منار الإسلام
موقع تربوي تعليمي أكاديمي

ولاية الحاكم المتغلب بين التأصيل والتبرير

0

مدخل إلى الموضوع:

 تعتبر قضية الحكم على رأس القضايا الشائكة التي فرضت على المسلمين مباشرة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد كان وجوده بين ظهراني الأمة ملاذا لكل الحيارى، وأمانا من كل الفتن والبوائق، كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: ” أن الله جعل لهذه الأمة أمانين: وجود رسول الله صلى الله عليه وسلم والاستغفار، فذهب أمان وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم وبقي أمان “[1] وهذا مصداقا لقوله تعالى: ” وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون[2]. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم الحاكم والقائد والزعيم والقاضي والمربي والزوج إلخ، بل هو القدوة والنموذج البشري في كل ذلك، محلى بالحكمة والرحمة للخلق أجمعين، هبة من السماء لم يكن فيها للبشر دور، وبمجرد اختفائه من المشهد، برزت إشكالية الخلافة، لأنه لم يعهد بها لأحد على الصحيح، المجتمع لا زال فتيا والمناوئون كثر. الحكمة تقتضي السرعة والحسم ولو قبل دفن جسده الشريف، واستنادا إلى مجموعة من القرائن من حظ وسابقة وغناء بويع لأبي بكر الصديق رضي الله عنه، من طرف مجموعة من الصحابة بعدما تشاوروا وتداولوا في ذلك، وبويع لعمر بعد وفاة الصديق بتوجيه من أبي بكر وتزكية من المسلمين ثم لعثمان بالترشيح ولعلي بن أبي طالب عن طريق الانتخابات، رضي الله على الجميع ورحمهم،…إنها بدايات موفقة لو سارت على نفس النهج لتكتمل وتنضج، لأن الشكل والطريقة من اختيار الأمة واجتهادها، بخلاف من يحاول أن يجعلها من المقدسات والعقائد، ” قامت الخلافة الراشدة على الانتخاب وعدم الوراثة واعتمدت على الشورى في الحكم ورفضت الفردية، ولم يعهد عن الراشدين أنهم أوصوا بها لقريب…” [3]

 لم تطف إشكالية اختيار الحاكم على السطح في العهد الراشدي الأول، ولكنها ظهرت بعد مقتل ذي النورين وما صاحب ذلك من بلبلة وغوغاء مكنت خفافيش الظلام من الظهور لتشتعل نار الفتنة بين خيار الصحابة أنفسهم، أفضت إلى تحريك النفوس وما تحمله من عصبيات وحامية جاهلية مما أدى إلى التناحر والتقاتل خاصة بعد انخراط الأمويين في المعركة وقتل الإمام علي كرم الله وجهه، والسيطرة على الحكم بالقوة والغلبة مما أحدث شرخا كبيرا في مسار تاريخ المسلمين، سماه بعض العلماء بحق، الانكسار التاريخي.

الانكسار التاريخي ونتائجه:

 روى الإمام أحمد عن أبي أمامة الباهلي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ” لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة، فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها، وأولهن نقضا الحكم وآخرهن الصلاة[4]صدق رسول الله، لقد انتقضت عروة الحكم بانتقال الحكم من الخلافة الراشدة المؤسسة على الشورى والعدل والإحسان إلى الملك العضوض المبني على الغلبة والقوة على يد معاوية بن أبي سفيان، هذا الانتقال أرخ لمنعطف كبير في تاريخ المسلمين، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: ” الخلافة ثلاثون سنة ثم تكون ملكا ” وباحتساب مدة حكم الخلفاء الأربعة نجد العقد الثالث قد اكتمل بمقتل الإمام علي على رأس 40 هـ، هكذا فهم الصحابة من هذا الحديث المستشرف لمستقبل الحكم، نبوة صادقة لا غبار عليها. وحتى معاوية اعتبر نفسه ملكا حينما قال: ” أنا أول الملوك ” كما روى ابن عبد البر في الاستيعاب وابن كثير في البداية والنهاية[5] في حين كان هذا الاسم قادحا وكان عمر يخاف منه. تأمر معاوية على المسلمين مستندا في ذلك أولا إلى القوة والغلبة بالسيف، وثانيا لأن هناك نصوصا حديثية تقول: الخلافة في قريش، وإن اختلف الناس حول صحتها وحول تفسيرها الذي يمكن أن يفهم منها أنها مجرد إخبار بما سيحدث، يزكي هذا الفهم قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو هريرة: ” هلكة أمتي على يدي غلمة من قريش3.

 انتزع معاوية البيعة من المسلمين بالسيف، وتم له ذلك بعد مقتل الإمام علي وتنازل ابنه الحسن له حقنا لدماء المسلمين، وقد كثرت المظالم والفتن، وشاع في الناس سياسة قطع الرؤوس والتمثيل بها، ومن الرؤوس الزكية التي قطعت رأس عمار بن ياسر الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم بأنه ستقتله الفئة الباغية، كما قتل الحسن بن علي مسموما ومحمد بن أبي بكر والنعمان بن بشير ومصعب بن الزبير وغيرهم، أحداث جسام وقعت قال عنها الحسن البصري كما نقل ابن الأثير في كتابه الكامل: ” أربع خصال كن في معاوية لو لم تكن فيه إلا واحدة لكانت موبقة: انتزاؤه (قفزه ) على هاته الأمة بالسيف حتى أخذ الأمر من غير مشورة…واستخلافه ابنه يزيد سكيرا خميرا يلبس الحرير ويضرب الطنابير، وادعاؤه زيادا وقد قال صلى الله عليه وسلم “الولد للفراش وللعاهر الحجر” وقتله حجرا وأصحاب حجر، وياويلاه من حجر وأصحاب حجر، دفنه حيا ” 4. وبالرغم مما وقع من الظلم والطغيان فقد بقي الأمل معقودا بعودة الحكم إلى طريقة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة بعد وفاة معاوية، لكن ذلك الأمل تبخر بتثبيت ولاية العهد ليزيد بن معاوية وهي من أكبر المصائب إن لم تكن أكبرها على الإطلاق التي جنت على الأمة الإسلامية ولا زالت حتى الآن بانتقال الحكم من الخلافة إلى الملك عن طريق السيف. ولم يكن ذلك من اختيار المسلمين، كما تواتر لدى المؤرخين، روى ابن الأثير أن مروان بن الحكم قام وخطب في الناس قائلا: ” إن أمير المؤمنين قد اختار لكم فلم يأل، وقد استخلف ابنه يزيد بعده، فقام عبد الرحمن بن أبي بالصديق رضي الله عنه. فقال: ” كذبت والله يا مروان، وكذب معاوية، ما الخيار أردتما لأمة محمد، ولكنكم تريدون أن تجعلوها هرقلية، كلما مات هرقل قام هرقل ” 5.

