اعتناء بني مرين بساعات الوقت المائية| الرعاية الاجتماعية في عهد بني مرين
الدكتور عبد اللطيف بن رحو
اعتناء بني مرين بساعات الوقت المائية| الرعاية الاجتماعية في عهد بني مرين
الدكتور عبد اللطيف بن رحو
يمكنكم تحميل كتاب العمل الاجتماعي في عهد الدولة المرينية (1244 – 1465م) من الرابط التالي
المبحث الثالث عشر: ساعات الوقت المائية
لقد كان المغاربة كمسلمين متشبثين بالعقيدة يتحمسون لكل ما من شأنه أن يضمن لهم أداء العبادات في أوقاتها المضبوطة. إن اليوم يحتوي على خمس مواقيت للصلاة، ولا بد لكي يحقق المسلم ما يصبو إليه أن يؤدي فريضته في الوقت المعين. ومن هنا فتح باب الاجتهاد على مصراعيه للذين يتوسلون للوصول إلى معرفة الأوقات سواء بالساعات الرملية أو الساعات الشمسية أو الساعات المائية.
لذلك وجه المرينيون عناية خاصة لانتظام الساعات وآلات التوقيت لضبط أوقات الصلاة وإعلام الناس مواقيت اليوم لسير الحياة العامة فخصصوا (دويرة) للمؤقتين تتصل بصومعة القرويين لضبط عملهم.
والدويرة كما سماها الدكتور عبد الهادي التازي بالغريفة متحف علمي وثائقي يفوق التصور، ومما يزيد في قيمتها ومكانتها أنها إلى الآن لم تدرس كما يجب الدرس، لأنها ظلت بمنأى من عيون الباحثين والمنقبين حتى في الفترات التي تعرضت فيها القرويين لأعمال الترميم الكبرى. وإن في إبراز ما أثار انتباه الدكتور عبد الهادي التازي لهذه الغرفة ما فيها إلى الآن من آثار ساعة مائية فريدة التركيب.
ويبدو أن العلماء المؤقتين في العهد المريني استطاعوا إنشاء ساعات مائية ليهتدوا بها في أوقات الصلاة والحياة اليومية، وكان إنجاز هذه الساعة بمثابة مبرة اجتماعية، ساعدت إلى حد ما إلى ضبط الحياة الخاصة والعامة، وتنظيم العلاقات الاجتماعية اليومية.
ومن أقدم الساعات التي عرفها التاريخ بالمغرب، ساعات عصر الأدارسة وزناتة، وقد ظلت على حالها بقبة الصومعة بجانب القرويين تلك القبة التي شيدها الأمير أحمد بن أبي بكر الزناتي سنة 345ه إلى أن شهدت مولد ابتكار جديد في صدر الدولة المرينية.
المطلب الأول: ساعة ابن الحباك سنة685ه
ترجع ساعة المعدل أبي عبد الله محمد بن الحباك للأيام التي تولى فيها قضاء فاس الفقيه الخطيب أبو عبد الله محمد بن أبي الصبر أيوب بن كنون، فقد اقترح القاضي المذكور على المعدل المذكور نصب ساعة مائية تعرف الناس أوقات النهار والليل، سواء في الأيام المشمسة والغائمة. وهكذا الساعات الشمسية والرملية، لم تعد كافية، ولاسيما بعدما وصل من أخبار عن الساعة المائية للمدرسة المستنصرية ببغداد. فبرهن ابن الحباك على مقدرته العلمية عندما نصب محراب مدرسة الصفارين على أحسن وجه، ولهذا لبى ابن الحباك رغبة القاضي وصنع صحنا من فخار بالقبة العليا، المنار الثاني من الصومعة وملأه بالماء، وجعل على وجه الماء مجرى من نحاس ذا خطوط وثقاب، يخرج الماء من ذلك المجرى بقدر معلوم إلى أن يصل إلى الخطوط المرسومة على مختلف ساعات الليل والنهار، فتعرف بذلك الأوقات كلها.
وما يؤكد هذا القول ما رواه الجزنائي في كتابه زهرة الآس فقال: «ولم تزل كذلك إلى أن ولي القضاء الفقيه الخطيب محمد بن أبي الصبر أيوب بن يكنول، فعمل في أيامه المعدل محمد ابن الحباك بدنا من فخار بالقبة العليا وفيه الماء، وجعل على وجه الماء طنجيرا من نحاس فيه خطوط فتعلم بذلك أيضا أوقات الليل والنهار في أيام الغيم ولياليها.»
