﴿ثُمَّ ٱسۡتَقَـٰمُوا۟﴾ – الجزء الرابع عشر – (١٠) سلسلة “نتغير لنغير”
د.فاطمة الزهراء دوقيه
﴿ثُمَّ ٱسۡتَقَـٰمُوا۟﴾ – الجزء الرابع عشر – (١٠) سلسلة “نتغير لنغير”
د.فاطمة الزهراء دوقيه
هل تجد ذلك الشعور بالمرارة والحسرة !! وتتساءل “ما أعجلك عنا يا أيام؟!”
الضيف يسرع خطى الرحيل …
وبالكاد نزل عندنا..
وبالكاد ألفناه ..
فالسباق السباق …
فيما هو باق …
لنودعه راضيا لا مغاضبا ..
*****
يقول الله تعالى:﴿یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ كُتِبَ عَلَیۡكُمُ ٱلصِّیَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ * أَیَّامࣰا مَّعۡدُودَ ٰتࣲۚ﴾ البقرة:١٨٣-١٨٤.
يذكر سبحانه أبرز صفة لشهر الصيام أنه:﴿أَیَّامࣰا مَّعۡدُودَ ٰتࣲ﴾؛ والتعبير بِأيّامٍ دال على جمع قلة، والوصف بِمَعْدُودات كِنايةٌ عَنِ القِلَّة؛ لِأن الشّيء القَلِيل يعد عَدًّا؛ ولِذلك يقولون: الكثير لا يعد[1].. وإنما عبر الله تعالى بهذا التعبير تَهْوِينًا لِأمْرِ هذا الصيام على المؤمنين؛ ليهوّن به عليهم كلفة الصوم ومشقته، إذ لم يجعله شهوراً ولا أعواماً [2]. وحاشاه سبحانه أن يريد منك أن تقلل من شأن هذه الأيام غُرُورًا أوْ تَغْرِيرًا، كما يفعل أهل النار الذين جاء على لسانهم ما ذكره تعالى في قوله:﴿وقالُوا لَنْ تَمَسَّنا النّارُ إلّا أيّامًا مَعْدُودَةً﴾ البقرة:٨٠.
بل إن المؤمن يستشعر الإشارة إلى سرعة انقضائه؛ فما أن يبدأ الشهر ويهنئ الناس بعضهم بعضا بحلوله، إلا وتكون قد انقضت عشرة أيامه الأولى، فتتبعها الوسطى، ويدخلون في العشر الأواخر التي تحوي أفضل الليالي، ليلة القدر، ثم ما يلبثوا أن يودعوه ..
إن الدرس العميق والأعظم في الوجود يكمن في هذا التعبير .. إنه الشعور الذي أنت بأمس الحاجة إلى تنميته وتعزيزه، بل وتفعليه، لتحقيق النهضة المرغوبة، وتسير إلى الله كما يحب ويرضى، إنه الشعور بالوقت وأهميته، وخطورة تفويته والغفلة عنه، لأنه العنصر الأساس في النهوض بالحال…
وكم هو معبر ذلك التوصيف للزمن للمفكر مالك بن نبي إذ يقول:”الزمن نهر قديم يعبر العالم منذ الأزل ..! فهو يمر خلال المدن يغذي نشاطها بطاقته الأبدية، أو يذلل نومها بأنشودة الساعات التي تذهب هباء؛ وهو يتدفق على السواء في أرض كل شعب ومجال كل فرد، بفيض من الساعات اليومية التي لا تغيض، ولكنه في مجال ما يصير(ثروة)، وفي مجال آخر يتحول عدما. فهو يمرق خلال الحياة، ويصب في التاريخ تلك القيم التي منحها له ما أنجز فيه من أعمال. ولكنه نهر صامت، حتى إننا ننساه أحياناً، وتنسى الحضارات، في ساعات الغفلة أو نشوة الحظ قيمته التي لا تعوض”[3].
للأسف هذا هو الواقع!!
وبحسرة قال نفس المفكر:”وحظ الشعب العربي والإسلامي من الساعات كحظ أي شعب متحضر، ولكن… عندما يدق الناقوس منادياً الرجال، والنساء، والأطفال إلى مجالات العمل، في البلاد المتحضرة… أين يذهب الشعب الإسلامي؟! تلكم هي المسألة المؤلمة… فنحن في العالم الإسلامي نعرف شيئاً يسمى “الوقت”! ولكنه الوقت الذي ينتهي إلى عدم، لأننا لا ندرك معناه، ولا تجزئته الفنية. لأننا لا ندرك قيمة أجزائه من ساعة ودقيقة، وثانية، ولسنا نعرف إلى الآن فكرة (الزمن) الذي يتصل اتصالاً وثيقاً بالتاريخ، مع أن فلكياً عربياً هو “أبو الحسن المراكشي” يعتبر أول من أدرك هذه الفكرة الوثيقة الصلة بنهضة العلم المادي في عصرنا”[4].