 انتزعت بيعة يزيد من معارضيه بالسيف ومن أصر بعد ذلك يقتل، قال معاوية لمعارضي تولية ابنه يزيد، فيما عرف بخطبة السيف، فيما رواه ابن الأثير:” أقسم بالله لئن رد علي أحدكم كلمة في مقامي هذا لا ترجع عليه كلمة غيرها حتى يسبقها السيف إلى رأسه، فلا يبقين رجل إلا على نفسه “. [6] وهكذا سار يزيد بالناس معتمدا على السيف والبطش والتنكيل بمعارضيه أكثر مما فعل أبوه، وهي من أقبح وأحلك الفترات في تاريخ المسلمين يخجل المسلم من قراءتها، ولولا امتداد آثار تلك الحقبة على حياة المسلمين حتى الآن واستخلاص دروس وعبر منها لكان الأجدر أن لا ننبش في تلك الأحداث المؤلمة. والغريب في الأمر أن نجد من يدافع عن ولاية يزيد، ويبحث لها عن مسوغات تحت عنوان جواز ولاية المفضول على الفاضل.

 وخلاصة القول في الباب أن لهذا الانحراف والانكسار الذي حدث نتائج سلبية نجملها في الآتي:

  1. تغييب رأي الأمة في اختيار حكامها.
  2. التأسيس لطريقتين جديدتين في الحكم هما: ولاية التغلب وولاية العهد وهما الطريقتان السائدتان لدى المسلمين حتى الآن..
  3. استبداد الحكام وانفرادهم بالحكم وتغييب الشورى.
  4. انفصال بين الدعوة والدولة وذبح أحكام الدين على أعتاب السياسة على حد قول أبي الأعلى المودودي رحمه الله.
  5. بداية افتراق الأمة إلى فرق ومذاهب أهمها: الشيعة والسنة.
  6. تحكم السلاطين في بيت مال المسلمين = الجمع بين السلطة والمال.

جذور ومنطلقات ولاية الحاكم المتغلب:

 الانتصار لولاية المتغلب والدفاع عنها ومحاولة تبريرها وإشاعة تحريم الخروج عن الحاكم المتغلب في وسط الأمة لم يأت من فراغ، لقد حاول الفقهاء والمحدثون قديما وحديثا التأصيل لها وتبريرها من خلال آثار ووقائع تم اجتزاؤها وتحويلها إلى أدلة وحجج، بني عليها الموقف من هاته المعضلة الفتاكة بالأمة حتى الآن، يتناقلها الخلف عن السلف لتكسب بذلك المشروعية دون حرج يذكر. ولقد حشدوا أدلة كثيرة للدلالة على مشروعية ولاية المتغلب، أغلبها آراء الفقهاء عبر أزمنة مختلفة، أوصلها البعض إلى أكثر من مائة دليل، ولن نتتبع ذلك بقدر ما نأتي على نماذج معتمدة من كل نوع.

وفيما يلي بعض تلك الآثار والوقائع والأقوال التي تحولت إلى أصول وعقائد:

  1. أخرج الإمام أحمد والشيخان عن عبادة بن الصامت أنه حدث في مرضه فقال: ” دعانا النبي صلى الله عليه وسلم فبايعناه فقال فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا وان لا ننازع الأمر أهله ( عند أحمد زيادة: نقول بالحق حيثما كنا لا نخاف في الله لومة لائم ) إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان “. قال الحافظ في الفتح: قوله عندكم فيه من الله برهان ” أي نص آية أو خبر صحيح لا يحتمل التأويل، ومقتضاه أنه لا يجوز الخروج عليهم ما دام فعلهم يحتمل التأويل.”[7]
  2. تنازل الحسن بن علي لمعاوية والتسليم بالأمر الواقع بإبرام الصلح معه، لما رأى من عزمة معاوية على المواجهة وتفرق أصحابه عنه، فقد روي عنه أنه قال: ” يا أهل العراق: ” إنه سخي بنفسي عنكم ثلاث: قتلكم لأبي وطعنكم إياي وانتهابكم متاعي “. ولقد كتب الحسن إلى قيس أحد ولاته يأمره بطاعة معاوية، فقام قيس في الناس قائلا: أيها الناس: اختاروا الدخول في طاعة إمام ضلالة أو القتال مع غير إمام، فقال بعضهم: بل نختار الدخول في طاعة إمام ضلالة، فبايعوا معاوية ” [8]
  3. روى البخاري عن نافع قال: ” لما خلع أهل المدينة يزيد بن معاوية، جمع ابن عمر حشمه وولده فقال: ” إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة، وإنا قد بايعنا هذا الرجل على بيعة الله ورسوله، ثم ينصب له القتال، وإني لا أعلم أحدا منكم خلعه في هذا الأمر إلا كانت الفيصل بيني وبينه ” [9]. إنه يخاف الفتنة على المسلمين كما يخاف بطش يزيد، هل بايع عن قناعة ورضى أو كرها؟ لقد شكك في رضاه كثير من العلماء وقالوا ببيعة الإكراه، لأن القمع بلغ مداه في حق أهل المدينة الذين خلعوا يزيدا خاصة في واقعة الحرة التي قتل فيها الكثيرون..
  4. موقف الإمام أحمد بن حنبل من إمامة المتغلب: الإمام أحمد إمام من أئمة المسلمين يعتمد في مذهبه على النص الشرعي، يتكئ عليه الكثيرون خاصة المدرسة السلفية، نقلوا عنه أقوالا للدلالة على التسليم بولاية المتغلب، من ذلك ما رواه القاضي أبو يعلى الحنبلي عنه: ” ومن غلب عليهم بالسيف حتى صار خليفة وسمي أمير المؤمنين، فلا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيت ولا يراه إماما برا كان أو فاجرا ” هذا النص مقدس عند من يرى ولاية المتغلب، وهناك رواية تقول إن شدة كراهية الإمام لمنكر المأمون والمعتصم العباسيين دفعه أن يأمل الخير فيمن يخرج عليهم بالسيف كيفما كان، والدليل على ذلك موقفه الصلب المتواتر عنه في مسألة خلق القرآن رغم تعذيبهم له وسجنهم إياه لم ينالوا منه شيئا
  5. موقف شيخ الإسلام ابن تيمية من ولاية المتغلب: يقول رحمه الله: ” جمهور العلماء يقولون: يمين المكره بحق لا ينعقد وهذا مذهب مالك والشافعي وأحمد، ثم إذا أكره ولي الأمر الناس على ما يجب عليهم من طاعته ( لاحظ أنها طاعة مغتصبة: أكره ) ومناصحته وحلفهم على ذلك، لم يجز لأحد أن يأذن لهم في ترك ما أمر الله به ورسوله من ذلك، ويرخص لهم في الحنث في هذه الأيمان” [10] فالشيخ لا يقول بمذهب الأئمة والجمهور إن تعلق الأمر بالحاكم ثم يقول رحمه الله: ” وأما أهل العلم والدين والفضل فلا يرخصون لأحد فيما نهى الله عنه من معصية ولاة الأمور وغشهم والخروج عليهم بوجه من الوجوه “.

