذر قائلاً:﴿وَلَا تَحۡسَبَنَّ ٱللَّهَ غَـٰفِلًا عَمَّا یَعۡمَلُ ٱلظَّـٰلِمُونَۚ إِنَّمَا یُؤَخِّرُهُمۡ لِیَوۡمࣲ تَشۡخَصُ فِیهِ ٱلۡأَبۡصَـٰرُ﴾ إبراهيم:٤٢.
فسبحانه يمهل ولا يهمل !!..
الحديث هنا عن الضمير الحي المتصل بالخالق تعالى، جهازِ الاستشعار الدقيق والحساس بداخلك، المُناطِ به إزعاجك وإثارة قلقك، وألا يتركك لحالك حتى تصحح ما ينبغي تصحيحه، وتتقي ما ينبغي اتقاؤه، وتفعلَ ما ينبغي فعله.. وما أحوجك في زمنك الذي تعلمه إلى هذا الإزعاج والقرص اللاذع من ضميرك!!
إنه ذلك الهاتف الداخلي الذي جعل سيدنا يوسف يرتدع لما دعي:﴿وَرَ ٰوَدَتۡهُ ٱلَّتِی هُوَ فِی بَیۡتِهَا عَن نَّفۡسِهِۦ وَغَلَّقَتِ ٱلۡأَبۡوَ ٰبَ وَقَالَتۡ هَیۡتَ لَكَۚ قَالَ مَعَاذَ ٱللَّهِۖ إِنَّهُۥ رَبِّیۤ أَحۡسَنَ مَثۡوَایَۖ إِنَّهُۥ لَا یُفۡلِحُ ٱلظَّـٰلِمُونَ﴾ يوسف:٢٣.
ذكر كاتب أن هناك عبارة تكتب في طرقات بعض البلدان، تقول:”أنت لست وحدك.. كلنا نراك”، مضيفاً:”وهذه رسالةٌ واضحة لإيقاظ هذا الضمير، فإذا عرفتَ أننا نراك فلا تخالف في الشارع، ولا تُلقِ بالقمامة على الأرصفة، ولا تقطع إشارة المرور، إذا عرفت أننا نراك فلا تُسِئْ في أفعالك، إذا عرفت أننا نراك فلا تُتلف ممتلكات الدولة أو ممتلكات الآخرين، إذا عرفت أننا نراك فأدِّ عملَك على أفضلِ صورة”[1].
هذا الضمير الحي هو صمام الأمان في المجتمعات، والأساس في تقدمها؛ فلا يتصور أنها تتقدم وترتقي بكثرة القوانين واللوائح، بل بيقظة الضمائر وصحوتها، ونبل الأخلاق ونصاعتها، واستحضار رقابة الرقيب الذي لا يغفل ولا ينام:﴿ٱللَّهُ لَاۤ إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلۡحَیُّ ٱلۡقَیُّومُۚ لَا تَأۡخُذُهُۥ سِنَةࣱ وَلَا نَوۡمࣱۚ لَّهُۥ مَا فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَمَا فِی ٱلۡأَرۡضِ﴾ البقرة:٢٥٥.
قوة القانون نفسها بحاجة إلى وجود “‘سلطان’ نازع وازع، يكفل مهابته في النفوس، وانتهاك حرماته.. ما هو؟ … إنه ليس على وجه الأرض قوة تكافئ قوة التدين أو تدانيها في كفالة احترام القانون، وضمان تماسك المجتمع واستقرار نظامه، والتئام أسباب الراحة والطمأنينة فيه، السر في ذلك أن الإنسان يمتاز عن سائر الكائنات الحية بأن حركاته وتصرفاته الاختيارية يتولى قيادتها شيء لا يقع تحت سمعه ولا بصره، ولا يوضع في يده ولا عنقه، ولا يجري في دمه، ولا يسري في عضلاته وأعصابه، وإنما هو معنى إنساني روحاني، اسمه الفكرة والعقيدة”[2]، وبتعبير آخر هو “الضمير المتصل بالله”، الذي تحدث عنه النبي محمد ﷺ في حديث وابصة بن معبد حيث قال له:{استفتِ نفسك، البر ما اطمأنَّتْ إليه النفس، واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك فى القلب، وتردَّد فى الصدر، وإن أفتاك الناسُ وأفتَوْك}[3]، وقال ﷺ:{البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس}[4].
لن تكون القوانين والقواعد فاعلة بحق بدون هذا الضمير الحي؛ فما نفعها والضمائر ميتة، وما جدواها والنفوس غافلة؟ وكم من الناس ماتت ضمائرهم، وكم منهم باعها، واشترى بها ثمنًا قليلاً!!!
وموت الضمير معناه قتل الرقيب الداخلي ..
وأنى لمن هذا حاله أن يميز الصحيح من الخطإ؟! أليس حينها سيكون “الران”، الذي تحدث عنه النبي ﷺ لما قال:{إنَّ العبدَ إذا أخطأَ خطيئةً نُكِتت في قلبِهِ نُكْتةٌ سوداءُ، فإذا هوَ نزعَ واستَغفرَ وتابَ صُقِلَ قلبُهُ، وإن عادَ زيدَ فيها حتَّى تعلوَ قلبَهُ، وَهوَ الرَّانُ الَّذي ذَكَرَ اللَّه:﴿كَلَّاۖ بَلۡۜ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا۟ یَكۡسِبُونَ﴾ المطففين:١٤}[5] .. ما أشقى ميت الضمير ومنعدمه!! ..