ومما تمتاز به تلك الساعة عن الساعات المائية التي سبقتها، بأنها كانت أصغر حجما، وأبسط تركيبا، بحيث إنها كانت- بالنسبة إلى الساعات العصرية- كما لو كانت ساعة يد إذ كان في المستطاع نقلها من جهة إلى أخرى.
المطلب الثاني: ساعة محمد بن عبد الله الصنهاجي سنة717ه/1317م
أحدثت هذه الساعة سنة 717ه على يد أبي عبد الله محمد بن عبد الله الصنهاجي، ورسم هندستها، أبو عبد الله محمد بن الصدينية القرطسوني. وصنعت الساعة المائية بالغرفة أيام السلطان أبي سعيد عثمان المريني.
وتم إنشاء الساعة داخل الغرفة المطلة على باب الصومعة (الزناتية)، والغرفة كانت قد بنيت سنة 685ه وهي السنة التي تتناسب زمن وفاة السلطان يعقوب بن عبد الحق.
غير أن الدكتور عبد الهادي التازي سماها بالغريفة ويؤرخها بعام 688ه وقوله إنها عوضت القبلة العليا التي لا تفي بالحاجة، وتعرف إلى الآن بالغريفة على طريق التصغير.
فهذه الساعة الأولى التي عرفتها الغريفة والتي تضافرت الجهود من المعدلين والموقتين، واحتلت مكانا بارزا من وصف الجزنائي في جنى زهرة الآس.
وجاء وصف الجزنائي على النحو التالي: «أما المنجاة التي صنعت بهذه الغرفة لمعرفة الأوقات فإن الشيخ المعدل محمد بن عبد الله الصنهاجي النطاع أحدثها هناك، ورسمها له محمد بن الصدينية القرطسوني، وتطوع بعض المسلمين بالإنفاق فيها سنة سبع عشرة وسبعمائة. وذلك أنه جعل في ركن الغرفة عن يسار المستقبل جبحا من خشب الأرز، وجعل في داخله بدنين كبيرين من فخار أحدهما أعلى من الآخر، وجعل الماء في الأعلى منهما، وبأسفله أنبوب من نحاس مموه بالذهب محكم العمل يهبط منه في البدن الأسفل بقدر معلوم، وجعل الجبح مفطسا، ورسم بجانبي التفطيسة بروج الأفلاك والأشهر العجمية والساعات ودقائقها، وجعل في الوسط مسطرة رسم فيها أيضا ساعات ودقائقها وأوقات الليل والنهار وجعل المسطرة معلقة في خارج من الجبح يجري في حفر التفطيسة المذكورة طالعا وهابطا، وجعل على وجه الماء الذي يجتمع في البدن الأسفل طلع طرف الغلور الخارج من التفطيسة، وطلعت بطلوعه المسطرة، وكلما طلعت بطول الأزمان ظهر فيها الوقت المطلوب، فإذا تم النهار والليلة المقبلة له رد الماء من البدن الأسفل للبدن الأعلى، وعلق المسطرة كما كانت.»
غير أن الساعة تعرضت للإهمال، لعدم صيانتها والنظر في شؤونها، إلى أن تقدم النظر في التوقيت وشؤون الآذان أبو عبد الله بن العربي سنة747ه، فقام هذا الشيخ بتجديد الساعة على وجه متقن يفوق الترتيب الأول.
وقد تطوع بعض المؤمنين بالإنفاق على المشروع من مالهم الخاص.
المطلب الثالث: ساعة الأسطرلاب لابن العربي سنة747ه/1346م
منذ أن عهد بالنظر في الأوقات والرعاية للمؤذنين إلى أبي عبد الله محمد بن محمد بن العربي، قام بتحديث المنجانة، في صدر حكم السلطان المتوكل أبي عنان المريني.
حيث فكر أن ينصب على الواجهة الشمالية لذلك المجن شبكة أسطرلاب، ومتى طلعت المسطرة المذكورة تعرف أوقات الليل والنهار بتحريك خيوط الأسطرلاب ورسومه، وهكذا ربط بحكمته وابتكاره بين الأسطرلاب والساعة المائية. وتؤطر دائرة الأسطرلاب أربع صفائح تكون مربعا، طول الصفيحة 71 سنتيما وعرضها لا يتجاوز خمسة سانتيمات، كل واحدة تثبت بخمسة مسامير. وكتب على الأسطرلاب جميع شهور السنة من شهر يناير إلى شهر دجنبر وكذلك أسماء الأبراج الإثني عشرة. ورسم وسط الأسطرلاب البعد في الشمال عن خط الاستواء وخطوط الساعات من الأولى إلى الإثني عشرة. وكان الأسطرلاب يتصل بساعة الصنهاجي بلولب مركزي يربط بينه وبينها.
