ليس المتقصى في هذا الوجيز من القول الوقوف على أفضلية العربية على غيرها من اللغات، ولا التهمم ببيان خصائصها أو مكانتها، بل القصد هنا محاولة الجواب عن سؤال يكثر تداوله حين الحديث عن الحاجة لحماية العربية باعتبار أنها لغة نزول الوحي الخاتم.
ولبسط هذا السؤال نصوغ جملة من التساؤلات المدخلية ترسم معالمَ الجواب لاحقا :
فما الداعي للاهتبال باللغة العربية تدينا؟ هل كونها لغة عرق أو بيئة معينة؟ أم كونها ذات خصائص منعدمة في غيرها من اللغات؟ هل يقتضي نزولُ الوحي بالعربية تركَ غيرها وعدمَ الدعوة لإحيائها أو محوها من الوجود الاجتماعي ربما؟ هل يتناقض الالتزام بالهوية اللغوية قوميةَ مع الالتزام بها تدينا؟
إن محاولة الجواب عن هذه التساؤلات في نظري يستدعي بسطَ حقيقة قرآنية حقيق بكل ناظر ستحضارُها والانطلاقُ منها، وهي أن التنوع اللغوي والتواصلي بين جنس الانسان هو مظهر من مظاهر التكوين الالهي فان جعل الانسان مهيأ للنطق بلغة ما أو بشكل تواصلي ما لا دخل للكسب البشري فيه بل هو محض خلق رباني شأنه كالاختلاف في أشكال والوان وهيئات المخلوقات من الكائنات الحية والجمادات وهو أمر أكده القرآن في مواطن عدة كقوله تعالى: (وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [ فصلت الآية 21] وفي قوله: (الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الإنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) [ الرحمن الآية 4] وجاء بتصريح أكثر في قوله تعالى:( وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ ) [ الروم الآية 22] فأنت ترى أن اختلاف الألسنة وتنوع اللغات حسب الآية يمثل حقيقة خَلْقية كونية دالة على ربوبية الخالق، بيد أن ذلك لا ينفي أن تكون مما يدخله الكسب البشري تعلما وتأثرا ببيئة لغوية معينة بغض النظر عن تصنيفات اللغويين واللسانيين لأنواع اللغات وأشكال التواصل البشري.
وتأسيسا على ما قررناه في هذه الحقيقة الكونية القرآنية فإن من مقتضياتها الدينية والإيمانية أن لا يتجاوزها أي مسلم، فلا يركب مركب العنصرية تجاه أي لسان أو لهجة مهما كانت ومهما كان أصحابها عقيدة وسلوكا وموقفا من الإسلام نفسه، تماما كما لا يليق به الانتصار للون والعرق وغيرها مما يندرج ضمن الهيئة الخَلقية التي هي محض فعل الخالق.
إذا ثبت هذا وقبلته فلتعلم رعاك الله أن السبب في اختيار لغة ما لنزول الوحي بها لا يصح شرعا إرجاعُه لأمر ذاتي وفضل راجح لذات اللغة أو الشخص الذي يتكلم بها ،ولا لبيئة لغوية ما ،كلا كلا بل إن الذي يجب القطعُ به دون تردد أن ذلك محضُ اختيار رباني وفق حكمة الرب الذي يختار ما يشاء ومن يشاء، وذلك أن قضية النبوة والرسالة هي قضية اختيار ليس إلا، فلا تُنال بمزية لشخص أو مزية بلد أو مزية لغة وغير ذلك وهو أمر معلوم من الدين بالضرورة كما صرح القرآن بذلك في قوله:( وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَاتهُ) [ الأنعام الآية: 124] وفي قوله:( ٱللَّهُ یَصطَفِی مِنَ ٱلمَلائكَةِ رُسُلا وَمِنَ ٱلنَّاسِ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِیعُ بَصِیر) [ الحج الآية: 75] وهذا الجعل والاصطفاء الرباني يشمل البيئةَ والشخصَ واللغةَ.
ولكن بعدَ الاختيار أي بعد جعل الله شخصا ما نبيا ورسولا، وبعد اختيار اللغة المعينة لنزول الوحي الخاتم ،فحينها إن وجدنا ما يدل على عظم المكانة وفضلها ورجحانها وجب القطعُ بذلك، وإلا فلا، فلما وجدنا واقعَ الحال في القرآن يُنوه بالعربية، وأنه لا سبيل لفهم معانيه، ولا بسط ألفاظه إلا بالاستعانة بالمنطق اللغوي ومعهود العرب، كان من هذا الوجه لزاما أن يكون للعربية موجب ديني تعلما وتعليما وحماية لكونها تؤدي وظيفتين رئيستين:
الوظيفة الأولى : وظيفة إفهامية فهي آلية فهمية دائمة دوام كون القرآن عربيَّ اللفظ والأسلوب.