لكن .. مع ذلك لا بأس ولا يأس؛ فرحمة الله واسعة … وليس مستحيلاً ولا صعباً إيقاظ هذا الضمير وإحياؤه ما حضر الوعي والعزم ..
فها أنت ذا في صوم رمضان تعيد بناءه وتجديده وصيانته، بنفض ما علق عليه من غبار.. إنها العبادة الخفية التي تربي فيك المراقبة الدائمة لله … وصحوة الضمير … ويقظة الروح والوجدان..
ألست تحرص في رمضان وَأنْت صائم على تجنب السوء ولو مثقال ذرة!؟ وعلى فعل الخير ولو مثقال ذرة؟ ألست تكون في أعلى قدر من اليقظة والانتباه والحرص على عدم الوقوع في الزلل؟! ألست تكظم غيظك وترد حنقك بقولك: إنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ !!كما علمك المصطفى ﷺ أن تقول!؟[6]
إنك بتعودك على هذا الحال من الحرص والانتباه واليقظة في رمضان، يتكون لديك ما يسمى بالضمير الخلقي اليقظ .. والظن فيك والمتوقع منك الابتعاد عن الجرائم والانحراف، والطهر من الاختلالات والرذائل، وبذا تستفيد الحياة منك استقامة خلقية، وتصبح أنموذجاً للمسلم الذي ينفع ولا يضر،كالغيث أينما حل نفع.
فعجبا لأمر هذه العبادة!.. مصنع “التقوى”:﴿یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ كُتِبَ عَلَیۡكُمُ ٱلصِّیَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ﴾ البقرة:١٨٣. وهي بناء لهذا الضمير المتصل بما تمثله من حالة التوقي المستمر، والحرص على الوقاية، والحذر الدائم من مجانبة الصواب كما هي دلالتها في اللغة. وهي أيضا سعي دائب لتحري الحق والصواب بمقتضى قيم الإيمان والتوحيد وأحكام الشريعة ومقاصدها. هي تعبير عن حضور دائب للذهن، وصحوة الفكر، وعن حالة مرتفعة لمنسوب استشعار رقابة الله تعالى في التصرفات والسلوكيات، واليقظة والوعي والالتزام المسؤول نهوضا بواجب الوقت ومهام المرحلة.
أيها الصائم …
يبدو لك الصوم مرةً أخرى مدرسة كبرى تعلمك مهاراتٍ وكفايات كبيرة نحيا بها، ليس في رمضان فحسب، بل لتخرج بها إلى الحياة؛ فما صومك الرمضاني إلا صوم صغير، للتخرج إلى الصوم الكبير في الحياة، لتوجه إراداتك وعزائمك وآمالك ونواياك إلى أفعال ونضالات وجهاد تغير به وجه العالم.. ولتفسح المجال لأنواع جديدةٍ للصوم في المجال العام، لتحصل التقوى في السياسة، وفي الاجتماع، وفي الاقتصاد، وفي الثقافة، وفي الفن، وفي الحرب، وفي السلم، وفي السوق والملاهي والمقاهي والملاعب، وفي كل مكان وكل زمان ..
ذلك أن الصوم ليس مجرد حالة ذاتية تتحدد بالجانب العبادي للإنسان، وتنحصر في أيام معدودات، بل هو منصة انطلاقة إيمانية، وحركية إسلامية تشمل خط الحياةكله، والممارسة كلها.
فعجبا لأمر هذه العبادة! بل عجبًا لك أنت أيها الصائم!!
لأنك بهذا الحال من التقوى تمثل تجربة إنسانية ناصعة للضمير الحي الصافي النقي المتصل بالله، المنطلق من خشيته ورقابته ومحبته وابتغاء مرضاته …
أيها الصائم..
اعلم أن هذا فضل آخر عظيم من فضائل الصيام عليك وقد أمرت بإقامة منهج الله في الحياة وإعمار الأرض، إنه ميدان كبير لإحياء الضمير وتوثيق صلتك بالله .. والتعود على ذلك ..
هذا هو الصيام .. مدرسة الدروس العظام، والتأهل للمسؤوليات الجسام… وحيث الضمير المتصل مبني
فتذكر: “صم وع لم تصوم”… واستعن بالله وتوكل عليه، واسأله التوفيق والسداد والإصابة، بكل حرقة بكل إخلاص، وإذا استطعت بدمع سخي وقلب نقي…
[1]– الضمير الحي، حسام الدين السامرائي، موقع الالوكة: alukah.net مع التصرف.
[2]– عبد الله دراز، الدين، ٩٨-٩٩.
[3]– أخرجه أحمد بسند صحيح.
[4]– أخرجه مسلم.
[5]– أخرجه الترمذي.
[6]– أخرج البخاري أن النبي قال:{… وإذَا كانَ يَوْمُ صَوْمِ أحَدِكُمْ فلا يَرْفُثْ ولَا يَصْخَبْ، فإنْ سَابَّهُ أحَدٌ أوْ قَاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ: إنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ}