﴿ثُمَّ ٱسۡتَقَـٰمُوا۟﴾ – الجزء الخامس عشر (١٠) سلسلة “نتغير لنغير”
د.فاطمة الزهراء دوقيه
﴿ثُمَّ ٱسۡتَقَـٰمُوا۟﴾ – الجزء الخامس عشر (١٠) سلسلة “نتغير لنغير”
د.فاطمة الزهراء دوقيه
صمتَ رمضان، وجعتَ وظمئتَ وأقبلتَ وسارعتَ، لكنه كان الأسرع .. رحل كما يرحل دوماً بعد أيامٍ معدودات … نعم أيام معدودات .. كما في الدرس في المقال السابق … ولو لم يكن في رمضان إلا هذا الدرس يرسخه في نفسك،، ويشكله في عقلك ويجليه في قلبك، لكان كافياً جدا، ولكفى به موعظةً .. لو لم يكن فيه إلا درس الإحساس بالزمن، الذي يجعلك تحس بالعمر الذي يتفلت من بين أصابعك، لكان كافياً جدا..
أَتَذْكُر أنه دخل من هناك فجأة، وخرج من هنا فجأة، وها هو ذا العيد أتى كلمح البصر، بل وذهب بدوره، ما كان يبدو لك شهراً طويلاً، وتذمرت من ذلك، دون أن تعبر بلسانك تأدباً وأدبًا، ها هو مر في غمضة عين قبل أن تستوعب شيئاً!.. وكذلك هو عمر الإنسان..
رحل رمضان كما يرحل دوماً وذهب، ولكنه عندما يذهب، يذهب بحقائب فارغة إلا من مشاكلنا ومشاكل تخلفنا ومطالبنا وأمانينا التي لا تنتهي، يذهب بحسرة على أوضاعنا المزرية، وحالتنا المبكية، التي تأبى على التغيير، وتستعصي على النهوض، ذهب وترك خلفه صرخات وأنات هنا، ودمعات تسيل هناك، ودماء تنزف هنا وهناك …
ذهب وهذا هو الحال .. ولو كان مثل المغتربين لأقسم ألا يأتي العام القادم، لكنه ويا لكرم الله ويا لرحمته بنا ويا لشفقته علينا !!! يعيده كل مرة، وفِي جميع الأحوال لا يخلفه، ولا يؤخر زيارته، وقد قال سبحانه:﴿۞ قُلۡ یَـٰعِبَادِیَ ٱلَّذِینَ أَسۡرَفُوا۟ عَلَىٰۤ أَنفُسِهِمۡ لَا تَقۡنَطُوا۟ مِن رَّحۡمَةِ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ یَغۡفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِیعًاۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلۡغَفُورُ ٱلرَّحِیمُ﴾ الزمر:٥٣؛ فعساكم تتوبون، ولعلكم تنهضون، وليتكم تفهمون وتعون!!!
رمضان رحل كما يرحل دوماً .. فهل ينتهي الأمر عند صومه بالإمساك عن الطعام فيه والشراب، والصبر على مشاقه، والقيام، والصلوات والخلوات، والدعوات، والبكائيات ..
كلا لم ينته، ولا ينتهي لأن الله سبحانه قال:﴿فَسَبِّحۡ بِحَمۡدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ ٱلسَّـٰجِدِینَ ٩٨ وَٱعۡبُدۡ رَبَّكَ حَتَّىٰ یَأۡتِیَكَ ٱلۡیَقِینُ﴾ الحجر:٩٨-٩٩.
الأمر ليس متوقفاً عند الصوم بأبسط معانيه وإيمانياته وروحانيته في شهر رمضان، بل كن دوما من الصائمين.. و”صم حتى يأتيك اليقين”.
المهم في رمضان، ما أخذت منه من دروس وعبر، وإلى ما بعده بالتأكيد … المهم فيه هل ترك أثراً عليك؟ هل تذوقت وعرفت لتغترف؟ أم إنك ستعود -كما كنت- لحياتك السابقة؟ هل أحدث فرقاً، أم أنه شهر وكفى، وبعدها تعود لما كان عليه الحال؟! لذلك قل لنفسك: سأفتش عن رمضان بعد رمضان ..
إن صوم رمضان كان الصوم الصغير والجهاد الأصغر، أعدَّك للصوم الكبير، وأهَّلك للجهاد الأكبر..
فكلما أتاك رمضان، شهد لك على نفسك، وترك فيك قيماً ما إن تمسكت بها لاكتفيت ..
لقد علمك الكثير والكثير.. دربك على قدرات ومهارات، وملكك كفايات تكفيك العمر كله .. أودع لديك أماناتٍ، لتحافظ عليها ..
وجامع كل ذلك وعنوانه الكبير، هو تلك القدرة العظمى التي أنت بأمس الحاجة إليها في ظل الواقع الإسلامي المزري، القدرة على التغيير .. تغيير ما بنفسك ..