 يقول القاضي أبو يعلى الحنبلي في كتابه «المعتمد من أصول الدين:” وإنْ لم يكفر لكن فسَقَ في أعماله كأخْذِ الأموال، وضَرْبِ الأبشار، وتناوُلِ النفوس المحرَّمة )أي قتل الأبرياء(، وتضييع الحقوق، وتعطيل الحدود،وشُرْبِ الخمور، ونحوِ ذلك، فهل يوجب خَلْعَهُ أم لا؟ ذكر شيخنا أبو عبد الله في كتابه عن أصحابنا أنه لا يُخلَعُ بذلك ولا يجب الخروج عليه. بل يجب وعظُه، وتخويفُه، وتركُ طاعته في شيء مما يدعو إليه من معاصي الله تعالى، خلافا للمعتزلة والأشعرية في قولهم يُخلَع بذلك ؛ ” موقف هؤلاء العلماء المخالف لصريح السنة هو الذي هاض جناح الأمة. فالحاكم واجبُ الطاعة، موفورُ الكرامة، إلا ما يُسْدَى إليه من وَعظ، وإلا تركُ طاعته في «بعض » ما يدعو إليه من معصية الله. لا تجب منابذَتُه ولو قتل الأبرياء، وابتز الأموال، وهتك الحُرَم!”[11]

 هذه هي أعمدة فتاوى دين الانقياد، وليس المجال هنا متسعا للمناقشة، ولكني أورد ملاحظات سريعة:

  1. الحديث الوارد في الباب قابل للتأويل، فالطاعة الواجبة لولاة الأمور تابعة لطاعة الله ورسوله، ويجب أن يكونوا شرعيين يتم اختيارهم من الأمة وبإرادتها، كما أن هناك أحاديث أخرى تدعوا إلى مقاومة الظلم والظالمين و لوكانوا حكاما. وورد في بعض روايات الحديث: فلا طاعة لمن عصى الله، أو فليس لأولئك عليكم طاعة…
  2. موقف الإمام الحسن اجتهاد منه رحمه الله وإخبار النبي صلى الله عليه وسلم عنه والثناء عليه هو إخبار بما سيكون، وليس دينا يجب تنفيذه، تماما كما أخبر عن الملك العضوض والجبري. فأمر الإمامة على الإطلاق هو أمر متروك للأمة أن تختار -بإرادتها -الشكل والشخص المناسب لقيادة الأمة، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعين أحدا لخلافته.[12]
  3. موقف عبد الله بن عمر من بيعة يزيد الفاجر تقدير منه لاجتناب المسلمين بطش يزيد القاتل.
  4. وفتوى ابن تيمية والإمام أحمد عن ولاية المتغلب لا تصدقها أفعالهما، فقد تواتر عنهما مقاومتهما للظالمين والطغاة، وموقف الإمام أحمد في قضية خلق القرآن يعرفه القاصي والداني.
  5. إن العلماء يجتهدون لزمانهم، واجتهاداتهم غير ملزمة لأحد من المسلمين مادامت ظنية وغير منصوص عنيها في الشرع الحنيف. ولا تصطدم تلك الاجتهادات بكليات الدين.

موقف المدرسة السلفية من ولاية المتغلب نموذجا:

 من المعلوم أن مصطلح السلفية كمذهب أو حركة لم يكن معلوما لدى المسلمين قبل القرن العشرين، لأن المسلمين عموما يعتقدون أن السلف الصالح قدوة لهم في دينهم، لكن ظروف التخلف والجهل والاستعمار أدت إلى ظهور حركة إصلاحية في مصر، دعت الأمة إلى النهوض من خلال العودة بها إلى دينها الصافي بعيدا عن الخرافات والشركيات، وهي الحركة التي يتزعمها كل من جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضى والكواكبي، وصادفت هاته الحركة حركة محمد بن عبد الوهاب بالجزيرة العربية التي تدعو بدورها إلى تصحيح عقائد المسلمين، من خلال شعار: لا يصلح آخر هاته الأمة إلا بما صلح بها أولها، لكن الحركة الإصلاحية في مصر تأثرت بظروف الاحتلال، فتوسع مجالها ليشمل الجانب التربوي والسياسي والاجتماعي، أما حركة محمد بن عبد الوهاب في الجزيرة العربية فتركز عملها في مجال العقيدة. استنارت هاته الحركة السلفية بأقطاب المذهب الحنبلي المؤسس على الفهم الظاهري للنص وإغفال العلل والمقاصد التي لأجلها وجد النص، ويمكن القول بأن السلفية التقليدية المعاصرة هي امتداد للوهابية – نسبة إلى محمد بن عبد الوهاب- أكثر من غيرها لأنها تركز على الجانب العقدي وتعتمد التفسير الحرفي للنصوص، رغم انها ترفض أن تسمى بالوهابية، وتتبنى هاته الحركة إلى جانب الدعوة إلى الكتاب والسنة فهم سلف الأمة للنصوص الشرعية، وهذا الركن الأخير يعتبر قيدا أساسيا يميزها عن غيرها من الحركات الإسلامية التي تستحضر في اجتهاداتها الواقع وتحولاته. وباعتبار المدرسة السلفية الوريث الشرعي لمدرسة الأثر التي تهتم أكثر من غيرها بنصوص الشرع كتابا وسنة، وإن بفهم سطحي بعيد عن الواقع، فإنها وجدت نفسها في المعمعة، لأن الحاكم يرغب في انتزاع الشرعية من توقيعات من اختار التموقع بجانب النص الشرعي بنوعيه، ويهمنا هنا موقف التيار العلمي التقليدي من ولاية المتغلب باعتباره التيار الغالب الذي يمثل شريحة كبرى. أما التيارات الأخرى المتطرفة التي تهتم بالقشور والظاهر وتغفل عن مقاصد الدين وجوهره، وتركز أمرها في باب العقيدة وتحاسب الأمة من خلاله بإصدار أحكام التبديع والتكفير والتجريح عليها والحالة هذه أنها تعيش في كنف السلطان، فلا تهمنا هذه كثيرا، لأن أمرها مفضوح..

