يحيى لا ينصرف (قصة قصيرة)
بقلم: لحسن شعيب
والظلم من شيم النفوس وإن تجد ذا عفة فلعلة لا يظلم (المتنبي)
أخبرتنا كتب التاريخ أن المدينة الجميلة التي أنختُ بها مطاياي منذ سنوات، قد دفنَ سلطانها وسْط أسوارها الضخمة كثيرا ممن تمردوا أو فكروا في التمرد على حكمه؛ ولم يكن ذلك على كل حال شذوذا على قاعدة معظم السلاطين في سياسة الرعية.
ولقد صرتُ بفضل ملازمة أهلها كأني واحد منهم، غير أن لَكْنتي السوسية تفضح أصولي كل مرة، والعِرق دساس كما يقال. وفيٌّ أنا لِلَكْنتي السوسية تماما كوفائي لقِوامي، الذي لم يزده رغد العيش إلا دقة ورقة، فلا مستوطنات فيه ولا بناء عشوائيا ، لذلك فكل من يراني يخطئ في تقدير سني، ويخالني ثلاثينيا رغم أني في منتصف عقدي الخامس.
أُبَكِّرُ، وفي البكور أسرار وبركات، أبتغي بتجارتي رزقا حلالا لي ولأمي وعيالي، أُمضي أغلب الوقت سائقا؛ ولطول المسافات التي كنت أقطعها، كنتُ شديد الحذر، دائمَ الحضور في قيادتي، ورغم ذلك فإني لم أسلم من ظُلم أصحاب البَزَّات والابتزازات. وأذكرُ أنني ذات ليلةٍ ربيعية مقمرة من ليالي أبريل، حين كنت عائدا إلى بيتي بعد يوم عمل طويل مُتعِب، رأيتُ سيارة متوقفة في مكان خالٍ على بعد عشرين ميلا من المدينة، توقفتُ وتَرَجَّلتُ من سيارتي، وتقدمت نحو الرجل الذي رفع غطاء محرك سيارته، يحاول عبثا أن يصلح عُطْله. كان رجلا أصلع كَثَّ الشارب، مفتول العضلات. سلمتُ عليه، وعدتُ إلى سيارتي لأُحضر مصباحا يدويا.
– مساء الخير سيدي، “ياك لاباس! ما بها سيارتُك “؟
– لا أدري، الحرارة في المحرك مرتفعة جدا، وقد سكبتُ عليه الكثير من الماء، لكني لم أنجح، وأخشى أن يشتعل إذا حاولتُ الوصول إلى المدينة.
– إذا اشتعل المحرك فحُقَّ له، لأن الكلَّ مشتعلٌ هذه الأيام، والبلادُ من حولنا تغلي، وبن علي هرب…
– لكننا هنا نحمد الله على نعمةِ الاستقرار؛
-ما لنا وللاشتعال، دعنا نَرَ ما به محرك سيارتك؛
وجدتُ أن خرطوم المياه مثقوبٌ، ولم يكن ذلك إلا عُطْلاً صغيرا، أصلحتُه بشكل مؤقت يسمح للرجل أن يوصل سيارته إلى أقرب ميكانيكي. تنفَّسَ الرجل الصعداء، وأشار إلي بيده مُحَيِّياً شاكرا وانصرف، وأكملتُ بدوري السير إلى بيتي جَذِلاً مسرورا أنْ خففت على مكروب كربته.
مَرَّ شهرٌ على تلك الحادثةِ، حين تم توقيفي في نفس المكان تقريبا لأجلِ مراقبة روتينية، كذلك قال لي صاحب البذلة الزرقاء بعد التحية الرسمية. بدأ بالأوراق، كانت كلها مضبوطة؛ ثم طلب مني الدَّوس على الفرامل ليراقب أضواءها، كانت مضاءة بشكل جيد؛ راقب كل شيء، لكنه لم يجد أي مخالفة، ومع ذلك كان مُصِرّاً على أن يتهمني بشيء، وهكذا أخبرني أنني تجاوزتُ شاحنةً تجاوزا معيبا قبل كيلومترين من الحاجز. طالبته أن يريني صور تلبسي بالجرم، فأبي قائلا: “لستَ أنت من يعلمنا عملنا”، ومَدَّ رخصة سياقتي والبطاقة الرمادية إلى مسؤوله الأكبر من أجل تحرير مخالفة. ترجلتُ من سيارتي وتوجهت نحوهما، وكم كانت دهشتي كبيرة، لقد كنتُ وجها لوجه مع الرجلِ الذي أصلحت سيارته المعطلة قبل شهر.
– “أهلا صديقي”، خاطبته متلطفا؛
– “لست صديقَ أحد”؛
– “ألا تذكرني”؟
رفع رأسه نحوي قليلا ورمقَنِي بسرعة من لا يرغب أن يتذكر شيئا، وقال لي: “لا أعرفك، ولم يسبق لي أن رأيتك”؛ ذكًّرْتُه بعُطل سيارته الأوبيل الحمراء وبتدخلي لإسعافها قبل شهر، فرفع رأسه إِلَيَّ، وقال لي بكل برود: “لم يسبق أن تعطلتْ سيارتي، ولم يسبق لأحد أن ساعدني، هات ثلاثمائة درهم، وخذْ أوراقك وانصرف”.