ومن هنا عظمت عنايةُ علماء الأمة مشرقا ومغربا بالعربية جمعا لمعجمها، وتقعيدا لقواعدها النحوية والصرفية والبلاغية …ودعوة لحمايتها، ويقوي هذا ويؤكده إقبالُ غير العرب عليها من الفرس والهند والأمازيغ وجميع المسلمين.
الوظيفة الثانية: حماية وحفظ الذاكرة الإسلامية.
فقد اضطلعت العربية بحمل تراث الأمة في كل جوانبه، فهي حاملة الثقافة الإسلامية، نعم شاركتها بقية لغات و ولهجات المسلمين إذ وظفوا لغاتهم التواصلية لبث الثقافة الإسلامية حتى وصل بهم الأمر أن صاروا على سنن العربية في تقعيد العلوم الإسلامية دراسة وتدريسا.
ومن هنا فإن اللغة العربية من هذا الوجه لا يُتصور من مسلم معاداتُها، وبالأحرى أن يسعى لحربها والتنقيص منها ومحو وجودها، وهو إن فعل ذلك لا شك مجانب للصواب، مستحق للعتاب.
ولقائل أن يلوح بسؤال ينبغي استدعاؤه فيقول: هل يعني ما قررتم أن يُغفل الشخص المسلم لغته التي ولد عليها وورثها في بيئته أبا عن جد ليظهر أنه كاملُ الانتماء للدين؟؟
والجواب أن أحدا ممن يعتد بقوله لم يقل بهذا ولا كان هذا مثار إشكال عبر تاريخ المسلمين مشرقا ومغربا، وذلك راجع بالدرجة الأولى لطبيعة رسالة الإسلام العالمية، فعالميته لا تجري على سنن الفكر الغازي الذي يسعى لمحو الهويات والخصوصيات الذاتية للشعوب، وليس إديولوجية شخصية صادرة من جنس أو عرق، بل رسالة خالقِ الكون قائمة على عدم الإكراه والإجبار على الإيمان بها، فلم يجعل الإسلام ترك اللغات المحلية شرطا في الدخول للإسلام، ولا شرطا لقبول الأعمال، اللهم إلا ما يتعلق بما لا تصح فيه الترجمةُ كقراءة القرآن بلفظه إذ تستحيل ترجمته على الحقيقة إلى غير العربية، بل إن الذي نطق به التاريخُ وسجله أن مسلمي العالم في مشارق الأرض ومغاربها وظفوا كل ما يملكون من طاقات لغوية وفكرية خدمة للدين تقربا لربهم ورجاء مرضاته، وهو مظهر من مظاهر التعايش الذي يعد من صميم رسالة الإسلام.
ومن هنا يتعين التمييز بين الاهتمام بالعربية بداعي التدين بسبب كونها وسيلة وآلية فهمية للنص الإسلامي قرآنا وسنة وحاملة للثقافة الإسلامية عبر التاريخ، وبين كونها لغةَ قوم وهوية بيئية لمجتمع ما. فبالنظر للاحتمال الأول يتعين على كل مسلم في أي قطر من الأرض أن يسعى حسب قدرته لحماية العربية لكونها الوسيلة الوحيدة لفهم وإفهام دينه الذي خلق من أجله أساسا، وقياما منه بالواجب الحضاري بغض النظر عن بلده ولغته ما دام مسلما.
وأما بالنظر للعربية باعتبارها لغة قوم ما وهوية ثقافية لبيئة ما فمن حق أي بلد أن ينتصر للغته ويدعو لحمايتها وعدم إغفالها ومحوها لأن هذا مما ينسجم مع عالمية الإسلام كما ألمعنا إليه سابقا، ولأنه لا يمكن سلخُ الإنسان من موروثه اللغوي، فهو نوع من العدوان القسري الذي لا يرتضيه الإسلام. ولكن دون أن يتخذ ذلك ذريعة ووسيلة للتضييق على العربية من زاوية كونها وسيلة فهمية للنص الإسلامي قرآنا وسنة وما تفرع منهما كما يحاول البعض جاهدا أن يفعل تحت ذريعة حماية الهوية المحلية والحال أنه يقر ويُعلن أنه مسلم.
والحاصل أن العربية لها بعد ديني يتجلى في خاصية التذرع بها إلى فهم الوحي ابتداء، وبمقتضاه وجب على كل مسلم حمايتها حسب طاقته، وأن ذلك لا يتعارض مع التعلق بلغته الأم وحمايتها لأن ذلك مما ينسجم تماما مع عالمية الإسلام فلا داعي للمزايدة عليه، اللهم إلا إذا كان الانتصار للعربية بداعي القومية المحضة فحينها من حق أي قطر الانتصار لذاته ولغته ولو بنفس الداعي.