لا أدري هل أحْزنُ على فَقْدِ يامنة، أم على عَجْزي عن أداء واجب العزاء، أم على فوات فرص مكافأتها وشكرها..
لو كنتُ أملك عزيمة يامنة، لما تَأَخَّرْتُ على الرحيل من جنوب المغرب إلى شماله، لإِلقاءِ نَظْرَةٍ أخيرة على وجهها الجميلِ البَشوش، لما تَوَانَيِتُ على امتطاء الغالي والنَّفيس، على نُكْران الألم، لا تَحَمُّلِه فقط..
كانت مَضرِب المثل على قُوةِ العزيمة، على مِثالِيَة الصبر، كانت شاهدةً على ملائِكِيَّة الإنسان، على دائِمِيَّة الخير، على سمو الفطرة، على جمال المعنى، على قوة الروح..
كنا نسمع أن الجسد سفينة الروح، وأن الروح تمرضُ بمرض الجسد، وتَضْعَفُ بضعفه، وتَهِلِكُ بهلاكه..
وكانت يامنة شاهدةً على أن الروحَ تجعلُ من الجسد الضعيفِ قوةً لا تُقهر، من الجسد المريض ترياقا للأمراض المزمنة، دواءً للعاهات المُقعدَة، بلسما للجراح المُتقرِّحة، طمأنينةً للأنفس المُنْهَكَة..
هل كانت استثناء !
أصيبت يامنة بمرض السرطان قبل سنواتٍ عديدة، ثم تماثلت للشفاء، وكنا نقول أن الله كافأها جزاءَ مَا تَبْذُلُهُ لِأَخَوَاتِها..
كنتُ مريضةً بمرض مزمن، يُصاحِبُني الألم، يَخِفُ أحيانا، ويَسْكن أحَايِينَ أُخْرى، ويزداد في بعض المرات، وكانت تكفي الأدوية لإِلْجَامِه..
غيرَ أنَّ مراتٍ أخرى كان يذهب بي إلى المشفى، وكانت يامنة معي، تنظف غرفتي، ترتب متاعي، تفتش كل جزء من جسدي، تبحث عن مصدر الألم، كأنها تريد أن تُصْمِتَه..
أين تجَلُّدي واصطباري، كانت يامنة الحجة التي يُقيمها الله عليَّ حين كنت أضجر من مرضي، حين كنت أتساءل لماذا أنا؟ أستغفر الله..
يامنة كانت راضية محتسبة ترى مرضها قربة، وصبرها زلفة، وابتلاءها محبة..
ولم تكتف بخدمتي بل كانت تذهب إلى بيتي، تسأل عن حاجات بناتي، ولو لم تكن تستحي من زوجي لكانت أما لأبنائي في غيابي..
كانت يامنة كلما ظنت أنها نجت يعاودها المرض الخبيث..
كانت قليلة اليد، معدومة فقيرة، مع مرضها كانت تذهب للاستشفاء على قَدَمِها، تمشي على رجليها لساعات، بينها وبين المستشفى أكثر من عشر كيلومترات..
كانت تعتني بزوجها المريض بالسكري، وما أدراك ما السكري، وتقلبات السكري..
كانت تعتني ببناتها، بكِسوتهنَّ، بطعامهن، بوَاجِبَاتهن المدرسية، حتى في فترات انقطاع الزوج عن العمل..
لن أنسى أبدا معروفها، ومواساتها، حين هجرني الجميع، حين تركني زوجي..
تَرَكَتْ بيتها، سافرت، أقامت عندي مدة، حتى أعادت الابتسامة إلى وجهي..
كانت كاسمها يُمْنٌ وأمان..
لم أكن الوحيدة التي غنمت من بركاتها، لم أكن فريدةً، كنت أظن ذلك، أظن أنها تعتني بي لأنني كنت مقربة منها، ولكن لم يكن قلبها الكبير يمتلئ بواحدةٍ أو عشرةٍ من أمثالي..
كانت تحمل هم الأمة، تستنهض كل الدَّوائِرِ المحيطةِ بها، تَبُثُ الشَّرر الدافئَ في كلِّ ما تلامسه..
كانت لوحدها جمعيةً خيرية، واسطة خير وبر، تكسو العراة، وتطعم الجَوْعى، وتواسي المرضى، وإن كانت واحدة منهم..
تركها زوجها مدةً هاجر لطلب لقمة العيش، تركها وحيدة مع مرضها وأبنائها، راضية بقدرها، ثم تغربت معه عن أهلها ووَالِدَيْها..
يامنة عاشت غريبة غرابة القابضين على الجمر، مَنْ حقَّ عليهم قول المصطفى صلى الله عليه وسلم “طوبى للغرباء”..
شَيَّعَهَا إلى دارها الجديدةِ غرباءَ فَاتَهَم أن يغنموا من بركاتها في حياتها، وغِبْتُ أَنَا مَنْ أَفْضَالُها تَشْمَلُني إلى أَخْمَصِ قدمي..
ما فَعَلَتْ يامنة لأجلي قليلٌ جدا مقارنةً مع كثيرٍ ممَّا كانت تفعله مع أُخْرَياتٍ، بلغني أن امرأة من معارفنا أُصيبت بما جعلها تُقيم في مستشفى الأمراض العقلية، وكانت يامنة تنظف ما يصدر من المريضة من براز، مما كان يتأفَّفُ من فعله من يأخذون على ذلك أجرةً مضاعفةً، أجرةَ المستشفى وأجرة العائلة، وكانت تأخذ الأغطيةَ والأفرشة وتغسلُها في بيتها وتعود بها نظيفة معطَّرة، ثم تذهب إلى بيت المريضة تنظف البيت وتخدم الأبناء..
قبل رحيل يامنة، اشتد عليها المرض، وتعلقت بلقاء ربها بعد طول اشتياق..
مع علمي أن المبطون شهيد، لا أملك أن أكْبِحَ حزنيَّ الشديد..
رحم الله يامنة، وخَلَفَنَا في مصيبتنا خيرا..
السابق بوست
القادم بوست