حَزَّ في نفسي نكرانُ الرجل للجميل أولا، ومعاقبتي على مخالفةٍ لم أرتكبها ثانيا، ففار الدم في عروقي؛ ولما هممت بالانصرافِ خطرتْ لي خاطرةٌ عجيبةٌ غريبةٌ، قررتُ أن ألبي نداءها وأتحمل تبعاتها. تناولتُ وثائقَ سيارتي، وأدرتُ المحرك، وبخفة ومهارة ركنتُها أمام سيارتهم، أغلقتُ أبوابها، وترجلت منها، مشيتُ ووقفتُ بجانبهما على بُعد بِضع خطوات. تعجبا من وقوفي وقد أديتُ الغرامة واستعدتُ الوثائق، قال لي أحدهما: “هيا انصرف”، قلت له: “يحيى لا ينصرفُ، سيارتي موقَفَةٌ بشكل سليم ولا تعرقلُ السير، وليس هناك قانون يمنعني من الوقوف في هذا المكان من بلادنا السعيدة بأهلها وخيراتها، الشقيةِ بظلمكم وصَلَفِكم…”.
كانت الشاحنات الطويلة الثقيلة تَمر من تلك النقطة في اتجاه شرق البلاد، وكانت تُمطر أوراقا نقدية من فئة عشرين درهما، يلقيها السائقون بعد أن يضغطوها حتى تصير مثل الأوراق التي ترمى في القمامة. على ذلك حصل التفاهم بين الطرفين، كي تقع على الأرض ولا تهوي بها الريح في مكان سحيق أولا، وخوفا من أن يُضبط أحد بجرم الارتشاء ثانيا؛ وبعد مرور الشاحنات يتم التقاط تلك الأوراق وإصلاح حالها. وكنتُ كلما سقطت ورقة هرولتُ والتقطتها ودسستها في جيبي وصاحباي يراقبان ما يحصل في ذُهول. جمعتُ كثيرا من الأوراق النقدية المُكورة، ولا يضير الورقة النقدية شكلُها ولا خدوشٌ تصيبها، فذلك لا ينقص من قدرها. لم يبقيا متفرجين طويلا، بل انضما إلى الركض والهرولة، وهكذا كنا نركض ثلاثتنا ونتسابق للظفر بتلك الأوراق المتساقطة، أظفرُ بها مرة ويسبقانِني إليها أخرى، ولم يمر وقت طويلٌ حتى التقطتُ مائتين وستين درهما، كانتْ خراجَ ثلاث عشرة شاحنة.
غضِب الرجلان، فجمعا عُدَّتَهما وانصرفا، وعدتُ أنا إلى سيارتي، شَغَّلْتُ المذياع، ويا لها من مصادفة، كان برنامجُ محمد عمورة “حضي راسك” أي انتبه لنفسك، يُبًثُّ على أمواج الإذاعة، فكرتُ في مهاتفة البرنامج لأشارك بقصة الشاحنات التي تُمطر أوراقا نقدية، لكني لم أفعلْ. بقيتُ في السيارة بعض الوقت، أستمع للكثير من قصص النصب والاحتيال. أنبأني حَدْسي، ونادرا ما يخطئ، أنهم أقاموا حاجزا جديدا على بُعْدِ سبعة أميال. أدرتُ المحرك، وتوكلتُ على الله، ومن بعيدٍ رأيتُ شبحاً فخفضتُ السرعة، وما إن اقتربتُ حتى رأيت الحاجز من جديد.
– صباح الخير آ الشاف…
– إن لم تنصرف هذه المرة، سترى ما لا يُرضيك،
– يحيى لا ينصرف قبل أن يستعيد ما سُلِب منه. ثُمَّ ماذا أنتم فاعلون بي مثلا؟ وعَلامَ ستحاسبونني؟ على جمعي لنقودٍ تمطرها شاحنات؟ لا يوجد في القانون الجنائي تكييف لهذه التهمة. اعتقلوني إن شئتم، أو نادوا على من هو أعلى منكم رتبة. وَاللهِ لن أنصرف قبل أن أستكمل الثلاثمائة درهم التي سلبتموها مني ظلما وعدوانا؛ لم يتبقَّ الكثير على كل حال، شاحنتان أو ثلاثٌ وينتهي الموضوع، أو هاتوا لي أربعين درهما وأريحوا واستريحوا…
كنتُ أًعلم أنه ما في كل مرة تسلمُ الجرة، لكني بدأت هذه اللُّعبةَ، ويجب أن أنهيها، وليكنْ ما يكون. لم أتأخر كثيرا، وتمكنتُ دون مضايقة هذه المرة من التقاط ورقتين من فئة عشرين درهما. أخرجتُ تلك الأوراق، ووضعتُها مصفوفة واحدة على الأخرى، وبدأت أعُدُّها متعمداً إسماعهما: عشرون، أربعون، ستون… ثلاثمائة”، دسستها في جيبي وألقيت تحية الوداع: ” نهاركوم مبروك الشاف، الله المعين”، ثم انصرفتُ أخيرا، وأنا لا أصدق الذي صنعتُه، كما لا أصدق تحملهما لي ولتصرفي. المهم أنني انصرفت أخيرا ونقودي في جيبي طاويا صفحة ظلمٍ تعرضتُ لهُ بطريقة لم تَدُرْ يوما بخَلَدٍ، ولا خطرت قَطُّ على بال.
قصة رائعة تشفي الغليل.
بوركت سيدي وحفظ الله يحيى من كل ذي شر.
قصة ماتعة وممتعة
لعل من يتعرض الابتزاز اصحاب البدلات الزرقاء يأخذ العبرة
قصة ممتعة وددت لو لم تنتهي .حياك الله وحفظك بحفظك
دروس وعبر يلزمها الكثير من الشجاعة والترجل