وقد ذاع صيت الساعة وشاع وسط المدينة، وكان هذا مدعاة دون شك تشجيعا من السلطان أبي عنان الذي صعد الصومعة لأول مرة، ووقف على الساعة المذكورة وما اتصل بها وقد استحسن ذلك، وأنعم على الناظر فيه بمرتب وسَّع عليه فيه، ليستعين بذلك على التفرغ للعلم. مما دفع بالسلطان أبي عنان إلى التفكير في إنشاء ساعة مائية كبرى في أحد شوارع فاس العامة بجوار مدرسته العظيمة لتكون خدمة اجتماعية.
يقول الجزنائي: «ولقد صعد مولانا المتوكل أبو عنان رحمه الله الصومعة ليعتبر في المدينة وترتيبها، ووقف على المنجانة وما اتصل بها فاستحسنه وأنعم على الناظر فيه بمرتب ووسع فيه ليستعين به على القيام بشعائر الإسلام وذلك في سنة 749ه. وأمر نَظرَ الله ووجهه بأثر ذلك أن يجعل بأعلى الصومعة المذكورة صارٍ وينشر فيه علم أبيض في أوقات صلاة النهار وفنار فيه سراج زاهر لأوقات صلات الليل ليستدل بذلك من بعد عن المدينة ولم يسمع النداء، وفي ذلك اعتناء بأمور الأوقات وبما يتعلق بها من وجوب الصلوات، ويتركب عليها من الحقوق في وجوه شتى من العادات والعبادات.»
ونظم الفقيه محمد بن عبد الرحمان نظما يسر الوغى فقال:
سر فاس لفارس قد بدا في
وضع إدريس بالمنار حسامه
فهم الغز للنــــــــــــــــــداء فأورى
ناره معلما وشال علامــــــــــــــــــه
وقال الشاعر عبد الواحد الزيتوني:
رفع الفنار أبو عنــــان فارس
أعلى المنار وزاد فيه علامـــــــــــا
شهر الآذان بذلك شهرة رافع
لظهور دين الله فيه حسامـــــــا
المطلب الرابع: ساعة المدرسة البوعنانية
نقل السلطان أبو عنان فكرة إنشاء الساعات وآلات التوقيت خارج المساجد والمدارس، وقد أسلفنا أن المدرسة البوعنانية قد تميزت منفردة باشتمالها على منبر وصومعة كمسجد ومدرسة ثم ها هي تتميز بوجود المنجانة خارجها.
يقول الدكتور عبد الهادي التازي: «مما حمله على التفكير في إنشاء ساعة مائية كبرى في أحد الشوارع العامة بجوار مدرسته العظيمة.»
ويتحدث الجزنائي عن الساعة ويصفها وصفا دقيقا ويقول: «وقد صنع مولانا المتوكل أبو عنان رحمه الله منجانة بطيقان وطسوس من نحاس مقابلة لباب مدرسته الجديدة التي أحدثها بسوق القصر من فاس، وجعل شعار كل ساعة أن تسقط صنجة في طاس وتنفتح طاق، وذلك في أيام آخرها الرابع عشر لجمادى الأولى عام 758ه على يد مؤقته علي بن أحمد التلمساني المعدل.»