 و فيما يلي مجموعة من الفتاوى والمواقف لشيوخ السلفية المعتمدين في العصر الحاضر تهم ولاية المتغلب:

 أولا: فتوى الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله الذي يعتبر عمدة المنهج السلفي في العالم الإسلامي، يقول رحمه الله تعالى: ” البيعة لا تكون إلا لولي الأمر:

  • إما بالقهر والغلبة، إذا تولى على المسلمين وقهرهم بسيفه، بايعوه كما بايع المسلمون عبد المالك بن مروان وبايعوا الآخرين.
  • أو باتفاق أهل الحل والعقد على بيعة إنسان يتولى عليهم في كونه أهلا لذلك.

أما بيعة أفراد الناس ( إشارة إلى اختيار الحاكم من طرف الشعب ) هذا شيء لا أصل له، أو بيعة رؤساء الجمعيات ( أي الجماعات ) هذا شيء لا أصل له، البيعة لا تكون إلا من جهة أهل الحل والعقد، أو يبايع إنسان استولى عليهم بالقوة والغلبة حتى صار أميرا عليهم بقوته وغلبته، فإنه يبايع حينئذ ” [13]

ثانيا: الشيخ العلامة صالح الفوزان: بعد تعداده لطرق الولاية: الأول والثاني قال: ” الثالث: إذا تغلب على المسلمين بسيفه وإخضاعهم لطاعته، كما حصل لعبد المالك بن مروان وغيره من ملوك المسلمين الذين يخضعون المسلمين بالسيف حتى ينقادوا لهم، يلزم المسلمين طاعتهم في ذلك لأجل جمع الكلمة وتجنب المسلمين سفك الدماء واختلاف الكلمة، بهذه الأمور الثلاثة تنعقد الولاية لولي الأمر ” [14]

ثالثا: الشيخ ناصر الدين الألباني: قال في هذه المسألة رحمه الله:

فهؤلاء البغاة إذا ما سيطروا على البلاد وقضوا على الحاكم المبايع من المسلمين، لا نقول نخرج عليهم ونقاتلهم، وإنما نطيعهم أيضا من باب دفع المفسدة الكبرى بالمصلحة الصغرى، هكذا تعلمنا من الفقهاء من تأصيلهم ومن تفريعهم “[15]

رابعا: الشيخ محمد بن العثيمين: فبعد ذكره بدوره لطرق الولاية الأول والثاني قال: ” الأمر الثالث: القهر، يعني لو خرج رجل واستولى على الحكم وجب على الناس أن يدينوا له حتى وإن كان قهرا بلا رضى منهم، لأنه استولى على السلطة، ووجه ذلك أنه لو نوزع هذا الذي وصل إلى سدة الحكم لحصل بذلك شر كثير، وهذا ما جرى في دولة بني أمية، فإن منهم من استولى بالقهر والغلبة وصار خليفة ينادى باسم الخليفة ويدان له بالطاعة امتثالا لأمر الله عز وجل”[16]

وبمثل هاته الفتاوى قال أغلب قادة السلفيين المعاصرين باختلاف مشاربهم: من أمثال الجامي والوادعي والمدخلي ورسلان والرضواني والشيخ حسان ويعقوب والعدوي والبرهامي قبل الثورة المصرية….

تأصيل خداج وتبريرات ضعيفة:

بالنظر إلى الأدلة والحجج والتبريرات التي يستند إليها للقبول بولاية الحاكم المتغلب يلاحظ عدة ثغرات، نجملها في الآتي

أولا: الأدلة النصية:

1) من كتاب الله تعالى: قال تعالى: ” يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم…” [17] الآية… هذا نص قرآني يستدل به كثيرا من طرف الجميع للإمامة الشرعية وغير الشرعية على السواء، ومما يستفاد منه أن طاعة أولي الأمر غير مستقلة، فهي تابعة ونابعة من طاعة الله ورسوله فيما أمر به ونهى عنه، والدليل تتمة الآية، فعند التنازع لا يحتكم إلا لله ورسوله، كما أن ذلك مشروط بأن يكونوا منا ولن يكونوا منا إلا إذا اختارتهم الأمة بإرادتها. فطاعة ولاة غير شرعيين لا علاقة لها بالنص القرآني، فما بني على أصل باطل فهو باطل، فلابد أن نتحدث أولا عن الشرعية قبل أن نتحدث عن الطاعة. والطاعة المطلوبة لولاة الأمور إجمالا هي الطاعة في المعروف لاغير.

 2) من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم: صحيح أن هناك نصوصا حديثية كثيرة تتحدث عن طاعة ولاة الأمور الشرعيين لا يتسع المقام لذكرها، ومنها الحديث الذي ورد فيه النهي عن الخروج عليهم إلا إذا ظهر منهم كفر بواح ولم يتفقوا على طبيعة هذا الكفر، فهناك من يوسع فيه وهناك من يضيق، لكن الذي أعتقده أن ليس هناك نصوص صحيحة تتحدث عن طاعة الولاة المتغلبين أو الوارثين للعهد، فإنني أزعم أن هاتين الطريقتين محدثتان بعد الخلافة الراشدة، ولا قياس مع وجود الفارق كما سبق، وإلى جانب نصوص تحث على الطاعة فهناك نصوص كثيرة تحض على الصدع بالحق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومحاربة الظالمين مهما نتج عن ذلك من أذى حتى ولو كانوا شرعيين، فكيف وقد فقدوا تلك الصفة، وبناء على هذه الإشارات فيمكن القول بأن الاستدلال بهذا النص فيه مقال.