ويستمر قائلا:”إن وقتنا الزاحف صوب التاريخ لا يجب أن يضيع هباء، كما يهرب الماء من ساقية خربة. ولا شك أن التربية هي الوسيلة الضرورية التي تعلم الشعب العربي الإسلامي تماماً قيمة هذا الأمر، ولكن بأية وسيلة تربوية؟”[5]
نعم .. إنه السؤال الوجيه! بأية وسيلة تربوية سنتعلم قيمة الوقت، وندرك معناه، وتجزئته من ساعة ودقيقة، وثانية.
ألا تستشعر هذه القيمة، وهذا المعنى، وتلك التجزئة فِي مدرسة التربية “رمضان”! ألا تستشعر كم أن أيامه تمضي على عجل، وكيف أن دقائقه وثوانيه تتسرب بسهولة كما يتسرب الماء، حتى إذا حدثت نفسك عن العودة القهقرى .. تعود حسيرة لِأنه لا يعود، ولا شيء في الواقع اسمه آلة الزمن .. ومنذ أن يدخل وأنت تحسبها، وتتحسر لمرورها سراعاً، ولسهولة انفلاتها، متهماً نفسك بالتقصير في القرب.. في التزود.. في الحب .. في التعبد ..
إن ضيفك هذا دائما يأتيك عجولا … وبمجرد دخوله يستعجلك ويوقد فيك الوثوب وحالة الاستنفار وينادي فيك بما قاله تعالى:﴿۞ وَسَارِعُوۤا۟ إِلَىٰ مَغۡفِرَةࣲ مِّن رَّبِّكُمۡ وَجَنَّةٍ عَرۡضُهَا ٱلسَّمَـٰوَ ٰتُ وَٱلۡأَرۡضُ أُعِدَّتۡ لِلۡمُتَّقِینَ﴾ آل عمران: ١٣٣.
فالسباق السباق .. فيما هو باق .. فلا يحتمل التقصير … ولا مجال للتسويف… ولقد كان رسولنا الكريم ﷺ إذا دخل العشر الأواخر شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله ..
وإن في كل هذا لدرس بليغ، درس أهمية الزمن، وخطورة تضييعه، درس يذكرك بالوقت المسخر بين يديك، وأنه إذا مضى لا يعود.
فلا تغتر ولا تتوهم بما تبدو عليه الأيام في ظاهرها وكأنها ستدوم، بل إنها عجولة وطائرة على جناح السرعة..
وكذلك هي الحياة:﴿كَأَنَّهُمۡ یَوۡمَ یَرَوۡنَهَا لَمۡ یَلۡبَثُوۤا۟ إِلَّا عَشِیَّةً أَوۡ ضُحَىٰهَا﴾ النازعات:٤٦.
إن حياتك دورة زمنية محددة.. وكأنها مطوية مركزة، والله تعالى قد طواها كطي الكتاب.. وهو يقسم بالزمن في العصر: ﴿وَٱلۡعَصۡرِ ١ إِنَّ ٱلۡإِنسَـٰنَ لَفِی خُسۡرٍ ٢ إِلَّا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ وَتَوَاصَوۡا۟ بِٱلۡحَقِّ وَتَوَاصَوۡا۟ بِٱلصَّبۡرِ ٣﴾.
عن هذه السورة ورد أن الشافعي قال:”لو تدبر الناس هذه السورة لوسعتهم”. وقال: لو لم ينزل إلى الناس إلا هي لكفتهم”.
وهكذا .. يظهر لك فضل آخر عظيم من فضائل الصيام عليك وأنت المأمور بإقامة منهج الله في الحياة، في إعمار الأرض.. إنه ميدانك الكبير للتدرب على استشعار قيمة الوقت، وإدراك معنى الزمن بأجزائه.. لا، بل بجزئياته.
إنه الصيام .. مدرسة الدروس العظام، والتأهل للمسؤوليات الجسام .. فتذكر ..”صم وع لم تصوم” .. واستعن بالله وتوكل عليه، واسأله التوفيق والسداد، بكل ذل بكل إخلاص، وبدمع سخي وقلب نقي…
[1]– التحرير والتنوير،٢/١٦١.
[2]– ايسر التفاسير، أبو بكر الجزائري، طبعة دار راسم، ١/ ١٦٠.
[3]– شروط النهضة، مالك بن نبي، ص ١٣٩.
[4]– نفسه، ص ١٤٠.
[5]– نفسه، ص ١٤٠.