وقد تعاطف الأدباء والشعراء مع الساعة المائية الكبرى، بإبراز جماليتها وكيفية اشتغالها بعبارات شعرية ولوحة فنية رائعة الذوق والحس. ومما جاء في مدح الساعة ما يلي:
روح من الماء في جسم من الصفر
مولد بلطيف الحسن والنـــــــظــــــــــــــــــر
مستعبر لم يغب عن عينه سكـــــــــــــن
ولم يبث من ذوي ضغن على حذر
وفي أعاليه حسبان يفضلــــــــــــــــــــــــــــــــــــــه
للناظـــــرين بلا ذهـــــن ولا فـــــكر
إذا بكى دار في أحشائه فلـــــــــــــــــــك
خاف المسير، وإن لم يبك لم يدر
مترجم عن مواقيت يخبرنــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا
بها، فيوجد فيها صادق الخبر
تقضي بها الخمس في وقت الوجوب
وإن غطى على الشمس ستر الغيم والمطر
وإن سهرت لأوقات تؤرقـــــــــــــــــــــــــــــــــــني
عرفت مقدار وقت السهد والسهر
مجدد کل میقــــــــــــــات تخيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــره
نور التميز للأسفار والحضر
ومخرج لك بالأجزاء ألطفهــــــــــــــــــــــــــــــــــا
من النهار وقوت الليل والسحر
نتيجة العلم والأفكــــــــــــــــــــــــــــار صــــوره
يا حبذا بدع الأفكار في الصور
والخروج بفكرة الساعات إلى المدارس وغيرها من المنشآت العامة لتظهر للناس قد عرفت تطورا ملحوظا أواخر الدولة المرينية، وصدر الدولة الوطاسية، إذ يستنتج الدكتور عبد الهادي التازي وجود ساعة مائية ببداية سوق الشماعين من جهة القرويين بالزنقة المعروفة بدرب المنجانة، فقد جرى ذكرها على لسان الناس فلعلها نصبت في ذلك المكان منجانة على غرار منجانة أبي عنان بالطالعة.
وكانت تحتوي على ثلاث عشرة طاسة، موضوعة على سنادات من خشب الأرز، وثمة اثنتا عشرة نافذة صغيرة تقع فوق هذه الطاسات، وهذه السندات مجوفة فهي بمثابة أنابيب تمر منها الطنجات الصغيرة التي تقع على الطاسات، ويكون من نتيجة ذلك أن تسقط الكرة على الطاسة، فتحدث رنة، وتكون إشارة إلى بداية كل ساعة من ساعات النهار. ونظام وقوع الطنجات على الطاسات هو نفسه الذي نقرأ عنه عند تتبعنا للحديث عن الساعات المائية التي كانت معروفة في العصر الوسيط سواء فيها الذي تحدث عنه بالمغرب أو المشرق، مثل ساعة جامع الكتبية بمدينة مراكش، التي ذكرها العمري في مسالك الأبصار وساعة دمشق التي تحدث عنها ابن جبير وغيرها.
المطلب الخامس: ساعة عبد الرحمان بن سليمان اللجائي سنة 763ه/1361م
صنع أبو زيد عبد الرحمان بن سليمان اللجائي ساعة مائية لطيفة في 21 محرم سنة 763ه الموافق ل 20 نونبر 1361م بأمر من السلطان أبي سالم إبراهيم بن السلطان أبي الحسن. ويتلاءم تصميمها مع كثير من التصميمات الساعاتية التي وصفت في المؤلف الطريف الذي كتبه المعدل الجزري.
ويمكن القول إن الساعات المائية قامت بدور اجتماعي باعتبارها أداة لمعرفة الوقت بصفة عامة، ومعرفة أوقات الصلاة بصفة خاصة، خصوصا إذا كان الغيم والمطر، والذي يصعب فيه تحديد الوقت، فكان لصناعة الساعة المائية مخرج من الصعوبات التي كانت تواجه في فترة حكم الدولة المرينية.
المطلب السادس: ساعة مائية في الشارع العام
من خلال تتبع الحديث في مختلف الحوالات الوقفية القديمة، وبخاصة التي تعود إلى أواخر دولة بني مرين ودولة الوطاسيين، يستطيع المرء أن يستنتج أنه كانت هناك ساعة مائية في بداية سوق الشماعين من جهة القرويين، في أعلى المسافة التي تفصل بين درب الفحل والزنقة التي تليها إلى سوق القيسارية، وكانت تعرف باسم زنقة السعاة. فعلى غرار منجانة التلمساني الذي أمر السلطان أبو عنان بنصبها في الشارع العام من الطالعة قبالة باب المدرسة البوعنانية، نصبت ساعة هناك مماثلة.
ويتحدث الدكتور عبد الهادي التازي على أن أحد الخبراء في تاريخ مدينة فاس كان تحدث إلى الأستاذ بيل «bel»عن ساعة مدفونة في جدار قرب برج القرويين فهل الأمر يتعلق بمنجانة زائدة على المنجانة المعروفة بالغريفة؟ لأن كتب التاريخ تظل صامتة حول الموضوع إذا استثنينا حجج الوقف القديمة، وإن الذي يعرف الظروف التي عاشتها مدينة فاس إبان انتقال الحكم من بني وطاس إلى السعديين، لا يستبعد مثل هذا الصمت، ومع ذلك ما تزال بنا حاجة إلى المزيد من الوثائق التي تثبت أو تنفي وجود ساعة مائية في هذه الجهة.