ثانيا: أدلة من اجتهادات الصحابة: نورد هنا مثالين مشهورين:

  1. تنازل الحسن بن علي لمعاوية ومبايعته إياه: وهذا مصداقا لنبوءة رسول الله بأنه سيصلح الله به بين فئتين من المسلمين، ولكن بيعة الحسن رضي الله عنه ليست وحيا بل هي اجتهاد وتقدير منه كما أسلفت،” لقد أورد اليعقوبي في تاريخه إلى أن سبب تنازله لمعاوية كونه لا قبل له بمعاوية وجنده فعقد معه صلحا نزل له فيه عن حقه في الخلافة على أن يكون الأمر بعد معاوية شورى بين المسلمين يولون عليهم من أحبوا ” [18]
  2. مبايعة عبد الله بن عمر ليزيد بن معاوية الفاجر وتحذير الناس من الخروج عليه، وهذا من اختياره إن صح، لأنه قيل إن بيعته كانت كرها، كما قيل إنه خاف على الفتنة ومن بطش يزيد، وهو ما صح في واقعة حران، وقد ندم مثلا عن عدم الخروج والقتال مع الإمام علي كرم الله وجهه ومقاتلة خصومه، وكان يقول: ” إني أخرج من الدنيا وليس في قلبي حسرة إلا تخلفي عن علي، كما روى ابن عبد البر في كتاب الاستيعاب لأسماء الصحابة.
  3. مواقف وفتاوى أهم العلماء الذين يستدل بهم لشرعنة ولاية المتغلب:

من أنا لأقوم بتقييم مواقف أعلام الأمة الذين يستضاء بهم في الملمات ويستشهد بهم في المعضلات علما وعملا وخلقا، فلولا بعض العلماء الذين خالفوهم الرأي وفتحوا الباب لطلاب العلم أن يتكلموا، لما تجرأت لأتكلم في الموضوع ببنت شفة، خوفا من سموم لحومهم أن تصيبني مهما اختلفت معهم، فمعذرة بين يدي علمائنا الأفاضل، ثم أقول:

 من تلك المواقف والفتاوى التي يستند إليها في الباب يتبين لنا بوضوح حقيقة موقف الدعوة السلفية من ولاية التغلب، فكما مر بنا موقف موحد مستنسخ مكرور منذ القرون الأولى، ينقله الخلف عن السلف بنفس الجمل والتعابير، ولو استرسلنا في النقول لما توصلنا إلى شيء جديد، فهم على مذهب من يقول: ليس في الإمكان أبلغ مما كان. والنموذج المقتدى ملوك الدولة الأموية، التي تسمى تجاوزا دولة الخلافة، وما هم إلا ملوك العض المخبر عنهم في الحديث النبوي. أما التبرير بالحفاظ على الأرواح والأعراض والأموال والأمن واجتناب أسباب الفتن، فلم تخمد الفتن في وقت من الأوقات التي ساد فيها الاستبداد: زهقت الأرواح وانتهكت الأعراض وسعرت الفتن والحروب من طرف أولئك الطواغيت أنفسهم، والواقع أمامنا لازال يتكرر حتى الآن والأمة تكتوي بنار القهر والاستبداد الشمولي، كما يقول عبد الرحمن الكواكبي: ” وأشد مراتب الاستبداد الذي يتعوذ بها من الشيطان هي حكومة الفرد المطلق الوارث للعرش، القائد للجيش الحائز على سلطة دينية، ولنا أن نقول كلما قل وصف من هاته الأوصاف خف الاستبداد ” [19] لقد اكتسب الحاكم المتغلب الشرعية من هاته الفتاوى فلم يعد يخاف من أحد…

 ولقد ذهبت أكثر الأطروحات السلفية المعاصرة على وسم الخارجين – كل الخارجين – على الحاكم أي حاكم بوصف واحد: (الخوارج)، ثم يتم تنزيل كل أحكام الخوارج عليهم ثم الإفتاء بقتالهم وقتلهم وطوبى لمن قتلهم وقتلوه، كما في فتوى علي جمعة وعبد الرزاق الرضواني وسعيد رسلان وغيرهم..ويكفي الرجوع إلى قنواتهم المتخصصة في محاربة الخوارج..البصيرة نموذجا.

 وقد يكون لواقع الأمة في الأزمنة الغابرة ما يبرر السكوت عن هاته الولاية الغير الشرعية، من الخوف على بيضة الإسلام أن تنثلم وعلى شوكته أن تكسر أمام العدو الخارجي، لذلك لا بد من الحفاظ على ما يمكن الحفاظ عليه من أسباب الوحدة بل من أسباب وجود الأمة واستمرارها، لكن الشيء الغير المفهوم أن تصير تلك المواقف المظروفة بظروفها، أصلا يقتدى وينسج على منواله، فالواقع تبدل وتغير فلم تعد هناك خلافة ولا شوكة يخاف عليها، الأمة أصبحت ممزقة ودويلات متناحرة فيما بينها، لا يجمع حكامها إلا الحفاظ على كراسيهم وامتيازاتهم لا غير.

 ثم لماذا غابت قيم العدل في الخطاب السلفي؟ أليس العدل من القيم المحورية والمركزية في دين الإسلام؟ ألم تشغل النصوص التي تتحدث عن العدل مساحات كثيرة في القرآن وفي السنة؟ لماذا لا يتخذ العدل معيارا ومحددا وموجها لقبول أو رفض ولاية الحاكم خاصة وأنه الهدف الأساس من إرسال رسالات الرسل: قال تعالى: ” لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط… [20]. كما أن محاربة الظلم من أوجب الواجبات، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” إذا رأيت أمتي تهاب أن تقول للظالم يا ظالم فقد تودع منها ” رواه الحاكم في المستدرك، ويقول أيضا: ” سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله[21] يقول أحد الباحثين: ” إن القيام بالعدل والدفاع عنه والوقوف في وجه الظلمة والطغاة هو من أعظم أعمال الإسلام، ومن مدارات الشريعة المحكمة، وكل الأعمال والوسائل والأدوات والآليات التي تهدف إلى إقامة العدل ومنع الظلم، هي تحمل ذات الخيرية وذات الإعظام الشرعي المتواتر في النصوص ” [22]

 إن التركيز على أمر العقيدة دون سواها هو نوع من تبعيض هذا الدين، وانحراف خطير يطعن في شمولية الإسلام وتوازنه، يقول أحدهم: ” فيا أيها المرجفون، لوصح ادعاؤكم هذا فإنه لا ينافي سلفية هؤلاء القادة ( يعني المعاصرون ) فقد كان بعض أمراء بني أمية عنده الكثير من مثل هاته التصرفات، بل أكثر مثل شرب الخمر وقتل العلماء وغيرها، ولكن لا يستطيع أحد أن يقول إن عقائدهم غير سلفية، على العكس من ذلك بعض أمراء العباسيين حتى لو كانوا أقل ظلما وأكثر اجتهادا وطاعة لله ورسوله، فإنهم إجماعا لم يكونوا سلفيين، بل هم على عقيدة المعتزلة الكفرية البدعية ” [23]. نص واضح لا يحتاج إلى تعليق، أترك ذلك للقارئ اللبيب..