أليس كل شيء في رمضان يتغير، عاداتك تتغير .. نمط حياتك يتغير .. مواعيدك تتغير .. الخلايا في جسمك نفسها تتغير … نفسيتك تتغير .. وأوضاعك كلها تتغير.. وأنت في خضم ذلك تساير وتتغير.. والجميل أنك تعتاد على ذلك.. على التغيير .. فتستبدل ما تعودته قبل رمضان بعادات جديدة..!!!؟
أليس يثبت ذلك ويشهد لك على قدرتك على التغيير وقدرتك على التحرر من حالة الرتابة وسلطان العادة وتحكمها وجبروتها ؟!!
أليس حالك في رمضان نسفٌ لمقولات: “لا أستطيع.. لا أقدر..الظروف أقوى مني .. الظروف صعبة .. لست وحدي في هذا الواقع ..”
إن فرصة تغييرك الذهبية قد حصلت في رمضان..
فها هو رحل وذهب، لكنه أبقى فيك أماناتٍ، وأقام عليك الحجة، اعتدت على المبادرة والمسارعة والقرب والتودد، وصدق الذكر والدعاء والتعبد، وكل ذلك من زاد التغيير.. لا غنى عنه في تغييرك لما بنفسك، وتحررك من الطغيان.. وخير الزاد التقوى.. وقد صنعتها في رمضان وتدربت عليها.. محلها القلب.. وأداتها المكابدة والمجاهدة.. ومظهرها السعي الحثيث والإقبال.. وثمارها قلب يقظ..وفكر وعاء.. وحساسية ضمير.. وحذر دائم.. ودمع سخي.. وخشية مستمرة.. وسلوك ملتزم..
وما التغيير المنشود إلا كل ذلك.. وقد اكتسبته في رمضان وتعلمته واعتدت عليه.
فو الله لن تتعلمه في أي معهد ولا أي فصل دراسي يصنعه البشر.. مهما أغروك بالجودة والإتقان.. فلا تضيع وحافظ.. وأخبر نفسك أنك السلطان عليها، وقد أثنى الله تعالى على المؤمنين لأعظم صفة فيهم؛ إذ قال:﴿وَٱلَّذِینَ هُمۡ لِأَمَـٰنَـٰتِهِمۡ وَعَهۡدِهِمۡ رَ ٰعُونَ﴾ المعارج:٣٢.
في الختام لا بد من القول..
الحقيقة التي تظهر جلية وساطعة أن رمضان مدرسة كبرى للتغيير، للتربية والتعليم ذات شعب مختلفة؛ “إذا أحسن المنتسبون إليها أدبهم معها، خرجوا بشراً جدداً غير الذين كانوا في الأمس، فرمضان دورة يُقبل بها المسلمون على عالم جديد، ويخلفون وراءهم عالما آخر.. إنهم يقبلون على عالم جديد بهمة جديدة، وروح جديدة، وانتعاش جديد، وأمل يرتفعون به عن أن تكون الدنيا أكبر همهم، ويتذكرون فيه أن الآخرة ورضوان الله فيها هي الهدف الاكبر، الذي لا ينبغي أن يغيب عن قلوبهم وعقولهم[1].
صيامك إذاً، دربك في أيام معدودات على كل تلك العناصر اللازمة في إعدادك لاحتمال الطريق إلى الله المفروش بالعقبات والأشواك؛ والذي تهتف بسالكيه آلاف المغريات والشهوات! صيامك دربك على التحرر، وما أحوجنا إلى هذا التحرر ..
دربك على قوة الإرادة والعزم وعلو الهمة؛ وأعاد لك اتصالك الوثيق بربك اتصال طاعة وانقياد واستسلام ورضا؛ دربك على الاستعلاء على ضرورات الجسد كلها، واحتمال ضغطها وثقلها، إيثاراً لما عند الله من الرضى والمتاع:﴿وَمَاۤ أُوتِیتُم مِّن شَیۡءࣲ فَمَتَـٰعُ ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَا وَزِینَتُهَاۚ وَمَا عِندَ ٱللَّهِ خَیۡرࣱ وَأَبۡقَىٰۤ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ﴾ القصص:٦٠..
صيامك دربك في أيام معدودات على كل ذلك وغيره، مما لا يتسع المقام والمقال لذكره، جامع كل ذلك أعدَّك بما يلزم لدورك الاستخلافي في الارض، التحريري للبشرية، المرشد للإنسانية، إنه لتهيئتك للكمال المقدر لك في الحياة الآخرة، وما يتطلبه كل ذلك من صحوة ضمير ووعي عقل وفكر، وتقوى قلب وسلامته.. فحافظ على هذا الحال على طول الخط، لتحقق الصوم الكبير..
وَإِلَى حديث قادم عن مدرسة أخرى من مدارس الإسلام التغييرية ..