 وأختم هاته الفقرة بوجهة نظر أحد العلماء المتمرسين هو الدكتور أحمد الريسوني حفظه الله يقول: ” ولئن كان لولاية التغلب والاستيلاء مسوغات معقولة في العصور الماضية على الأقل في بعض حالاتها، فإنها اليوم في ظل شيوع الدساتير والمؤسسات ويسر تنظيم الاستفتاءات والانتخابات قد فقدت كل مسوغ لبقائها، بل هي اليوم تعد أسوأ من الرق والقرصنة، لأن الرق والقرصنة كانا يصيبان أفرادا وأطرافا من المجتمعات، أما الاستيلاء على الحكم بالقوة والغلبة وبدون ضرورة ملجئة فهو استرقاق للأمم وقرصنة للدول، ولذلك يجب القول شرعا أن تولي الحكم عن طريق القوة والغلبة والاستيلاء، قد انتهى زمانه وتمحض بطلانه ” [24].

تحولات جديدة للسلفية المعاصرة بعد ثورة الربيع العربي:

بالرغم من أن الجسم السلفي على امتداد الوطن العربي كانت لديه قناعات ومسلمات يصعب تجاوزها، أمسكها بحزمة من الأدلة والتبريرات، زادها الزمن تماسكا ومناعة، يصعب اختراقها في الحالات العادية، لكنها في الحالات الغير العادية لن تسلم من عوامل التعرية أمام العواصف الهوجاء المفاجئة التي تهب في كل الاتجاهات، باحثة عن ثقب ومنافذ تتسرب منها إلى داخل الجسم، وقد تعمل على تفجيره أو تحدث داخله تغييرات جذرية؛ هذا الذي وقع للدعوة السلفية نتيجة ثورة الربيع العربي التي أيقظت الشعوب من سباتها الطويل، فهبت عن بكرة أبيها في كثير من دول الربيع العربي، فحطمت عروشا وأنظمة استبدادية متغلبة، ما كان أحد يظن ذلك، فلولا المؤامرات والدسائس الداخلية والخارجية الظاهرة والباطنة على تلك الثورة لأتت على كل الأنظمة في الوطن العربي واحدة بعد أخرى، لكن يقظة طواغيت بترودولار والغرب الناهب للخيرات على السواء وضع حدا لتلك الآمال المجنحة إلى حين، بوضع حواجز سميكة في طريقها وامتصاص ضرباتها. هذا الذي وقع فاجأ الدعوة السلفية في عقر دارها فأربكها إرباكا ملحوظا، تجلى ذلك في مواقفها المضطربة والمتناقضة، يسهل علينا ملاحظتها قبل الثورة وأثناء الثورة وبعد الثورة، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على تقديراتها المختلفة النسبية الناتجة عن ضغوطات الواقع التي يرفضون الخضوع لها، على الأقل على المستوى النظري، نعم فوجئت الحركة السلفية بهاته الثورة العارمة الغير المتوقعة، وسرعة استجابة الجماهير الشعبية لها، وترديدها لشعارات الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، وبكلمة واحدة: الشعب يريد إسقاط النظام /الاستبداد.

 وبالرغم من التردد الحاصل في بداية الحراك، انسجاما مع مواقفها السلبية من قضايا عدة، من قبيل الديمقراطية، الانتخابات، المشاركة السياسية، تأسيس الأحزاب، تنظيم المظاهرات أو المشاركة فيها، الاعتصامات، المسيرات، الخروج على الحكام الظلمة وغيرها، وبالرغم مما تراكم من فتاوى ومؤلفات وتصريحات ومقالات حول الموقف من تلك القضايا، بالرغم من ذلك كله فقد امتد التغيير إلى مواقف الحركة السلفية لدى فئات عريضة من الحركة السلفية لأن السلفيين لم يعودوا تيارا واحدا كما يتوهم البعض، ولكنهم تيارات ومدارس عكست الثورة عوارها وتناقضاتها ليس بين بلدان مختلفة ولكن داخل بلد واحد، وهي أولى نتائج الربيع العربي على السلفيين، ويهمني بالضبط ما له علاقة بموضوع ولاية المتغلب والخروج عنه، وقبل عرض بعض مظاهر الموقف الجديد بعد الثورة، أذكر أنه لم يعد أحد يهتم بتصنيف الحكام لتمييز الشرعي من غيره، ذلك لأن الحكام على امتداد الوطن العربي فاقدون للشرعية، مهما ادعوا وزعموا، فهم جميعا ضمن صنفين لا ثالث لهما: المتغلبون والملوك الوارثون للعهد، وكلاهما غير شرعيين، لأنهما جاءا من خارج اختيار الأمة بالطرق المشروعة المعلومة عن طريق أهل الحل والعقد قديما، أو عن طريق الاختيار المباشر بواسطة الانتخابات الحرة حديثا.

وهكذا يسهل ملاحظة تحولات مهمة في موقف الدعوة السلفية من ولاية الحاكم المتغلب، فمن الدعوة إلى طاعة ولاة الأمور وعدم منازعتهم الأمر وتحريم الخروج عنهم، إلى الدعوة إلى المظاهرات والمسيرات والانخراط فيها ونشر تصريحات مناهضة للحكام بسرعة فائقة، إلى درجة أنهم فاجئوا المتتبعين، بل وأخافوا المعادين لهم من اليساريين والليبراليين، فقد خرج التيار السلفي من قمقمه وترك وراءه كثيرا من القناعات التي عرف بها، من مثل استنكافه عن المشاركة السياسية وموقفه من الديمقراطية والتحزب والاحتجاجات التي تعد من مظاهر الخروج على ولاة الأمور ومنازعتهم الأمر، فبالرغم من تلكؤهم في البداية، فقد انخرطوا بقوة في الاحتجاجات خاصة في مصر، بل وشارك بعض القادة أنفسهم فيها مثل الشيخ حسان والبرهامي وعبد المقصود والشيخ حازم فك الله أسره، وغيرهم ؛ أما المفاجأة الكبرى التي طفحت إلى السطح وتحدث عنها القاصي والداني فهي انخراطهم في العملية الانتخابية وتأسيسهم الأحزاب واحتلالهم للمرتبة الثانية في مصر متجاوزين الأحزاب العريقة.

 ولقد تناول هذا الحدث بالتفصيل عدد من الدارسين منهم دراسة محمد أبو رمان المتميزة تحت عنوان: ” الربيع السلفي ” وهي بحق ربيع لأنها حلحلت الكثير من المسلمات، وهي الدراسة التي اعتمدت عليها في هذه الفقرة، ومن أجل تبيان الطفرة التي تحققت أنقل فقرة من برنامج حزب النور السلفي وهي تحت عنوان الفساد السياسي: ” عشية الثورة وصلت الأمة إلى طريق مسدود بتدليس فاضح، وتزوير واضح لإرادتها من دهاقنة الحكم بالعصر البائد، الذين ادعوا كذبا وزورا أن مصر لم تبلغ سن الرشد وغير مؤهلة لتختار الصالح من أبنائها ليسير أمورها ويسوس أوضاعها، فزوروا الانتخابات التشريعية تزويرا فاجرا، وفرضوا التوريث على الأمة، ولم يبق خيار أمام الشعب إلا النزول للميادين بأرجاء مصر معبرا عن إرادته بأفصح عبارة: الشعب يريد إسقاط النظام ” [25]، رغم أن زعيم الحزب البرهامي عارض الحراك في بدايته،  وفي كلمة له بميدان التحرير في بداية فبراير خلال الثورة وصف عبد المقصود الرئيس المصري بالطاغوت وكرر دعوته للشباب المعتصمين بالثبات، وشاركه هذا الموقف أصحابه منهم: نشأة أحمد وفوزي السعيد، ” وبعد الثورة تراجع كل من أسامة القوصي ومحمد الزغبي ومصطفى العدوي ومحمود المصري عن مواقفهم السابقة في تأييد مبارك، وتذرعوا بأنهم لم يكونوا يعلمون عن فساده وظلمه كما تبدت الأمور لاحقا ” [26] كما قلب شيوخ السلفية موقفهم الرافض للمظاهرات والخروج والانتخابات والتحزب والديمقراطية وغيرها من قضايا الشأن العام رأسا على عقب، وأخذوا ينتقدون النظام بأثر رجعي، مما أثار انتقادات آخرين ضدهم. لأن بعض التيارات المتشددة وذات الصلة الوثيقة بالأنظمة لم تغير من موقفها مثل تيار الجامي والمدخلي ورسلان والرضواني في مصر والوادعي في اليمن وأتباع ناصر الدين الألباني في الأردن، وشيوخ السعودية التقليديون، لأن شرارة الربيع العربي لم تصلهم بعد، أما في تونس فقد انخرط السلفيون في الحراك، وفي المغرب أعلنت الدعوة السلفية بقيادة الشيخ المغراوي تأييدها لحزب العدالة والتنمية، وشارك بعض افرادها في الحراك الشعبي، بل وترشح أحد رموزها الشيخ أحمد القباج..

 وخلاصة القول أن زلزالا عنيفا امتد إلى التيار السلفي وأحدث تقلبات كبيرة في جسمه، ولولا الانتكاسة التي وقعت للثورة وأدت إلى إجهاضها لغيرت كثير من التيارات موقفها السلبي من طغيان الاستبداد. ومما يسجل على الحركة السلفية عموما خذلانها للرئيس محمد مرسي بعد الإنقلاب العسكري عليه، وعدم نصرتها له في محنته، رغم كونه الرئيس الوحيد المنتخب من طرف الشعب في العالم العربي، بل انقلبت عنه وتحولت بسرعة إلى تأييدها للانقلابيين، مما يعني انتهازيتها ونفعيتها المفضوحة، وتخليها عن المبادئ المعلنة..

على سبيل الختم:

 أختم هذا البحث بملاحظات انتهيت إليها من خلال هاته المعالجة المتواضعة، أولا أذكر أنني سلكت مسلك الاختصار والإيجاز من أجل تقريب هاته الإشكالية إلى بعض الأفهام التي رضخت للأمر الواقع ورضيت به، وكأنه قدر من الأقدار التي لا مفر منها، ولا تفكر في إمكانية التغيير بقدر ما تفكر في طريقة التكيف مع الواقع وإيجاد المسوغات والتبريرات الفقهية التي تؤصل له. بل أكثر من ذلك فقد وجد من هذه العقليات من انحرف بالموضوع من موضوع في الفقه وفي السياسة الشرعية إلى موضوع عقدي محسوم، يصنف الناس وفقه، حيث يؤكدون أن طاعة ولاة الأمور وعدم الخروج عليهم ولو كانوا متغلبين وبغاة من صميم عقيدة السلف، وكل من خالف هذه العقيدة فهو من الخوارج، والحقيقة أن الخوارج هم من خرجوا على الحكام الشرعيين الذين اختارتهم الأمة عن رضى وطواعية. ولقد لاحظت أن أغلب الفقهاء عبر التاريخ امتاحوا فتاواهم من دين الانقياد والخنوع، رغم أنه لم يخل أي زمان من القائمين على الطغاة وعلى الظلمة مهما كانت النتائج، وأول القائمين على الحكام الطواغيت أهل البيت عليهم السلام، بدء بالإمام الحسين عليه السلام،انظر مثلا الكتاب المتميز للأستاذ عبد السلام ياسين ” رجال القومة والإصلاح “. الذي يتميز بعمق الرؤية وجرأة القلم التي لم تمنعه من التزام الأدب وتحري الصدق، كما هي عادته في سائر مؤلفاته رحمه الله تعالى.

 ولقد صادفت دراسة فقهية مقارنة لولاية المتغلب أثناء بحثي في الموضوع، لصاحبها الدكتور محمد الشوا، تناولت التفريعات التي جادت بها قريحة العلماء في الموضوع لشرعنة ولاية المتغلب: تعريفات ومصطلحات وأحكام وشروط وحالات وافتراضات…فهي من الوجهة العلمية معتبرة لأنها جمعت المتفرق في مؤلفات كثيرة ولأنها عكست فترة تاريخية مضت، ولكنني لا أرى لأغلب تلك الاجتهادات مسوغا ولا مكانا لها في العصر الحاضر الذي استطاع فيه الناس تنظيم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، لتجنب الاستبداد والنزوات الشخصية للحكام، وبالتالي تمكين الأمة من خلع كل حاكم لم يف بوعوده التي قطعها على نفسه أثناء ترشحه لمنصب الولاية، كل ذلك من خلال دساتير وقوانين واضحة، تحدد فيها عدد الولايات المسموح بها لتجنب التغول، والحق يقال أن من معايير تقدم الأمم وتحضرها في العصر الحاضر، هو الانتهاء من تنظيم السلط وتحديدها والفصل بينها، والتمكن من تداول الحكم بطريقة سلمية وسلسة وهدوء دون اللجوء إلى العنف والانقلاب. وكل الدول التي لم تحل فيها هاته الإشكالية فهي تصنف على أنها دول ديكتاتورية ومتخلفة. وأعتقد أن ولاية المتغلب بنيت على باطل، وكل ما بني على باطل فهو باطل، ويكفي لبطلانها حديث صحيح متفق عليه، قلما يلتفت إليه إلا في الأمور الصغيرة دون الكبيرة، والعكس هو الصحيح، ففي صحيح مسلم تحت عنوان ” باب النهي عن طلب الإمارة والحرص عليها، تحت رقم: 1733 عن أبي موسى قال دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم أنا ورجلان من بني عمي فقال أحد الرجلين يا رسول الله أمرنا على بعض ما ولاك الله عز وجل، وقال الآخر مثل ذلك فقال: ” إنا والله لا نولي على هذا العمل أحدا سأله ولا أحدا حرص عليه” وهو حديث صحيح متفق عليه أخرجه غير واحد من أهل الحديث. أعتقد أنه حاسم وصريح، وروى مثل هذا عن أبي ذر الغفاري الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ألا تستعملني؟ فنبهه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله “: يا أبا ذر إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها[27]. لا معنى للبحث عن تبريرات ومسوغات واهية نغطي بها هذا الداء العضال الذي فتك بالأمة سلفا ولا زال يفتك بها حالا. وهو السبب الذي جعل الأمة في ذيل الأمم والشعوب. وإذا كانت للقرون السابقة ظروف ومبررات تقف إلى جانب من يبحث عن الدليل راغبا أو راهبا، لشرعية الحاكم المتغلب، فإنها في العصر الحاضر تنتفي تلك المبررات، لأن الواقع تغير، وبسبب ما وصل إليه العقل البشري من تنظيم محكم للعلاقات بين الحاكم والمحكوم، مما يجعل عملية التأصيل مكشوفة، والتستر وراء الخصوصية لم يعد مقبولا في مثل هذه من الأمور.

 مراجع البحث

  • مختصر تفسير القرآن العظيم للعماد ابن كثير المجلد الأول دار الفكر لبنان
  • الفتح الباري في شرح صحيح البخاري المجلد: 14 دار الفكر لبنان 1992
  • الكامل في التاريخ، لابن الأثير الجزري الملقب بعزالدين المجلد الثالث الطباعة المنيرية مصر
  • محاولة في تصحيح المسار لزيد بن علي الوزير مركز التراث والبحوث اليمني ط: 1 1992
  • رجال القومة والإصلاح للأستاذ عبد السلام ياسين منشورات الصفاء للإنتاج سنة 2001
  • الشوررى والديمقراطية للأستاذ عبد السلام ياسين، مطبوعات الأفق، ط: 1 سنة 1996.
  • الخلافة والملك للشيخ: أبو الأعلى المودودي تعريب أحمد ادريس ط: 1 مطبعة دار القلم 1978 الكويت
  • طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد لعبدا لرحمان الكواكبي طباعة دار العلم للملايين سنة 2017 مصر
  • أشواق الحرية نواف القديمي شبكة العربية للأبحاث والنشر ط: 5 سنة 2012 بيروت لبنان
  • الطريق إلى الجماعة الأم، عثمان بن عبد السلام نوح، مطبوعات الأفق الدار البيضاء / ط: 2 سنة 1992
  • الربيع السلفي محمد أبو لرمان: سؤال الديمقراطية في السياسة العربية.نشر مركز دراسات الوحدة العربية
  • الجزيرة نت

  1. أخرج هذا الأثر غير واحد ابن كثير و النسائي وأورده عن أهل البيت مؤلف نهج البلاغة.
  • سورة الأنفال آية: 33، انظر تفسير الآية في تفسير القرآن العظيم للعماد ابن كثير
  • زيد بن علي الوزير، محاولة في تصحيح المسار ص: 71

[4] ) حديث حسن أخرجه الإمام أحمد وابن حبان والحاكم وصححه الألباني

2) أبو الأعلى المودودي، الخلافة والملك ص: 94

3) رواه البخاري تحت رقم: 7058 المجلد 14 ص: 498 وله روايات أخرى.

4) ابن الأثير، الكامل في التاريخ جزء 3 م ص: 337

5) ابن الأثير الكامل في التاريخ، جزء ك 3 ص: 351

[5]

[6] ) انظر تفصيل الواقعة في كتاب الشورى والديمقراطية للأستاذ عبد السلام ياسين ص: 246 وما بعدها.

[7] ) فتح الباري في شرح صحيح البخاري جزء: 13 ص: 8

  1. 1)        ابن الأثير، الكامل في التاريخ جزء: 3 ص: 273
  2. صحيح البخاري مع الفتح: 13/74

[10] ) شيخ الإسلام أحمد بن تيمية، الفتاوى جزء: 35 صفحة: 11

[11] ) عبد السلام ياسين، رجال القومة والإصلاح ص: 14، 15

[12] ) انظر محاولة في تصحيح المسار لصاحبه يزيد بن علي الوزير ص: 70

  1. الموقع الرسمي لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله
  • الشيخ صالح الفوزان / شرح لمعة الاعتقاد صفحة: 264
  • المصدر: مقطع صوتي في اليوتيوب بعنوان: وجوب السمع والطاعة للحاكم المتغلب.
  • محمد بن العثيمين، شرح العقيدة السفارينية صفحة: 648
  1. سورة النساء، آية: 59

[18] ) د حسن ابراهيم حسن تاريخ الإسلام جزء: 1 ص: 228

  1. عبد الرحمان الكواكبي / طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد صفحة: 17
  • سورة الحديد، آية: 24
  • أخرجه الحاكم في المستدرك عن جابر بن عبد الله تحت رقم: 4884وقال صحيح الإسناد كما أخرجه غيره بروايات متعددة.
  • نواف القديمي ن أشواق الحرية، صفحة: 105
  • عثمان عبد السلام نوح: الطريق إلى الجماعة الأم ن صفحة: 175
  • أحمد الريسوني، إمامة المتغلب بين الشرع والتاريخ، المصدر: الجزيرة نت.
  1. محمد أبو رمان، الربيع السلفي: سؤال الديمقراطية في السياسة العربية، صفحة: 169
  • المصدر السابق صفحة: 53

[27] ) أخرجه مسلم، في كتاب الإمارة، باب كراهة الإمارة بغير ضرورة، برقم (1825)

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.